استهلال
تعد الأحداث الجسام لثورة الشام[1]، والتي سيخلدها التاريخ الإنساني كحدث القرن دون منازع، المحرك والمرجع لبدء تخلخل ومن ثم انهيار المنظومة القيمية للنظام العالمي ككل. فكل ما حدث من قتل واغتصاب واعتقال وتعذيب وقصف يومي للمدن والقرى، وبراميل تدك الأبنية دكاً كل ساعة كزخ الرصاص، وأسلحة كيمياوية وأخرى محرمة دولياً…، كل ذلك لم يحرك نبضاً صادقاً مسؤولاً في قلوب من يسمون أنفسهم دعاة السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، وظهرت هشاشة منظومتهم القيمية تلك التي عجزت عن التمييز بين الحق والباطل، الخير والشر، والحسن والقبيح.
إلا أننا مع فجر كل يوم جديد من عمر الثورة كنا نقترب أكثر من الفهم والإدراك، حين بدأت عقولنا تستوعب تماماً ماهية النظام العالمي، وولجنا تقصياً وبحثاً، إلى أعماق قيمه القائم عليها، وبلغنا اليقين في معرفة ما وراء أروقة السياسيين والدبلوماسيين والمبعوثين الأمميين وما يُحاك من مبادرات واتفاقيات وتنازلات لاغتيال قيم الثورة[2]، أتت على تضحيات أناس ذنبهم الأكبر أنهم طالبوا بالكرامة والعدل، حتى بلغنا عين اليقين من أن ثورة الشام وانتفاضتها المباركة هي ثورة القيم التي كانت السبب الجوهري الكامن وراء انبعاث النفوس من جديد؛ انبعاث سيغدو كأثر الفراشة سرعان ما ستتسع حلقاته وتكبر حتى تطال شعوباً وقبائل في سعيها لشغف المعرفة في قلب معركة الوجود؛ معرفة الحق والطيب وتميزه عن الباطل والخبيث، وجعل هذه المعرفة منهجاً حيّاً عملياً لتفعيل خلافة الإنسان بما هو إنسان على الأرض.
بحثي هذا أقدمه كمدخل لتشجيع الباحثين على الولوج والتوسع أكثر في المجال القيمي والسؤال الأخلاقي لثورة الشام، منطلقة من فرضية مفادها أن أي تحديد للثورة اسماً ورسماً وتحقيقاً، لا مناص من غوصه في عمق القيم المحيطة بالثورة والتي قامت للنيل منها، بأشكالها كافة؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية لغربلتها ونبذ الفاسدة منها، أو هدمها وإعادة إحياء القيم المثلى التي شُوهت وغُيبت واُغتيلت، والتحذير من الوقوع في إعادة تمثل القيم التي قامت الثورة ضدها، لأي سبب كان وتحت أي غطاء أو مبرر.
في ضوء ذلك سيتناول بحثي السؤال القيمي وفق منهج تحليلي وصفي بأدوات فلسفية واجتماعية وسياسية، وفي خلفيته سأحتفظ بالبعدين الآتيين: 1. قراءة للأبعاد القيمية والأخلاقية للثورة الإنسانية، ولثورة كل إنسان. 2. فساد المنظومة القيمية في سورية ما قبل ثورة مارس/آذار 2011 وثقل ظلالها على الثورة.
التأسيس النظري لمبحث القيم
تأتي أهمية مبحث القيم كواحد من مباحث الفكر الإنساني في إدراجه ضمن مبحث الأخلاق، حيث يأتي كمبحث أخير من سلم المباحث النظرية الطبيعية والميتافيزيقية والمنطقية…، باعتباره جزءاً من العملية السلوكية ونوعاً من أنواع القواعد الاجتماعية التي ترعى مصالح الناس، وتقوم بمهمة تقويم أعمالهم وسلوكهم وفقاً لها إن كانت عادلة أو ظالمة، صحيحة أو خاطئة. القيم هي الطابع الخاص للوجود الإنساني؛ فهي خُلقٌ ومُثل سامية نسعى إلى ترجمتها عملياً. القيم إذن هي دوافع محركة لسلوكنا. ومن الضرورة بمكان التذكير بأنه لا يُقصد بالقيم دوماً السامية والنبيلة منها، بل هناك قيم سلبية بل ومنحدرة وفاسدة تدفع أيضاً بسلوك ما وفقاً لهذه القيمة أو تلك؛ كحب السلطة والتملك وما يتبعهما من سلوكيات وغيرها من الشهوات.
إن العلاقة بين “القيم” كمصطلح وبين المثل الاجتماعية أو الفضائل الأخلاقية حديثة العهد في الفكر العربي الإسلامي، فقد كانت القيمة مرتبطة بمعناها الاقتصادي والتي هي مرادفة للثمن؛ ذلك أن قيمة أي شيء: ثمنه وما يُقدّر به، واليوم يمكن أن نسحب هذا التعريف على السلوك الإنساني؛ فثمن قيمة أي سلوك يحدده رضا الآخرين عن هذا السلوك أو سخطهم منه.
إلا أننا نجد في الإسلام أنه حفظ حقوق الإنسان كاملة غير منقوصة، وفي مقدمتها حق الحياة وحق الحفاظ على الدين والمعتقد وحق الملكية وحق التعليم والعمل، وحق التعبير عن الرأي في حدود الدين وغيرها… حيث وضع الله سبحانه وتعالى بين أيدينا الأدوات والوسائل والمنهج الأخلاقي المتكامل لتحقيق قيمتي القسط والكرامة. كما أن الشريعة الإسلامية[3] تحوي وصايا وحكماً أخلاقية هي بحد ذاتها قيم مرشدة تبين للناس سبيلهم سواء كانت قيمة اجتماعية أو اقتصادية أو جمالية… والمعروفة بـ”الكليات العامة” وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، تكمل بعضها بعضاً للوصول إلى قيمة مطلقة، قيمة المصلحة؛ أي ما يصلح به حال الناس، فتحافظ على مصلحتهم ومصالحهم في عالمي الشهادة والغيب كليهما، وترفع الضرر عنهم وتحصل حقوقهم وتنظم الحياة الاجتماعية وتصونها، ضمن مبدأ كليّ ضابط لها ألا وهو مبدأ القسط/ العدل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (النساء:135). وهذه الكليات العامة هي نفسها “قيم إنسانية” و”حقوق إنسان” و “قواعد أخلاقية” المعروفة بـ”مقاصد الشريعة” تتجاوز نيل الخير الدنيوي الآني إلى الخير الآخروي الخالد، دون إهمال الدنيوي منه، والتي عُطلت زمن الاستبداد، وبمباركة من علماء بلاط السلاطين وفقهائهم، فأُفسد في الدين، واُستبيحت الأنفس، وغُيبت العقول وتم تجهيلها، واُنتهكت الحرمات والأعراض، ونُهب مال العباد والبلاد واُستمرأت الرشاوى والمال الحرام.
تُعرف القيم –إذن كما قلت أعلاه- بأنها تلك المحددات السلوكية والخلقية والمعايير والضوابط الاجتماعية والمثل أو الغايات العليا المستمدة من الشريعة (الدينية كانت أو الوضعية) التي تنظم حياة الفرد وسلوكه وعلاقته مع الآخر ومع الكون، تنظيماً خيراً في كل زمان ومكان ليحقق وجوده تحقيقاً أقرب إلى الكمال. وتشكل القيم الإنسانية قاسماً جماعياً مشتركاً يوحد الاختلاف ويجمعه؛ فهي الإطار العام الجامع للمشاعر الإنسانية وسلوكها داخل مجموعة اجتماعية معينة.
في معركتنا الوجودية أول ما يطرح المرء على نفسه أسئلة كبيرة ترافقه طالما هو باق في المعركة: كيف سأواجه العالم؟ ماذا سيكون موقفي اتجاهه؟ كيف سأتصرف؟ هل أبادر وأكون الفاعل أم أكتفي بردود الأفعال أم أنكفئ وأنزوي وانسحب؟ الإجابة عن هذه التساؤلات، وغيرها، تقع في مضمار القيم.
ويكاد يكون واقع المجتمعات الإنسانية وقيمه كلها في مواجهة مستمرة مع ما يعتريه هذا الواقع من انحدار واختلال في منظومته الأخلاقية، فينقسم الأفراد في سلوكهم حسب معركتهم الوجودية إما: إلى فاعلين في مواجهة هذا الانحدار وما لحق بالقيم المثلى من تشوهات، أو إلى منفعلين تبتلعهم المنظومة في وحول مستنقعها ويصبحون حاملين لتلك القيم، ناقلين مخلصين لها، أدركوا ذلك أم لم يدركوا.
ما سأعرضه هنا هو مفهوم القيمة في مجاله الفلسفي، والذي هو، كما يخبرنا طه عبد الرحمن “المعنى المثالي الذي يستحق أن يتطلع إليه المرء بكليته ويجتهد في الإتيان بأفعاله على مقتضاه”، وبهذا المعنى يمكن أن نستخدم محل القيمة لفظ “المثال” أو “المثال الأعلى”. ومن المُثُل: الخير والحق والجمال عند المتقدمين، والحرية والمساواة والعدل عند المتأخرين[4].
