الموت ظاهرة مخلوقة كالحياة، لها مظهر من الوجود لا هي عدم مطلق ولا فناء محض، لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:1-2].
وأنواع الموت بحسب أنواع الحياة في القرآن الكريم هي خمسة: 1- {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11] موت متعلق بالقوة النامية الموجودة في كل ما هو حي. 2- {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ} [مريم: 66 ] في زوال القوة الحساسة. 3- {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] في زوال القوة العاقلة وهي الجهالة. 4- {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] موت بمعنى الحزن المكدر للحياة. 5- {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر: 42]، فالنوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل ولذلك سماه الله توفياً.
الموت في جوهره حياة لقوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]، لكن ما دام الإنسان حياً في الدنيا فإنه يموت بعضه بعضاً، جزء فجزء إلى أن ينتهي إلى حياة الخلود.
صحيح أنه لا سبيل إلى إدراك الموت وجودياً ولا معرفياً، حتى أعتى الفلاسفة لم يستطيعوا فك شفرة هذا اللغز الملغز، إلا أننا سنحاول هنا محاولة متواضعة لقراءة الموت في ظل ما تمر به بلاد الثورات العربية، والثورة السورية خاصة.
الثورة السورية (والثورات بشكل عام) بطبيعتها الحركية السريعة صالحت الإنسان مع فكرة الموت وجدانياً وعقلياً، حين دفعته الثورة إلى إعادة التفكير في كل ما هو قائم وقياسه على ما يجب أن يكون، وحثته على التفكير بمكانته في العالم وماهيته من خلال الإشكاليتين الكبيرتين: الوجود والموت؛ في إعادة لاكتشاف الموت نفسه وفلسفته. وما هذا التفكير وديناميكيته إلا إحياءٌ لفكر جديد، وخلقٌ لمعنى متجدد للحياة يتفاعل مع مجريات الواقع بأحداثه الجسام لتغيير الحياة إلى الأفضل ولإرساء قيم أخلاقية مثلى. الثورةُ كالموتِ؛ هي جسرٌ أو محطةٌ تنقلنا من حياةٍ ميتةٍ أو شبه ميتة إلى أخرى فاعلة حية.
في ظاهره حياة وفي باطنه موت
تبنت أغلب الأنظمة العربية الفاجرة سياسة الموت، فأماتت الأنفس والأجساد (حقيقةً ومجازاً)، وشوهت كل ما يتعلق بأسباب وجود الإنسان على الأرض وقيمته ومعناه. ولأن التشوهات طالت منظومة فكرنا وقيمنا فإن لحقيقة الموت وكيفية النظر إليه نصيبها من التشوه. كنا نهاب الموت وننظر إليه وكأنه شيءٌ عرضي خارج وجودنا وحياتنا، وتعاملنا معه على أنه شرٌ مطلق، مع أننا كنا أمواتاً في فضاءِ منظومةٍ فكريةٍ مشوهةٍ روضت الأنفسَ على الضعف والهوان والذل، وجعلتها إلى الاستسلام والاستكانة إلى منظومة الفساد أقرب، وإلى اعتبار أن الأخذ بما هو جاهز من الخطابات الدينية المخدرة المسلّمة بمبدأ “لم يكن بالإمكان أفضل مما كان” أسلم وأسدد؛ فأُغتيلت الأفكار ودفن الإبداع وقُتل العقل وتاهت الروح، وغرق بعضنا في مستنقعات من مادية مستهلكة للأرواح والأفكار، وانصرف بعضنا الآخر عن رسالته ومسؤوليته في معركة الوعي، وضُحي بما تبقى منا على مذبح الفقر والتجهيل والتهميش، وبتنا كلنا نسبح في فرديةٍ انسحابيةٍ مقيتةٍ.
لطالما كان موتاً قسرياً خفياً يسري بيننا، في حياتنا اليومية الروتينية في بلد أشبه ما يكون بالميت، جثة لا نبض لها ولا روح تجول فيها، تسكنه أشباح مسيرة مكبة على وجهها كالأنعام بل أضل سبيلاً، موت في أبسط المظاهر المعيشية الكريمة… كنا سجناء (سواء في السجون الحقيقية أو في السجن الكبير=البلد) في بلد ماتت به الضمائر واُمتهنت فيه الكرامة ومُنعت عنه الحرية والإرادة ضمن منظومة فاسدة مفسدة، لا معنى لوجودنا ولا قيمة لما نفعله ولا سبيل إلى الإفاقة؛ في شمس كل يوم جديد ننتظر أن لا يطلع علينا فجرنا إلا ونحن في قبرنا لنعلن استقالتنا من الحياة القسرية بل الموت القسري الخفي. كل كائن حي في بلد الموت ذاك ذاق الموت من وجه ما؛ كنا نياماً ميتين، موتتنا الصغرى، إلى أن جاءت الثورة فانتبهنا!