تاريخ الفكر الإنساني يكاد يُجمع إذن على الأخذ بثلاثية القيم المطلقة أو المثالية، وهي: قيمة الحق (مستوى عقلي)، وقيمة الخير (مستوى أخلاقي) وقيمة الجمال (مستوى فني)، وتندرج هذه القيم تحت القيم المعنوية التي تمثل غاية الطموح الإنساني في مجتمعه ومنتهى سعادته ورضاه. فهي مطلقة لأنها غاية بذاتها، صفتها الثبات، متعالية على تغير المراحل التاريخية، بعيدة عن نسبية الحوادث الواقعية. القيم المطلقة تختلف عن القيم العرضية (أو المتغيرة) لأن هذه الأخيرة مرتبطة بمدى قدرتها على تحقيق غاية ما. ويحدث الخلل في منظومة قيم مجتمع ما عندما يتم التعامل مع القيم المثالية على أنها عرضية، فتتحول إلى قيم نفعية تُتخذ وسيلة لغايات وأهواء من بيده السلطة والقوة؛ كقيمة الكرامة الإنسانية التي تلاعبت بها أنظمة الاستبداد والأنظمة الشمولية، والأنظمة التي تخلع على نفسها صفة الديمقراطية في تعاملها مع الإنسان الآخر وكرامته.
وحسب التقسيم الثنائي الكلاسيكي للفكر الإنساني إلى: التفكير الواقعي (الذي يرى الوجود من خلال المادة والحركة)، والتفكير المثالي (الذي يرى الوجود من خلال الروح التي تهدف إلى تحقيق القيم المثالية)، يُفسر الوجود وتُقرأ القيم من خلاله. وتنعكس القيم المطلقة أو المثالية على المادي/الواقعي فنستطيع عندها قياس سلوك الأفراد داخل الجماعات البشرية، فمن قيمة الحق تأتي قيمة الخير، ولأجل الحق يكون الخير، وعندما تترسخ الحقوق الإنسانية: الحق في الحرية، الحق في العدل، الحق في المساواة… وغيرها من القيم المطلقة التي تواضعت عليها كافة الأمم والشعوب وأدرجتها في تشريعاتها وقوانينها، يحصل عندئذٍ الخير ويعم المجتمعات الإنسانية.
القيمة الأخيرة من القيم المطلقة هي قيمة الجمال؛ الحقيقة المتعالية التي تصدر عنها حالة السعادة لدى الفرد والجماعات. إن تقدير قيمة الجمال عادة ما يأتي مقروناً بالخير؛ فالشيء الخيّر جميلاً، وفي عودتنا إلى قيمة الحق في الوصول إلى الخير، فإن غاية الجمال تحقيق الخير والسعادة، ومقصد الخير بلوغ السعادة، وهي صور الشعور بالجمال والإحساس به.
فساد منظومة القيم القائمة… تأسيس لثورة القيم
كل الأحداث التي مرّت بالمسلمين طوال القرن الماضي منذ سقوط الدولة العثمانية إلى جلاء جيوش الاستعمار الغربي عن أوطانهم المرسومة بأقلام الغرب، والتعاون السياسي والأمني مع الولايات المتحدة بمختلف أدوات هذا التعاون ووجوهه، كلها لم تجلب الحياة الحرة الكريمة إلى المنطقة العربية، بل استغلها المستبدون والقاسطون، وحكمتها بالحديد والنار أيديولوجية الحاكم المستبد، والحزب الواحد، والأقلية الواحدة، حتى غدت الأمة كقطيع مكب على وجهه، لا يملك من أمره إلا أن يقول سمعاً وطاعة.
تاريخياً، معظم الدول العربية الحديثة قامت على أساس صفقات سوداء بين قوى استعمارية في مطلع القرن 20 وبين ورثتهم ومندوبيهم من الحكام العرب، ما يعني خضوع هذه الدول لأنظمة عسكرية أمنية استبدادية أجنبية بالوكالة، وإن خرج المستعمر الأجنبي منها شكلياً.
وعليه، بدأت عامة الناس تدرك بالتدريج، زيف مصطلحات “الدولة الوطنية” و”الدولة القومية” و”الدولة العربية القطرية” وحقيقة مشروعيتها، التي جاءت كنماذج جاهزة للتطبيق من تجارب الشعوب الغربية، والمدعومة أصلاً من قوى النظام العالمي، واتضحت هشاشة رموز هذه الدولة بدءاً من نشيدها الوطني مروراً بالعلم الوطني، وليس انتهاءً بالحزب الحاكم ورئيس الدولة… فكل ذلك لم يكن سوى من صنع قوى الاستعمار والاحتلال منذ اتفاق سايكس وبيكو، وسيفر، وسان ريمون… وخدمة لهم. فإذا كان هذا هو أصل “الوطن” وهذا هو تاريخه، المتسم بالاجترار والتخاذل المتكرر والفشل، والمفضوح بتغييب الهوية الإسلامية وإحلال هوية المستعمر محلها بأشكال وأسماء مختلفة، كالقومية والوطنية والليبرالية والحداثوية وما بعد الحداثوية، فكيف للعربي المسلم الاعتزاز به أصلاً أو الفخر للانتماء له؟ هذه كانت الإشكالية التي وقع فيها ابن تلك البلاد، وظل يدور في رحاها كالدائخ المخدر المسطول إلى أن قامت الثورات العربية.
إذا كانت الدول العربية من صنع الغرب بعد اتفاقيات ومعاهدات ومؤامرات، فإن القيم السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية وحتى الدينية المؤسسة لمجتمعاتنا صُنعت على أعين الغرب وأجهزته الاستعمارية كذلك الأمر. ومثال على ذلك، المنظومة العسكرية والأمنية في سورية التي هي من صنع الاستعمار الفرنسي؛ الجيش والشرطة وشرطة الحدود والدرك وأجهزة المخابرات والمؤسسات القضائية ومصالح السجون بالإضافة إلى الهيئات المدنية التي تقوم بمراقبة كل هذه المؤسسات. وبينما كانت هذه الوظائف تنسب في الماضي إلى الدولة أصبحت اليوم توكل أكثر فأكثر للشركات الأمنية والعسكرية الخاصة[5]. هذا الجهاز الأمني الضخم قائم أصلاً لحماية المنظومة القيمية للسلطة بقوة السلاح وبترهيب المواطنين وإرهابهم[6]، ومن هنا تحديداً أتت هشاشة الدولة، حيث كان اللجوء إلى القوة المباشرة وتدخل الأجهزة الأمنية والمخابرات “في أجهزة الحكم وشؤون الحياة اليومية أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011 باسم التحقيق في قضايا فساد وشبهات فساد” ليس إلا “تعويض الهشاشة البنيوية للدولة المتمثلة في شيخوختها المؤسسية، واستشراء الفساد الصغير والكبير في أجهزتها…”[7].
المنظومة القيمية الثابتة للمافيا[8] العربية إذن، والتي رسختها شبكات الإجرام العالمية والمحلية في الوطن العربي، حسب تعبير المرزوقي[9]، تتسم بالتبعية والخضوع واتفاقات وتفاهمات سياسية لا يمكن تغييرها بأي شكل من الأشكال، وإلا تغيرت معها الوجوه؛ وجوه النظام القديم، بالتالي خلخلة المصالح والاتفاقيات الدولية. وخير دليل على ذلك ما حدث مع ثورة مارس/آذار 2011، حينما أعلن الكثير من رؤساء العالم تلميحاً أو تصريحاً، بأنه لابد من الحفاظ على “الدولة” السورية ومؤسساتها بما فيها أجهزة المخابرات والأمن والجيش (آخرها التصريحات التي ترافقت مع مؤتمر فيينا نوفمبر/كانون الأول 2015)، وهم يقصدون بذلك منظومة القيم الثابتة أو ما بات يعرف بالدولة “العميقة”؛ فبعضهم تمسك بالأسد كرأس لتلك المنظومة، وبعضهم لا يعنيه الرجل، بل ضمان البديل الذي سيلعب الدور نفسه في الحفاظ على المنظومة القيمية وهيمنتها إياها، والتأكد من عدم تغييرها أو المس بإحدى أقطابها. بينما تمت التضحية برؤساء بعض دول الثورات العربية الأخرى خوفاً من أن يطال التغيير منظومة قيم تلك البلاد، والتي بذلت دول الاستعمار والاحتلال الغربي أقصى جهودها في إرسائها وترسيخها.
ومن الجدير ذكره والعجيب أمره في تناقض مواقف المجتمع الدولي ولهاثه للحفاظ على مصالحه وصالحه، أنه لا زال ينادي بالتنوع الاثني وحماية الأقليات وضرورة الحفاظ على دولة قومية علمانية في حقبة ما بعد الأسد، وهو المجتمع الدولي نفسه –إن شئنا مقاربة الحالة السورية والحالة البوسنية ومقاربة موقف المجتمع الدولي من المجازر في الحالتين وتدخله في الثانية واحجامه في الأولى- الذي كان ينظر إلى التنوع الثقافي والتعددية الأيديولوجية والدينية كعقبة في وجه تحقيق الدولة القوية المؤسسة على أيديولوجية قومية تعيش في كنفها كل هذه الأطياف المتباينة، فكان من آثار تدخله في حرب البوسنة والهرسك (1992- 1995) انقسام يوغسلافيا السابقة إلى دويلات كي تصل إلى حالة من التعايش والسلام. فالحال أن سورية كدولة قومية عربية بعثية خلقها المجتمع الدولي أعطت هذا النموذج شكلياً لكنها عند أول حراك اجتماعي ضدها، انكشفت هشاشة ما يسمى “الدولة القومية”، وطفى إلى السطح مجدداً إشكالات عدم القدرة على الانسجام والتناغم فيما بين المختلفين، وعاد البحث –في أروقة مراكز القرار الغربي- عن شكل تلك الدولة القوية الحاضنة للتعددية والإثنيات مجدداً إلى طاولة الحوارات. وطُرح سؤال مركزي في كل نقاش وجدال، هل سيُعاد رسم خريطة سورية وحدودها لتلاءم الأحداث الجارية وترضي مصالح الأطراف اللاعبة في سورية؟
وإن أتينا بدقة على تفسير ما وراء قيام الثورات في هذا الوقت بالذات، ووصول الناس إلى حالة من التمرد العلني وخروجهم على منظومة القيم والأخلاق القائمة المهددة لوجودهم ووجدانهم، فنستطيع أن نجملها كما جاء على لسان مصطفى حجازي بالآتي: 1. المطالبات المزمنة بالحرية السياسية. 2. استعادة الكرامة والحقوق. 3. الثورة على الافقار المنتظم والحرمان المادي. 4. ثورة نفسية للأبناء الشباب على الآباء المقصرين المتخاذلين أمام المستبدين الذين أزلَوا سلطانهم. 5. إفلاس أنظمة الاستبداد التي تحجرت وفقدت القدرة على إدارة شؤون المجتمع وسياسته، وغرقت في الفساد والإفساد ونهب ثروات الوطن هي وبطانتها. 6. تخلي قوى العولمة الاستعمارية المسيطرة عن زبانيتها من الحكام المحليين بعد طول حماية لهم. 7. انتشار الإعلام الاجتماعي وقدرته الفائقة على الكشف والفضح والتعبئة.[10]
في الحقيقة، إني آخذة بالأسباب والدوافع كلها حيث لا يمكن تجزئتها. وكانت مجتمعة-مع تفاوت زخم كل واحد منها وقربه من وعي الشباب أو بعده-المحرك للثورة، كما حدث في ثورة مارس 2011؛ فإرهاصات الثورة كانت موجودة في كافة أنحاء البلاد، إلا أنها كانت بحاجة إلى عامل “مفاجئ” أو “عشوائي”، أو “مثير” على حد تعبير باروت، وهو اندلاع ثورات في بلاد عربية، كي تتجسد هذه الإرهاصات فعلاً وسلوكاً، مع التنويه إلى اختلاف المرجعية القيمية لكل فرد ثائر أو جماعة ثائرة؛ فبعضهم كانت القيم الدينية مرجعاً لهم، والآخر كانت ركيزته قيماً علمانية، ومع ذلك فقد جمعها سلوك واحد موحد مشترك في بداية اندلاع الثورة، وهو الخروج بمظاهرات ضد نظام الأسد الديكتاتوري ومؤسساته الدينية والحكومية الفاسدة المفسدة.
لكن ما أؤمن به أن فوق كل تلك الدوافع والأسباب كانت الأزمة القيمية الشديدة التي نشأت عليها أجيال، ما ولدت خللاً أخلاقياً كبيراً، كان جذره انتشار ظاهرة “سياسة الأنصاف” على حد تعبير أبي يعرب المرزوقي[11]، فبات المجتمع يحكمه أنصاف الرجال (أو أشباهه) ليقدموا أنصاف الحلول فتفشى على إثرها الفساد والإفساد؛ نصف فقيه، ونصف سياسي، ونصف متكلم، ونصف متدين، ونصف طبيب، ونصف مهندس، ونصف معلم، ونصف مسؤول… ومن هنا تأتي كارثة المعالجة والعلاج المنقوص والمشوه، ففساد علاج نصف الطبيب (العضوي أو الروحي) يخرب مزاج الفكر الجمعي حين يشوه العلاج في مواجهة التحرر من المستعمر بأشكاله كافة، الفكرية والمادية. وفساد نصف الفقيه الذي يفسد المجتمع اجتماعياً وثقافياً وسياسياً بعلاجه حين يفتي بغير حق فيفسد الأمة وينذر بخراب العمران، لما يستحكم الظلم بمستويات المجتمع. ونصف السياسي يفسد كيان الأمة والمجتمع حين يأتي بعلاجات وأنصاف الحلول، ويقدم الأوطان على طبق من ذهب للمستعمر والمحتل لتصبح مجرد مستعمرات ومحميات أو أنصاف أوطان، يرأسها خونة وأنصاف رجال. ولك أن تطلق تلك السمة على مختلف أفراد المجتمع وفئاته.
أنصاف الرجال هؤلاء صنعوا أشباه الحقائق وأصبحوا مصدر كل تدليس وتشويه وانقياد أعمى وتقليد من قبل العامة. وغدت النظم الثقافية والاجتماعية والخدمية مستبدة قاسطة، مشوهة للحقيقة ادعت احتكارها ومنعت أية جهة أخرى تجهر بوجه آخر للحقيقة، أو حتى البحث عن مجال معرفي آخر والإيمان به؛ كاحتكار التيار الصوفي في بعض الدول العربية المجال العقدي والثقافي والقيمي في حياة الناس[12] (بل حتى في احتكاره مجال الجاليات المسلمة في بعض الدول الغربية)، وتفشي قيم حزب البعث الحياة السياسية والثقافية والفنية والأدبية والتعليمية والحياة العامة كافة في سورية.
ولابد إن أردنا الحديث عن الثورة ومطلبها النهائي على نحو دقيق، أن يرتبط ذلك بضرورة التغلغل إلى عمق المنظومة القيمية والبنية المجتمعية والمعرفية لإجراء تغيير جذري، لأن “تغيير السلطة أو إسقاطها أو تغيير النظام، لا يعني تغيير قواعد السلطة ومبادئ النظام، بل يعني استبدال سلطة بأخرى ونظام بآخر، على القواعد والمبادئ ذاتها، ولكن مع تغيير الشعارات، ذلكم هو السر الذي يجعل السياسة لا تنتج إلا مسوخاً”[13]. ولقيام نظام جديد يتطلب ذلك قيامه على “القطيعة” مع النظام السابق، على حد تعبير باروت، والقطيعة كما أفهمها تطال منظومة القيم القائم عليها هذا النظام، أو أي نظام قيمي آخر تعرى وافتضح هشاشة بناءه، سواء أكان محلي أو عالمي، أمام ثورة القيم في سورية، “فالنموذج المرغوب فيه في عملية التغيير الاجتماعي في زمن الثورات (أي ما يجب أن يكون)، لا ينطلق من مرجعية النظام السابق (ما كان)، بل من مرجعية مغايرة أو مضادة، وهذا هو مفهوم القطيعة في منهجيات فهم الثورات الإبستمولوجية [=المعرفية] والعلمية لعمليات تغير الأنموذجات الكبرى التي تحكم إنتاج العلم والمعرفة والأفكار والمدركات”[14].
أخيراً، أستطيع القول مع أكرم حجازي بأن فرادة الثورة في سورية ومكانتها العابرة للحدود، والمفارقة للشأن المحلي، والخارجة على تخاذل المجتمع الدولي وقيمه مزدوجة المعايير، تكمن في أنه “ما من ثورة عربية أو حركة سياسية أو حزب أو جماعة إسلامية أو وطنية أو جهادية ولا حتى فكرة تحررية أو أخلاقية أو إنسانية مناهضة للاستبداد، إلا وكانت الثورة السورية لها بمثابة الرافعة والطاقة الدافعة والديمومة التي تجعلها قادرة على الاستمرار، خصوصاً بعد انطلاق الثورات المضادة. وما من أيديولوجيا وضعية، كالقومية واليسارية واللبرالية والعلمانية والعنصرية، فضلًا عن الصفوية ومنتجاتها الهدامة، إلا وكانت لها الثورة السورية بالمرصاد، فضحاً وتعريةً… وما من منظومة أخلاقية أو إنسانية أو مرجعية قانونية أو مؤسسية، لدولة أو نظام سياسي أو جماعة أو مؤسسة، إلا وجردتها الثورة السورية من كل شرعية… أما النظام الدولي- بفعل الثورة السورية- فقد تعرض ولما يزل لأخطر مواجهة في تاريخه، تصل إلى حد التهديد بزواله، أو على الأقل السعي لإعادة بنائه. إذن: الثورة السورية ليست شأناً محلياً أبداً أبداً، حتى لو اعتقد بعض السوريين بذلك، وعولوا طويلاً على نصرة دولية لا يمكن أن تأتي”[15].
انحدار قيم الحق والخير والجمال لسقوط الدولة أخلاقياً
السقوط الأخلاقي للدولة
السقوط الأخلاقي للدولة يعني كما يقول عبد الله البريدي هو: “عدم الالتزام بالأطر القيمية إزاء التعامل مع الإنسان، سواء أكان ذلك التعامل داخل الدولة أو خارجها، وبعبارة أدق التورط بجرائم ضد الإنسان، قتلاً وتعذيباً وحبساً وهدراً لكرامته وحريته وعدالته، وسحقاً لإنسانيته…” ويختم فكرته بعد تحديد هوية الدولة الساقطة بأنه “لا مكان ولا استقرار إلا للدول الأخلاقية القوية التي تعمل بقوة الأخلاق وتلتزم بأخلاق القوة، وأما الدول الساقطة، فساقطة لا محالة”[16].
وهذا ما حدث بالضبط مع “الدولة” السورية فسقطت أخلاقياً لعدم التزامها بأية أطر قيمية. علاوة على أن تبعية دولة ما لقوى دولية واجترار قيمها وأخلاقها وأدواتها الأيديولوجية تُنشأ دولة هشة لا محالة (كما شرحنا في الفقرة السابقة)، ما يستدعي انحدارها قيمياً فيستلزم ذلك سقوطها أخلاقياً. وتغدو صفة “الدولة المتوحشة”[17]، أو البربرية أو القبلية أو البدائية… أبلغ وصف وأدقه يمكن إنزاله على “الدولة” السورية في حقبة الأسدين، ختامها إما انفكاك أو موات. أحكمت هذه “الدولة” قبضتها عن طريق عصبية قبلية، أقرب ما تكون عصابة متضامنة ومرتبطة برابط الدم؛ أي رابطة الطائفة النصيرية والتي تعرف بـ”العلوية” وغيرها من الطوائف التي تبعتها قيمياً، كلٌ حسب منفعته ومصالحه الخاصة.