تعدد الموت والضحية واحدة
ما أن أعلن السوريون صحوتهم واستفاقتهم من موتهم القسري حتى حُكم عليهم بالموت فوق موتهم. موتٌ مختلف الأنواع والألوان المادي منه والمعنوي؛ فمن موت في المظاهرات إلى موت في المعتقلات، وموت تحت قصف الصواريخ والقذائف، ونسف بالبراميل المتفجرة، وموت بالكيميائي والنابالم والفسفوري، وموت التجويع والاغتصاب والتركيع… وموت الهدن حتى طال الموت الفارين من الموت نفسه فماتوا غرقاً في محيطات وبحور ظنوا أن فيها ومنها النجاة والحياة.
وللموت لدى أجهزة الأمن السورية الميتة الوجدان والضمير طقوسها الخاصة الممنهجة في عملية بيروقراطية فريدة! حيث كانت توثق حالات التعذيب والموت بدم بارد؛ فالجثة تصل إلى المستشفى العسكري، ويتم إرسال أمر إلى الشرطة العسكرية، لكي ترسل أحد عناصرها ليصور الجثث، ثم يصدر أمر ثانٍ لنقل هذه الجثث ودفنها في مكان ما لم يحدد بعد. هذه الجثث كانت موجودة في مرآب المستشفى العسكري 601 في المزة، في قلب دمشق! حسب تقرير هيومن رايتس ووتش.
وخَبِر السوري في مسالخ المعتقلات الموت السريع والبطيء منه؛ فمن ينجو من الموت السريع الذي قد يأتيه خلال الأيام العشرة الأولى من الاعتقال والتعذيب اليومي يواجه الموت البطيء، الذي عادة يأتيه نتيجة الأمراض والتعذيب الشديد والإهمال الصحي أو الحرب النفسية.
تفننت الوحوش البشرية في سورية في اصطياد ضحاياها، ففي حمص وحدها “لم يتخيل الناجون من بين المعتصمين الهاربين من ساحة الحرية في حمص يوم 24-4-2011 أن النقاط الليزرية الحمراء، لمؤشرات بنادق صيادي الموت، في 46 موقع، التي تطاردهم على الأرصفة والجدران والسيارات وحتى داخل المنازل، ستصبح مقدمات لموت حَصَدَ العشرات أسبوعياً”.
خذلان الشعب السوري والتكالب عليه من قبل الشرق والغرب فتح أعيننا على حقيقة موت العالم الآخر وزيف الصورة التي ما فتئ يقدم نفسه فيها على أنه عالم ينادي بحرية الإنسان ويتبنى حقوق الإنسان؛ معلناً في موته موتاً سياسياً ووجدانياً وإنسانياً وأخلاقياً، تجسد هذا الموت في المؤتمرات السياسية وما يجري في كواليسها من مؤامرات واتفاقات وسعي حثيث لفرض سياسة لوي الأيدي والأعناق للتنازل عن قيم الثورة، وفي البيانات والتنديدات العاطفية الخالية من الإنسانية كون أغلبها لم يتجاوز الورقة نفسها التي دونت بها. وقد بلغ هذا الموت حد “تواطؤ بعض الهيئات التابعة للأمم المتحدة ضمناً مع النظام، عبر التهوين من الأزمة الإنسانية في مضايا في ريف دمشق مما حرمها من الاهتمام العالمي”. وليست مضايا وحدها عانت من التجويع والحصار، فمخيم اليرموك قبلها لازال في الذاكرة، في تطبيق لشكل جديد من أشكال الموت؛ التجويع حتى الموت، تحت مرأى العالم ومسمعه الذي مات في عيون السوريين!
المفارقة أن أصحاب شعارات الديمقراطية وتساوي حقوق الإنسان من العرب والعجم والغرب، والذين ما فتأوا يرفعون لواء الحروب المعنوية والفكرية والعسكرية والترويض السياسي باسم الديمقراطية ضد شعوب العالم الثالث، لم يدروا أن المبدأ الديمقراطي الوحيد الذي يعامل بني البشر المعاملة نفسها بالتساوي وبالعدل يكاد يكون متجسداً في ظاهرة الموت وحسب! قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185]، وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26].