يقول ميشيل سورا الشاهد على قمعية دولة الأسدين في كتابه القيم: “سورية: الدولة المتوحشة” بأن حافظ استأصل النظامَ السياسي السوري فجعل من سورية اجتماعياً وسياسياً أرضاً ملساء أو صحراء ليس فيها حراك سياسي ولا بناء اجتماعي، فعاد بالسلطة من المُلك السياسيّ (وهي السيطرة القانونية) إلى السلطة البدائية أو “الطبيعية” حيث السيطرة للعنف المطلق “القائم على أشكال حكم ذات تبعية ما قبل السياسية: الدولة-الطائفة”[18].
مفهوم الدولة الهشة يقربنا من مفهوم “الدولة الرخوة” كذلك الأمر، الذي ظهر مع عالم الاجتماع السويدي جينار ميردال في الستينات، ليتطابق مع واقع دولنا العربية[19]؛ حيث تصدر القوانين والتشريعات فيها دون تطبيقها، اللهم ما يتوافق مع مصلحتها ومصالحها وأهوائها، عدا عن أن أصحاب السلطة والنفوذ محميون من قبل الدولة، بل تغطي على ممارساتهم غير القانونية، فيعم على إثره الفساد وتنتشر الرشاوى بين أصحاب النفوذ، بل وبين عامة الناس، ويتبنى النظام أقصى الأخلاق انحداراً ووحشية، ولن يتوانى عن التنقل بين أخلاق النفاق والنهب والسرقات والفساد والظلم والعنف والكذب والاستئثار بالسلطة والمال، وجعلها أخلاق كل من ينضوي تحته من مؤسسات الدولة بموظفيها والقائمين عليها، إلى أن يتحول الفساد ودناءة الأخلاق إلى سلوك حياة معتاد بين العامة، وكل ما لم ينتظم ضمن هذا الإيقاع يُحارب ويُقمع ويسجن، وفي ألطف الحالات يُصنف ويُنبذ، فانقسم الناس في ظل هذه “الدولة” الساقطة أخلاقياً وقيمياً إلى؛ إما حاملاً أصيلاً لتلك القيم، أو حاملاً لبعض التشوه الأخلاقي، أو القلة القليلة منه مقاوماً ومدافعاً عن المثل والقيم العليا جهراً أو سراً.
ولم يختلف حال سياسة الدولة الخارجية البتة عن سياستها الداخلية، ما أدى إلى سقوطها أخلاقياً كذلك الأمر، حيث افتضح خطاب الدكتاتور وظهر كذب شعاراته في تبنيه، زيفاً وبهتاناً، قيم العروبة والوطنية والمقاومة، من أجل إضفاء الشرعية على سيادته وحكمه على الناس، وقد تجلى كذب هذا الخطاب: 1. في وقوفه ثماني سنوات مع إيران في حربها على العراق -أي مع الفرس ضد العرب. 2. كما أنه أرسل قواته تقاتل إلى جانب الأمريكان – الإمبريالية – في حرب العراق عام 1990م. 3. واعتدت إسرائيل على سورية مرات عدة (كتدمير موقع لإنتاج الوقود الذري في منطقة دير الزور، وتحليق الطيران الاسرائيلي فوق القصر الرئاسي في اللاذقية…)، بينما اكتفى نظام المقاومة بالتصريح “بالرد في الوقت المناسب”، بل كان الحارس الأمين لحدودها طيلة أربعين سنة، وبات من المعلوم أن حافظ الأسد هو الذي سلّم الجولان غنيمة سهلة لإسرائيل عام 1967 عندما كان وزيراً للدفاع، وعندما جاء ابنه بشار إلى الحكم عام 2000 بقيت سياسة الانبطاح أمام إسرائيل مستمرة وقيمة أصيلة لها.
نظام المقاومة والممانعة ذهب أبعد من ذلك، ضارباً بعرض الحائط قيمتي المقاومة والممانعة “عندما وافق على الدخول في مفاوضات سرية مع إسرائيل … فقد دُعي بشار الأسد إلى باريس في يوليو/تموز 2008 لحضور إطلاق قمة الاتحاد من أجل المتوسط إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت إيهود أولمرت، وأدى ساركوزي على إثرها زيارة إلى دمشق في سبتمبر/أيلول 2008، في محاولة منه للمساهمة إلى جانب تركيا في إنجاح مفاوضات السلام بين سورية وإسرائيل”[20].
ولتهيئة المجتمع السوري للقبول بعملية السلام مع إسرائيل عملت السياسة الداخلية على طبخه على نار هادئة، وذلك من خلال عقد الندوات وورشات العمل التي دعت إلى حوار الديانات والعيش المشترك ونبذ العنف (والتي لمع نجمها ابتداءً من سماء الفاتيكان واُريد فرضها على مجتمعاتنا وفق شروط الغرب ومصالحه) متساوقة في ذلك مع السياسة الخارجية للدولة، وبغطاء من المؤسسات الدينية الرسمية وتحت رعايتها، كورشة العمل التي نادت بدور الديانات الثلاث في نشر السلام والتسامح وتبني اللاعنف كمذهب إنساني عالمي.
وبالطبع، لأن المرأة وحقوقها تضفي الزينة في أبهى حلتها وتحليّها على صورة تلك الفعاليات، كانت ورشة العمل تلك نسوية بحتة؛ حيث تم استضافة نساء مسيحيات (كاثوليك وبروتستانت) ويهوديات (واللاتي تلقين دعوة رسمية لزيارة المعبد اليهودي في جوبر بريف دمشق) أمريكيات وكنديات لتسيير هذه المحاضرات وورشات العمل والإشراف على ثلة من المدعوات من مختلف المرجعيات الدينية والإثنية والعقدية، وبتمويل من السفارة الكندية (وكان معلوماً أن سياسة النظام المعلنة آنذاك تمنع أي دعم أو مساهمة مادية من جهة خارجية لأي نشاط في سورية) في دمشق 12-23 يناير/كانون الثاني 2009 وكان ذلك مباشرة بعد الهجوم على غزة (17 ديسمبر 2008- 18 يناير 2009). مثل هذه اللقاءات ظاهرها اجترار خطاب تعزيز دور المرأة وتمكينها في المجتمع، ومن ثم حشو الأدمغة بفكرة أن المرأة هي المكلفة بنشر التسامح والتعايش والسلام والرحمة ونبذ العنف، كون الرجل أثبت عبر التاريخ أنه المسؤول الأول والوحيد عما وصلت إليه البشرية من دمار وفساد وحروب وويلات. فالكرة الأرضية خاضعة للقطب الذكوري الفحولي (الأنيموس اليونغي) والذي اُغتيل على يديه القطب الآخر الأنثوي (الأنيما اليونغية) حسب الرؤية الوجودية النسوية. أما باطنها فقد كان يصب بمجرى ما تمليه عليها السياسة الخارجية من مصالح وتوازنات للقوى الإقليمية والدولية، علاوة على أن مسألة المرأة وحقوقها (كمسودة قانون مكافحة الاتجار بها ونبذ العنف الأسري) كانت مرتهنة بحسابات الدولة فقط، أي أن السماح بإنشاء أية مؤسسة لحماية المرأة والدفاع عن حقوقها في سورية إنما هو للزهو الطاووسي بأنها متماشية مع الحداثة الغربية وقوانينها. وفي بعض الحالات فإن تلك المؤسسات التي دُعمت من قبل الدولة بسبب رعاية أسماء الأسد ووساطتها، كانت تهدف لتلميع صورتها كراعية أولى لحقوق المرأة وكزوجة رئيس دولة عربية علمانية تتبنى مبادئ الغرب وقيمه.
وبالعودة إلى نظام المقاومة، فمن الصعوبة بمكان تجاهل–بخاصة بعد ثورة القيم- مواقف الأسد من المقاومة الفلسطينية حسب مصالحه الخاصة والظروف السياسية والعسكرية التي طالت العالم العربي. فقد ظلت وسائل الإعلام السورية الرسمية وغير الرسمية تؤكد على أن “المقاومة الحقيقية تأتي من فصائل المقاومة المحسوبة على النظام السوري، مثل كتائب “جهاد جبريل” التابعة للجبهة الشعبية – القيادة العامة، والتي يذهب الإعلام الرسمي السوري إلى أنه وقع على عاتقها العبء الأكبر من مقاومة العدوان الإسرائيلي وإلحاق أكبر الضرر بجيش الاحتلال. والمعروف أنّ هذه الجبهة تقف إلى جانب النظام السوري تماماً، وتقاتل إلى جانبه في الكثير من الجبهات ضد قوات المعارضة في ريف العاصمة دمشق”[21].
بات تعريف “المقاومة” لدى نظام الأسد مقتصراً على من والاه، أما من وقف مع الثورة ضده فهو مدعٍ للمقاومة، بل مؤتَمِر من الخارج وعميل. وما إن خرج عليه شعبه يطالب بالكرامة حتى اُستخدمت أسلحته ودباباته المسروقة من دم الناس وعرقهم.
إن شعار الحرية في ثلاثية شعار حزب البعث: وحدة، حرية، اشتراكية، حمل معنىً زائفاً، مفصلاً على مقاس النظام وقيمه، مدعياً أنها حرية من الاستعمار الأجنبي ومن ابنته المدللة إسرائيل. ومع ثورة مارس 2011 سقطت آخر ورقة توت عن سورية الأسد كدولة حاملة لقيم عرضية لا جوهرية بامتياز؛ فلا هي مقاومة ولا هي مستقلة ولا هي حرة، ولا بات الناس ينعمون بالحرية والكرامة على رغم من الادعاء بأنها وطن محرر من الاستعمار والاحتلال، لأنها ليست إلا بلد تحكمها عصابات من المافيات والمجرمين وأنصاف الرجال!
بعد هذا السقوط الخفي الواضح لمن يملك بصراً وبصيرة، وحسب سُنة انهيار الدول لفساد القيم القائمة عليها وانحطاطها، لابد أن تدور دائرة التاريخ وتقدح شرارة الثورة؛ فالثورة في أساسها تقوم بدافع أخلاقي قيمي، كما شرحنا، لأن الأخلاق عماد الثورة وأساسها؛ أخلاق العدل والكرامة ضد الظلم والقهر والاستعباد والقمع. والثورة على القيم السائدة في مجتمع أخلاق العبودية هي ثورة ثلاثية القيم؛ قيمة الحق والخير والجمال. ثورة انتزاع الحق في الوجود، والحق في العيش الكريم، والحق في العدل، والحق في استرداد إنسانية الإنسان وكرامته، والحق في استرداد الأرض المغتصبة من عصبة عصابة الإجرام، وعند تحقق هذه الحقوق ورسوخها في المجتمع، نستطيع القول بأن قيمة الخير قد تحققت، ما يولد شعوراً بالسعادة والجمال؛ فكل ما هو خير جميل، حامل لقيمة الجمال.
أتساءل هنا على عجل، هل استطاعت ثورة القيم أن تحقق قيمها أو تفرضها على أقل تقدير كأساس لكل حركة أو حوار أو اتفاق؟ أم أنها انجرفت مع هذا التيار الكاسح، واستسلمت لمنظومة قيم النظام بوعي أو دون وعي لرسوخ هذه القيم الفاسدة في الوعي الجمعي للعامة؟ لنغوص أكثر في ثورة القيم والحقوق ونتحرى الجواب عن تلك الأسئلة.
الحق في العدل
عانى السوري من تفشي الظلم وانعدام المساواة، فلأكثر من 40 عامة كان المجتمع السوري موسوماً بقيم وأخلاق سائدة فاسدة؛ كالمحسوبية والتملق والرشوة والكلبية (أي ازدراء القيم الاجتماعية والإنسانية الفاضلة)، والنفاق (أي مدح من يستحق الذم)، وإضفاء قيم الشجاعة والكرم والعلم على الجبناء والبخلاء والجهلاء…، فالقيم، كما قلنا، هي التي ترسم للفرد سلوكه في المجتمع وتميز له الصح من الخطأ، والجميل من القبيح، وما يجب فعله وما لا يجب، وبانتفاء تحقق قيمة العدل تنتفي معها قيم الحق والخير والجميل. خلقت هذه الحال أنصاف رجال وأنصاف علماء، وجماهير “مصفقة” لا هم لها إلا مدح الطاغية المستبد المنحل أخلاقياً والتصفيق له. وأصبح السوريون بكافة فئاتهم وطبقاتهم يدورون في فلك الأب القائد، الخالد الرمز، لتصبح هوية سورية بامتياز: “سورية الأسد”، إلا من رحم ربي.
انتزع نظام البعث الأسدي من الناس حقوقها كلها: الحق في حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأعطى الحرية للفاسدين المفسدين، وفي مقدمتهم عائلة الأسد وحاشيتها، الذين أحكموا القبضة على الدولة أمنياً واقتصادياً. بل استطاع هذا النظام جذب الكثير من رجال الأعمال وعلماء الدين إليه، ونشأ تحالف نخبوي حاكم (بعثيين، تجار، متعهدين دينيين، مخابرات) يعمل وفقاً لأيديولوجيته ومصالحه إما تواطؤاً أو طوعاً أو كرهاً، ودأب هذا التحالف على استغلال الناس وامتصاص دمائهم واستباحة أعراضهم، فكان ينهب ويسرق ويزداد فحشاً في الثروات وتغولاً في الفساد، في الوقت الذي كان فيه الناس يتضورون جوعاً وقهراً وألماً… وانعدمت على إثرها العدالة الاجتماعية على نحو ضاهى أية حقبة أخرى خبرتها سورية.
انتفاء قيمة العدل في المجتمع الذي حكمه النظام القمعي بقوة، ترهيباً وإرهاباً، تجلى بغياب استقلال القضاء وخضوعه لذلك التحالف النخبوي الحاكم.
طال القمع كذلك الاقتصاد والسياسة والدين والاجتماع جميعاً، وكل من تتعارض مصالحه مع مصالح السلطة الحاكمة يتعرض للملاحقة أو المضايقة أو التصفية، حتى غدا السوريون كلهم مشاريع مجرمين، معرضين في أية لحظة للقبض عليهم بجناية أو بغير جناية، اقتصادية أو سياسية أو إرهابية، ما أدى إلى فقدانه الإحساس بكرامته وإنسانيته مع الوقت.
ويستحضر السوريون دائماً في ذاكرتهم المجازر الوحشية التي ارتكبتها السلطة الغاشمة ضدهم في الثمانينات من القرن الماضي، نذكر منها: مجزرة حلب: في 16 يونيو عام 1979م. مجزرة جسر الشغور: في 10 مارس عام 1980م. مجزرة سجن تدمر: في 27 يونيو عام 1980م. مجزرة حماة: في 2 فبراير عام 1982م. مجزرة القامشلي: في 12 مارس عام 2004م. مجزرة سجن صيدنايا: في 5 يوليو عام 2008م. هذه المجازر تبعتها مجازر أخرى أشنع وأفظع منذ انتفاضة مارس 2011، ولن تكون الأخيرة طالما هذه السلطة المستبدة في الحكم.
ولابد أن ننوه هنا أنه في حديثنا عن قيمة العدل علينا أن نفرق بين العدل الأخلاقي والعدل القانوني؛ ففي سورية كان الأول منتفياً في القضاء والمحاكم ومناحي الحياة العامة كافة بسبب طغيان الثاني. وإن تحقق العدل القانوني فذلك لا يعني لزوم تحقق الأخلاقي فـ”العدل القانوني لا يكون عدلاً أخلاقياً إلا إذا كان القانون نفسه مطابقاً للعدل الأخلاقي، وهو أمر قد يحدث وقد لا يحدث، أو هو غالباً لا يحدث لأن القانون من وضع السلطة المسيطرة على الحكم وهي غالباً ما تسعى إلى صيانة سيطرتها سواء كان ذلك بوسائل متفقة مع العدل أو غير متفقة. بل الغالب ألا تكون متفقة، لأنها تشرع لصالح نفسها لا لصالح المجموع…”[22].
ولأن السلطة الحاكمة الغاشمة متمركزة حول شخصية حافظ الأسد، ومن بعده ابنه، رفعته إلى مصاف الإله وأصبحت كل السلطات بيديه فهو: رئيس الجمهورية، والقائد الأعلى للجيش، والأمين العام للقيادة القومية، والأمين العام للقيادة القطرية، كما أن مجلس القضاء الأعلى بأكمله تحت سيطرته، وله الحق بإصدار التشريعات والقوانين، وحافظ الأسد هو من قام بالتعديل على قانون مجلس القضاء الأعلى، عدا عن أن تعيين القاضي يحتاج إلى موافقة الأجهزة الأمنية[23].
ومنذ عام 1964 أصدرت محكمة أمن “الثورة” مرسوماً رقمه (6) قانوناً ضد من يناهض ثورة 8 مارس عام 1963، وتجريم كل من يقف ضد تطبيق التشريعات الاشتراكية، والذي يقول عنه المحامي أنور البني أن المرسوم رقم 22 لعام 2012 الذي أنشأ تحت مسمى محكمة الإرهاب قام على أنقاض تلك المحكمة لعام 1964. “وكما جاءت محكمة أمن الدولة وقانون مناهضة أهداف الثورة وعرقلة تطبيق التشريعات الاشتراكية في خضم فورة عاطفية قومية واشتراكية في سورية والمحيط، ومحاولة السلطة كسب تأييد الدول الاشتراكية والعربية للتغطية على انتهاكات حقوق الإنسان، جاءت محكمة الإرهاب وقانون مكافحة الإرهاب في خضم فورة عالمية لمحاربة الإرهاب ومحاولة لكسب تأييد العالم للسلطة السورية وضمها للجهود الدولية بذلك متغاضين كذلك عن الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان”[24]. فمن أين يمكن القول بأن هناك محاكمة عادلة أو مساواة في قانون هذه الدولة المتوحشة؟ وما مشروعية الحديث عن الاحتفاظ والحفاظ على مؤسسات الدولة في حقبة ما بعد الأسد؟
يحضرني هنا مثال جليّ (وما أكثرها) عن انتفاء قيمة العدل الأخلاقي ونحن في خضم الثورة، فيما يتعلق بمسألة التدخل العسكري الروسي في سورية 30 سبتمبر/أيلول 2015؛ فمن الجهة القانونية الدولية، أخذ التدخل غطاءً قانونياً (وليس أخلاقياً)، تمثَّل في طلب دمشق الرسمي من موسكو الدعم العسكري، سيما أن نظام دمشق لم يزل معتَرَفاً به دوليّاً وهو الممثِل لسورية في المجتمع الدولي ومنظماته. كذلك المثال الصارخ في بيان ما يسمى “المجموعة الدولية لدعم سورية ISSG” المليء بفقرات تطعن بالثورة وقيمها؛ كمسألة العدالة الانتقالية، فبما أن البيان صادر عن سلطة المجتمع الدولي والتي لها مصالحها واعتباراتها وتوازناتها، فإن ما سيصدر عنها لن يحتكم إلى العدل الأخلاقي وإن استند إلى القانوني منه، لأنه صادر عن المنظومة القيمية الدولية، ويتبدى ذلك جلياً في دعوة أفراد من أركان النظام المستبد المجرم والمسؤولين عن جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان إلى طاولة الحوار جنباً إلى جنب مع أفراد المعارضة[25]؛ وعليه فإن ذلك يعني أن لهؤلاء المجرمين قرارات وسلطة، وسيتم منحهم المشاركة في مراحل العملية الانتقالية ووضع الدستور وربما المشاركة بالانتخابات، لا بل بقاء الكثير منهم في مراكزهم في مؤسسات الدولة المتوحشة، وكل ذلك بدعم من القانون الدولي! فأين العدل في ذلك وأكثر؟
ثم بعد الإجابة عن تلك الأسئلة وما يتفرع عنها، سيروا في الأرض وانظروا ملياً في تصدع ثلة من السوريين (ثواراً ومعارضة و”مجاهدين”) وتشتت كلمتهم وبُعدهم عن الثورة وقيمها حتى ولو ادعوا تمثيلها والعمل بمعيارها.