في موتنا حياة وفي موتهم موات
للموت فلسفته الخاصة في الإسلام يكشف عنها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة في لحظة موته عندما قالت: “واكرب أبتاه”، فأجابها: “ليس على أبيك كرب بعد اليوم”، فالموت يضع نهايةً للكرب والهم والحزن والشقاء والألم، وينتهي معه البلاء الذي لا يمكن أن ينجو منه إنسان قط.
الموت وإن كان مصيبة لقوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106]، فهو نعمة في كونه السبب لنقل الإنسان من دار المتاع والنقائص والشقاء والسفر المضني إلى دار القرار والكمال والسعادة والاستقرار {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39]. موتنا يعني استمرار الإنسان وبقاءه في حياة أخرى؛ بله حياتنا الأولى، وهذا ما أدركه الكثير من السوريين وكل من دخل في معركة سواء أكانت فكرية أو وجودية مع أنظمة الفساد العربية.
حال السوريين اليوم ومنذ آذار 2011 امتثال وتسليم كامل لأمر الرسول الكريم حين أوصانا بأن نكثر من ذكر “هادم اللذات: الموت”.
أعادت الثورة اكتشافنا للموت من خلال حتميته، بعد أن نسينا أننا ميتون، وأنهم ميتون. الثورة صالحتنا مع فكرة الموت، عودتنا على أن نألفه ونتآلف معه! طالما أننا سنلقى الأحبة عند رب العالمين، بل وسننال عبره اليقين والخلود.
والمنعطف الكبير في صورتنا عن الموت في اكتشافنا أن مفارقة بعض الأرواح لأجسادها، هو عين انبعاث أرواح في بعض الأجساد الأُخر، أجساد وأرواح حملت قيم الثورة على عاتقها وبذلت فيها الرخيص والغالي. ناهيك عن أننا لما بلغنا ذروة الموت الأخلاقي أحتاج وجودنا وكرامته إلى تجاوزه وإعادة بناء صرحنا القيمي من جديد؛ فالثورة أعادت طريقة التفكير في الحياة ومنظومة القيم البالية التي خضعنا لها طويلاً من خلال الحضور اليومي القوي للموت، ورسمت خريطة كاملة لكل ما قيل وما سيُقال عن الموت وفلسفته!
الموت بمعنييه الأساسيين موتان إذن؛ موت مفارقة الروح الجسد، وموت مفارقة المعرفة والنور والعلم عقل الإنسان واستوطان الجهل والظلمات والأهواء، وكأن بالسوريين مع دخولهم عام الثورة دخلوا التاريخ بما يُعرف “الموت المؤنس” المقابل للموت المتوحش، ففي هذه النقلة التاريخية ابتدأ وعيهم بالموت، فجمعوا في أعوام الثورة تلك بين هذين الموتين؛ حين نزل بهم موت فارقت به الأرواح الأجساد وهو نفسه موت من أجل إحياء أمتنا الميتة وإخراجها من الجهل إلى النور، من الباطل والظلم إلى الحق والعدل، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].
وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ فَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ
وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ
ما خبره السوريون لم يكن أبداً موتاً عبثياً، ولا موتاً صوفياً فردياً يُميت فيه صاحبه جسده ليرتقي بروحه في عزلة وانعزال، هم حملوا الرسالة التي أبت السماوات والأرض والجبال حملها، وأعلنوها ثورة وانتفاضة على الاستبداد والفجور والفساد، وإن لم يدركوا في بادئ الأمر أنها ثورة على منظومة قيم ستتجاوز المحلي وتطال الإقليمي والعالمي، فأدوا الأمانة كل حسب قدرته واستطاعته. لن تموت جهودهم وكلماتهم ولن يفنى سعيهم، فالثائر والمجاهد (بالقول والعمل) والباحث عن الحق والحقيقة الساعي لبناء مجتمع الحق والعدل والكرامة جميعهم باقية آثارهم وإن ماتت أجساد أصحابها.
دعونا نتأمل الموت، على سبيل الخروج من تأملنا الاعتيادي للحياة والوجود!
ولندع البكاء والنحيب على أمواتنا ولنبكي على أنفسنا، إن نحن فرطنا هنيهة في قيم الثورة: الحق والعدل والكرامة، وخنا أرواحاً بُذلت لأجل إحياء أرواح أُخر، بل الأمة جمعاء.