الحق في الكرامة والحياة الكريمة
تجلى غياب العدل الأخلاقي في وجدان السوريين بوضوح في الإحساس بأن كل من ينتمي إلى طائفة الدكتاتور هو مواطن من الدرجة الأولى، وأن الآخرين من الدرجة الثانية، بل السفلى.
امتهنت أجهزة الاستخبارات -التي اتخذها الأسد أساساً لترسيخ دكتاتوريته-كرامة الإنسان، وهيمنت هيمنة مطلقة على الأنفس والأجساد وعلى مؤسسات الدولة والمجتمع؛ على مفاصل الدولة العسكرية، والأمنية، والاقتصادية، والسياسية، فشعر غالبية الناس بالإقصاء والاضطهاد والقمع الممنهج.
واتخذ المجال السياسي طابع العسكرة والأمن بطريقين: فرض سلطة المخابرات والجيش على السياسة والسياسيين، بالإضافة إلى إنشاء مؤسسات عسكرية تطال كافة حياة الأفراد، بدءاً من طلائع البعث، إلى شبيبة الثورة، والتربية العسكرية والقومية في المدارس والمعاهد والجامعات، إلى شباب الصاعقة والمظليين والمظليات إلى الحرس القومي (ميليشيا حزب البعث) وكتائب البعث الجامعيين[26]. ولا نجافي الصواب إن قلنا إن كل المؤسسات العامة من المستشفيات والمدارس والدوائر الحكومية ومراكز الشرطة… لم تكن إلا أدوات للتأديب وللضبط على إيقاع قيم الدولة الأمنية، ومراكز لغسل عقول المواطنين، وجعلهم كقطيع من الأنعام أو أضل سبيلا، بل تحولت المستشفيات إلى ثكنات عسكرية يتم فيها التعذيب والقتل (كما حدث في الكثير منها زمن الثورة). وما إن خالف أحد ما، أو رفض الانتساب أو الرضوخ لذلك الإيقاع، أو خرج عن الدائرة المرسومة له من قبل السلطة ومؤسساتها ووظائفها إلا وأصبح عدواً لدوداً لها يجب التخلص منه.
سياسة السلطة كانت استمراراً للحرب، التي ربحتها قوة عسكرية سيطرت على الدولة والمجتمع، بوسائل أخرى لم تكن حربية دائماً[27]، فجهاز السلطة ومؤسساتها منذ هزيمة يونيو 67 عمل على صب كل أعماله في استغلال الطاقات البشرية للحفاظ على السلطة واستقرارها. والوظيفة الأساسية للجيش “لم تكن الدفاع عن الوطن وحماية المدنيين، بل الدفاع عن السلطة وضمان استقرارها واستمرارها”[28].
إن عصب النظام الأسدي هو الأجهزة الأمنية إذن، لذلك تعددت الأجهزة الأمنية وأصبح عددها 17 جهازاً، عدد العاملين فيها حوالي 365 ألف، وبلغت ميزانيتها ضعفا موازنة الجيش السوري، وشكلت –هذه الأجهزة-في مجموعها أخطبوطاً أحاط بالسوري وأحصى أنفاسه، وحاسبه على كل تحركاته وسكناته، وبث الخوف والرعب اللامحدود في كيانه كله، وجعله قلقاً ومتوتراً من أن يقع في قبضة أحد أفرع تلك الأجهزة.
اليوم، تُعد الأجهزة العسكرية والمخابراتية تلك والمؤسسة على العنف والاستبداد والإجرام، المسؤولة عن الاعتقالات التعسفية وعن أبشع أنواع التعذيب والقتل، (من سرايا الدفاع، والوحدات الخاصة، وفرع المخابرات الجوية، والشبيحة التي استباحت أملاك الناس)، وفرضت الإتاوات على الناس قبل انطلاق الثورة حتى، ثم سميت “وحدات الدفاع الوطني” أثناء الثورة، التي ارتكبت أفظع المجازر الوحشية تحت شعار: “الأسد أو نحرق البلد”.
وبسبب احتكار خيرات البلاد وثرواتها بأيدي أصحاب السلطة والمال وتفشي النهب والسرقات والفساد، حيث كانت الرشوة منتشرة في مجالات الحياة كافة، عانت المدن المهمشة في ظل الأسدين من انتشار البطالة والفقر والجهل إلى حد مهين للكرامة والوجود الإنساني. وارتفع عدد الفقراء في سورية إلى خط “الفقر العميق” أو “الأسود”، لا بل تدهور وضع من كانوا تحت “خط الفقر الأعلى” إلى خط “الفقر الأسود”[29]. واتخذ “الفقر العميق” شكلاً مناطقياً، حيث “استمرت المنطقة الشمالية الشرقية، وتحديداً إدلب وريف حلب ومحافظات الرقة ودير الزور والحسكة، في الاستحواذ على أكبر عدد من الفقراء مقارنة بعام 2004، كما ازداد الفقر الشديد العميق والإجمالي، في المنطقة الجنوبية، ولا سيما ريفها”[30].
هذا الفساد المستشري بالحياة الاقتصادية والفقر وانعدام شروط الحياة الإنسانية الكريمة كان مدعماً بالإذلال والقهر في كنف الدولة المتوحشة، إذلال الفرد من قبل أجهزة المخابرات والأمن وقهره واستباحة كرامته ومعاملته كشيء لا قيمة له ولا حقوق فكيف بالحرية؟
فغدت العلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض، وبين السلطة والأفراد، مؤسسة على منظومة قيمية فاسدة منحطة، كلٌ ينظر إلى الآخر كشيء لا قيمة له، المهم كيف يحقق منه مكاسب أكبر مهما كانت الطرق لاشرعية أو لا أخلاقية. بنية هذه العلاقات وشكلها انسحبت على الثورة فشهدنا الكثير من هدر للطاقات والجهود والإمكانات، والتكالب على السلطة والمال، والمحسوبيات والواسطات بين مؤسسات الثورة وأجساد المعارضة[31]، وسرقة المواد الإغاثية في المناطق المنكوبة، وفرض النفوذ بقوة السلاح، واحتكار الأنفاق المخرج الوحيد والمصدر لعيش المحاصرين من قبل ما يسمى “المعارضة والثوار”.
في حضرة قيمة الجمال
لطالما لم تأخذ ثقافة الجمال وقيمه حقها من البحث والتدقيق، ولم يسلط الضوء عليها تسليطاً وافياً جديّاً، مع أنها جانب مهم لما لحقت بمجتمعاتنا العربية والإسلامية من تشوه في عمق قيمة الجمال وما يتصل بها من الصورة والتناسق والفنون والإبداع والأدب والشعر والتذوق الفني والجمالي. فالفنون وأسلوب التعبير عنها والكيفية التي تقدم للناس تعتبر المعيار والمقياس لحس المجتمع الذوقي والجمالي.
يشمل مجال الجمال الإنسان والوجود معاً؛ فيُطلق على سلوك الإنسان وأخلاقه وأحواله الظاهرة وكل ما يتعلق بوجدانه، كذلك يُطلق على الصور والأشكال أو على كل ما هو مادي، كجمال المحيط أو الفَرَس أو زهرة الخزامى…
حوى القرآن الكريم في آياته كل أنواع القيم الناظمة لعلاقة الإنسان بالله أو بنفسه أو بالآخرين أو بالوجود، وعلمنا أنها تنشأ من مصدرها الأعلى؛ الله الحق، وأنه تعالى الداعي إلى الحق، الجميل منتهى الحسن والبهاء، والخير الذي يشمل بعنايته جميع الموجودات. ولأن مسيرة حياة الإنسان الطبيعية تتجه دوماً للسعي إلى ما هو أفضل، ولأن هناك دائماً ما هو أفضل، وبما أننا لا ندرك هذا الأفضل إلا من خلال قيمة الجمال، فإن ثقافة الجمال وتجلياتها هي بالضبط ما يطور مجالات الحياة بكافة أشكالها؛ سياسية واقتصادية واجتماعية…
والجمال حاجة فطرية لدى الإنسان مطلوبة لذاتها، تطلبها عينه وأنفه وسمعه وعقله ووجدانه. والإنسان يصل إلى تذوق الجمال في ذروته من خلال الإتقان؛ إتقان أي عمل ما بهدف الوصول إلى كمال الشيء وسلامته من العيوب والنقائص. والله تعالى دلنا على قيمة الجمال في صنعته المتقنة، الخالية من العيوب والخلل في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} {الملك: 3-4]، وقال أيضاً في خلق الإنسان في أحسن هيئة: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7].
إن جمال الإنسان بكمال أخلاقه من صدق وشرف وعفة وعدل… وكلما ابتعد الإنسان عن هذه الصفات كلما اقترب من القبح أكثر. وأخبرنا الله تعالى أن رسالة إبليس على الأرض تتلخص في تزيين القبيح وتجميله: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]، وكذا أبالسة الإنس يجملون القبيح من الفعل والصورة حتى اختلط على الناس ما بين الحسن والسيء، وبين الخير والشر؛ فانتشار النفاق والكذب والتملق والفحش والأنانية والغش والظلم، كلها قبائح اتسمت بها المنظومة القيمية لمجتمعنا، والتي اُستخدم فيها مفهوم الجمال لأغراض أيديولوجية واستعمالات وظيفية فقط تخدم نفوس بشرية مريضة مشوَهة مشوِهة. وخُلع على هذا المفهوم مادية فجة محضة إرضاءً لغرائز حيوانية، وخير تجلي لذلك أصناف الفنون الهابطة أو السطحية التي سادت في المجتمع.
السلطة الطغمة في سورية لم تكتف بتدمير الحياة السياسية ومنع حقوق كثيرة، بل دمرت القيم الجمالية المتأصلة في ديننا الإسلامي. ثقافة البعث والاستبداد تلحظها بوضوح في شوارع سورية وأسواقها وأحياءها وعمرانها ككل، حيث رُسمت بريشة قبيحة لونتها بألوان البؤس والتعب تارة، وبالانحطاط الأخلاقي والفحش والفجور تارات أُخَر.
الأنكى أنه، وبتخطيط مسبق، وزّعت السلطة الحاكمة أبنية الأجهزة الأمنية في المدن السورية في قلب الأحياء السكنية، ودمشق خير مثال على التشوه الذي جمع فيه ما بين المظاهر العسكرية والمخابراتية وبين المدنيين؛ فتلحظ في كل حي من أحيائها السكنية، ثكنة عسكرية أو فرع مخابرات أو فرع أمني… في محاولة لربط نظام البعث هذه الأجهزة بشؤون الفرد كافة، ما جعلها تتغول وتصبح كابوساً في عقل السوري ووجدانه.
عدا عن أنك ما إن تخرج من العاصمة دمشق حتى تلمس الفقر والشقاء على وجوه الناس، والقبح والتشويه على العمران؛ أبرزها فقدان الخدمات في أرياف المدن السورية على نحو يجعل المرء حيراناً أي نفوس مشوهة رضت بهذا الفارق الجمالي بين العاصمة وبين ريفها، هذا الريف الذي لا يبعد عن المدينة سوى بضعة كيلومترات!
التشويه الجمالي طال التربية والحياة التعليمية بطبيعة الحال، فتربت الأجيال على خلل في التفكير، وانعدام المنطق، والبعد عن التحليل القويم وآليات التفكير السليمة. وانهار التعليم لانتشار الفساد والمحسوبية في أجهزة التربية والحياة الثقافية. وفي انتشار هذا القبح والتشويه انتفت خيرية المجتمع، وتم القضاء على أي فضاء ثقافي أو معرفي أو جمالي إن لم يكن تحت شعار “بعثية المعرفة والعلم وقيمها”. حتى الدين لم يسلم من هذا التشويه فظهر جلياً العداء للإسلام مع إعلاء قيم الزهد والانسحابية والاقتصار على الشعائر الظاهرية وتفريغ الدين من قيمه السامية وعقيدته الجوهرية، وإلباس الإسلام ثوب البعثية عنوة وتطويعاً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
طاغوت سورية استلهم نماذج التعليم القمعية، كمثيلتها في تجارب هتلر ألمانيا وموسوليني إيطاليا وستالين روسيا. فكانوا نماذج مُثلى لتفشي قيم الاستبداد والطغيان والفساد والشر والقبح، الذين قال فيهم سبحانه وتعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42].
ونحن نقرأ تاريخ تلك النظم الاستبدادية في شؤون التعليم والعلم والثقافة نستقرأ معها حال العلم والتعليم في مؤسساته ومنظماته المختلفة في ظل حزب البعث السوري بدءاً من منظمة طلائع البعث ومروراً باتحاد المعلمين والاتحاد الوطني لشبيبة الثورة وانتهاءً بالمدارس والجامعات وإعداد شباب وشابات سورية؛ فالأطفال في معسكرات موسوليني مثلاً كانوا يرددون “أنا أؤمن بروما، الخالدة، أم بلادي… أؤمن بعبقرية موسوليني، وببعث الإمبراطورية من موتها[32]”، وفي حزب البعث السوري كانت أكثر الشعارات التي رددها طلائع البعث: “إلى الأبد… إلى الأبد… يا حافظ الأسد”!
وبالطبع فإن هناك الكثير من الجوانب المتداخلة بين المذاهب الاشتراكية والشيوعية الغربية وبين حزب البعث السوري، تكمن في أنها تستقي منهجية واحدة لاغتيال عقول الأطفال والشباب وزرع أيديولوجية الاستبداد والقمع وتقديس الأب القائد الخالد، ليخلق جيلاً، في ظل ثقافة نظام الحكم الشمولي، مشوّهاً في قيمه وحسه الجمالي والفني والأدبي على حدٍ سواء، حاملاً في شخصيته لصفات قبيحة أقلها -إن تفاءلنا- الأنانية وعبادة الذات والانصياع القطيعي الأعمى، وأفظعها دفن مشاعر النخوة والغيرة وسيادة الوهن والنفاق والتملق.
ولا أدل على التشويه الجمالي المادي والمعنوي، أصنام ذلك الطاغوت الحارسة –بزعمهم- لكل مدينة والمنتصبة عند مدخل كل قرية، تملأ صوره وأقواله الأزقة والأمكنة كلها؛ في كل حارة وعلى أي جدار (حتى وإن كان جدار المراحيض أو حاويات القمامة)، وفي المؤسسات الحكومية وحتى الخاصة، وفي قاعات المدارس والجامعات والندوات، حيث تُدرس كلمات حافظ الخالدة ومن بعده كلمات ابنه في التاريخ والجغرافيا والفلسفة والرياضة، حتى الأدب في ثقافة البعث والثورة الاشتراكية اتسم بطغيان الأدب المنعدم منه الأدب والأخلاق، التي وظفت جميعها لخدمة ثقافة هذه الأيديولوجيا مما خلقت فكراً واحداً فاسداً، مشوه القالب والمضمون، نلحظه جيداً في بروز طابع واحد لسيناريو واحد في الصالونات الأدبية والأمسيات الشعرية، والخطب الدينية، يتبع لفرع الأمن والمخابرات نفسه، يُمجد في افتتاحياتها الأب الأديب والشاعر الرمز المؤمن التقي، وتتشبب به الأديبات والأدباء والمثقفون ومتعهدو الدين جميعاً، مشجع الثقافة والفنون (الهابطة بالطبع والخالية من المضمون) وحافظ الدين من الضياع، وفي كل مرة يعقدون جلساتهم الظلامية يقسمون فيها باسم الأب الخالد على نشر قيم البعث والعلمانية والفساد.
أخيراً…
ما كان من أمة مهدورة إنسانياً، خضعت طويلاً لحياة الذل والظلم، المقهورة وجودياً والمستلبة وجدانياً، إلا الخروج من أجل الكرامة واستعادة الحقوق من سلطة مستبدة، عازمةً على عدم العودة عن جادة طريقها إلا وانتزعت حقها في تقرير شؤون حياتها وإدارتها.
وكانت الثورة السورية، ثورة أشعلت نور القيم الإنسانية المغيبة والمستلبة في حقبة الأسدين. لهيب الأخلاق السامية، أنارتها أرواح آلاف الشباب والشابات وأجسادهم في وجه أبشع النظم السياسية وأفظعها شراً على الإطلاق (لا أقصد هنا نظام السلطة الحاكمة في سورية وحسب، بل وكل النُظُم والميليشيات والجيوش والجماعات التي وقفت معه ودعمته عسكرياً ومادياً وسياسياً ولوجستياً)، متوسلين قيمة القيم في إيثارهم الشهادة من أجل حياة كريمة عادلة لمجتمعهم، ولمجتمعات غيرهم من العرب المسلمين. وفي قلبهم لمنظومة قيم راكدة بائسة فاسدة جثت على صدور الشعوب عقوداً، سطّروا قصة ملحمة أسطورية ستغدو نموذجاً للتضحية والصبر والإيثار والصمود.
الثورة ليست شعارات، بل هي هدم البالي والبائد من النظام القديم، وبناء الجديد، وهي قبل كل شيء ثورة على ما تربت عليه الأنفس وأُشربت به العقول، طوعاً أو كرهاً، من قيم فاسدة زائفة، طوقتها السلطة الاستبدادية في مجالات حياتها كافة.
ومهما طالت صراعات القوى الدولية والإقليمية والمحلية لفرض النفوذ وتحقيق المصالح، ومهما كانت وقع آثار الحرب مدمرة ومؤلمة على البنيان والنفوس، إلا أن الحلم في إعادة بناء دولة عادلة قوية بقوة الأخلاق والقيم الفاضلة سيتحقق لا محالة، وهو ما تعلمناه من تجارب الأمم السابقة ومن حركة التاريخ الثورية.
لا ولادة دون مخاض مؤلم، ولكل عواصف مطرها وبركتها، ومع كل رياح خيرها، وقد خرجنا بالثورة فحاكوها رتقاً، وسنعيدها فتقا، وإن عادوا عدنا؛ فالمعركة في الشام من أقسى المعارك وأشدها، ما يحدث على أرضها أشبه بثورة الأنبياء والعظماء؛ إنها ثورة قيم وأخلاق على المنظومة القيمية للعالم أجمع.
المراجع
[1] على الصعيد القيمي، موضوع هذا البحث، فإن ما يحدث اليوم على الأراضي السورية يفارق الحدود الجغرافية لسورية، ويتجاوز القضايا السياسية المحلية والإقليمية ليصل إلى حدود قوى المجتمع الدولي ونظمها السياسية والاقتصادية والقيمية؛ لذلك وللتوسعة في دلالة المصطلح فإنني أستخدم أحياناً “ثورة الشام” حسب السياق، بدلاً من الثورة السورية.
[2] لابد أن أسجل اعتراضي هنا على ما اصطلح عليه الإعلام الغربي والعديد من الباحثين والمنظرين، بتسمية الثوار بـ”المتمردين”، ووصف ما يحدث في سورية بـ”الحرب الأهلية”، (فما هذا إلا تدليس وتلبيس وتزييف للحقائق، وهو أمر فطنا له وأصبحنا على وعي بسياسية الكيل بمكيالين واللعب بالرأي العام وتزوير التاريخ، من خلال التحكم بوسائل الإعلام وضخ كبير لوقائع مشوهة أو مغلوطة)، لا على أن هناك أناس قاموا بثورة أو بحراك اجتماعي ضد سلطة أقلية حاكمة مستبدة أهدرت دم كل من وقف بوجهها، والذين كانت غالبيتهم من السنة. وفي العودة إلى التاريخ الإنساني نجد أنه في حين تسمى أحداث عام 1789م التي جرت في فرنسا بـ”الثورة الفرنسية” والتي استمرت 80 سنة وعايشت الكثير من الدماء والإعدامات بسبب انقلابها على قيم الثورة الأولى، ثم شهدت حرباً أهلية وثورة مضادة بل ممارسات استبدادية في حقبة الثورة، مع ذلك ظلت تسمى بالثورة، فإن الثورة السورية حتى الآن يتم تصويرها على أنها حرب أهلية بين طوائف المجتمع السوري أو بين السنة والنصيرية على التساوي، أو على أنها قوى متمردة غوغائية قامت ضد السلطة الحاكمة الشرعية. أقول إن كانت حرباً أهلية فهل يقتل ويذبح أهالي من السنة أهالي من النصيرية أو الشيعة أو حتى الأكراد، كما يفعل هؤلاء بالقرى والمدن التي يقطنها السنة؟!
[3] صدرت الكثير من دعوات الفلاسفة والمفكرين لاعتبار الدين الكمال المثالي الأعلى للقيم المطلقة، حيث اعتبرHogding مثلاً، أن الدين يحفظ القيم، وكيركيجارد الفيلسوف الألماني كان قد شنّ نقداً كبيراً على مدرج الجمال والأخلاق لحساب المدرج الثالث من مدارج السلوك، أي الدين. انظر: د. صلاح قنصوه، نظرية القيم في الفكر المعاصر، بيروت: دار التنوير، ط2، 1984، ص 43.
[4] الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 2005، ص16، حاشية 5. ولابد أن ننوه هنا إلى أنه مع تطور الفكر الإنساني والنظريات الفلسفية والأخلاقية تنوع تصنيف منظومة القيم وأصبحت تنقسم إلى ستة تصنيفات، وذلك حسب عالم الاجتماع الألماني سبرانجر، وهي: القيم الدينية، القيم السياسية، القيم الاجتماعية، القيم النظرية، القيم الاقتصاديّة، والقيم الجمالية. راجع صراع القيم بين الإسلام والغرب، رضوان زيادة، كيفن جيه أوتول، دمشق: دار الفكر، 2010، ص 34- 35.
[5] كونراد شتيلير، أجهزة الأمن اللبنانية والسورية: بصمة الانتداب الفرنسي، مبادرة الإصلاح العربي، أغسطس/آب 2012. راجع كذلك للاستزادة مرهف جويجاتي، إصلاح القطاع الأمني في سورية في حقبة ما بعد الأسد، مبادرة الإصلاح العربي، أغسطس/آب، 2014.
[6] لم تكن هذه المنهجية ببعيدة عن المنظومة القيمية في الغرب، حيث يقول ول ديورانت إن الأخلاق المعترف بها في أوروبا وأميركا هي الأخلاق المسيحية المسالمة، “ولكن الأخلاق الفعلية والمطبقة هي أخلاق الحرب والنهب والسلب التي استمدت منها الطبقات الحاكمة أخلاقها معظم أنحاء أوروبا”. ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة: فتح الله محمد المشعشع، بيروت: مكتبة المعارف، ط5، 1985، ص 489-490.
[7] د. محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية، جدلية الجمود والإصلاح، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، مارس/آذار 2012، ص 164 – 165.
[8] أطلق هذا اللفظ وفي خاطري عبارة د. غليون الآتية: “لم يعد هناك فارق كبير في الحياة الدولية بين السياسة والجريمة المنظمة، وأن إدارة الدولة والنظام الدولي لم تعد تختلف كثيراً في عصرنا عن إدارة المافيا أعمالها ومصالحها الإجرامية”. هل نحن أمام انقلاب السياسة الدولية في القضية السورية؟
[9] راجع مقالته القيّمة: الحرب الدائمة وشبكات الإجرام، حيث بحث فيها عن سلسلة شبكات الإجرام في حربها الدائمة ضد الأمة، واختراقها لها في التركيبة العميقة للمجتمع العربي من خلال مليشيات خمس تصول وتجول فيه: اثنتان لإيران: الباطنية والصليبية (حلفهما في الشام وفي مصر). واثنتان لإسرائيل: العلمانية والليبرالية (حلفهما في كل الأقطار). والأخيرة هي الأنظمة القومية الفاشية ونخبها وأجهزتها التي تستخدمها وتغطي عليها.
[10] د. مصطفى حجازي، ثورة الشباب وتحولاتها الثقافية. ويقول: إن أسوأ أنواع الثورات تلك التي يكون دافعها اقتصادي، حاملها جياع الدهماء، ستكون أقرب إلى الفوضى، ولن تنتهي إلى إلا لإشباع البطون، هذا إن أُشبعت.
[11] مستنداً إلى نظرية ابن تيمية القائلة بدور أنصاف الرجال في إفساد المجتمع والأمة، “ما أفسد الدنيا إلا أربعة؛ نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب”. ابن تيمية، كتاب الحموية.
[12] سيكون لي مقام قريب -إن شاء الله- لمقال عن الحالة الدينية في سورية ومنظومتها القيمية.
[13]جاد الكريم الجباعي، أثر الحرب واقتصادها السياسي في المؤسسات العامة (النواة المركزية للسلطة)، مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية، سبتمبر/أيلول 2015، ص6. انظر في البحث نفسه والصفحة ذاتها، قلب الحقيقة وتطويع حادثة “عمورية” التاريخية لتتلاءم مع منظومة قيم الباحث في الاتجاه الجارف المجحف في ربط العنف بأمجاد الأمة الإسلامية وتراثها. في حين كانت تلك المعركة “عمورية” رداً على استباحة البيزنطيين أعراض المدنيين وانتهاك حرماتهم في بلاد الشام، حيث سير المعتصم جيشاً لنجدتهم. وعلى إثر تلك المعركة نظم أبو تمام الطائي قصيدته المشهورة التي أشار إليها المؤلف للدلالة على العنف في التراث الإسلامي، تقول: تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت** جلودهم قبل نضج التين والعنب.
[14] باروت، سبق ذكره، ص 170.
[15] د. أكرم حجازي، فيسبوك.
[16] الدولة “الساقطة”… ساقطة، الجزيرة نت، 03 مايو/ أيار 2015.
[17] اشتهر هذا المصطلح مع ميشيل سورا الذي جاء في كتابه الفاضح لدولة الأسدين، سورية الدولة المتوحشة. راجع تعريف بالكتاب على الرابط.
[18] المرجع السابق.
[19] دراسة فلسفية لخارطة الطريق للحفاظ على مكتسبات الثورة، مركز بحوث للدراسات، ص 10-11.
[20] مروان قبلان، الثورة والصراع على سورية، تداعيات الفشل في إدارة لعبة التوازنات الإقليمية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يناير/ كانون الثاني 2016، ص 66.
[21] اختلاف خطاب الممانعة لدى النظام السوري، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سبتمبر/ أيلول 2014.
19 عبد الرحمن بدوي، الأخلاق النظرية، الكويت: وكالة المطبوعات، ط2، 1976، ص 170.
[23] أنور البني، الإرهاب في سورية… لماذا؟ من أين؟ إلى أين؟، المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، 4 أكتوبر/تشرين الأول 2015.
[24] أنور البني، إرهاب المحاكم في سورية، المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، 4 أغسطس/ آب 2015.
[25] لستُ هنا في وارد الوقوف على أداء المعارضة السورية ووضع أجسامها في سياقها الحقيقي ضمن منظومة القيم الدولية وندها ثورة الشام القيمية، فلذلك مقام ومقال آخر سأكتب عنه في مناسبات ثانية بإذن الله.
[26] راجع دور كتائب البعث (شباب وشابات) في قمع وإرهاب الجامعيين في الجامعات السورية أو مشاركتهم في حملات التفتيش والوقوف على الحواجز التابعة لجيش نظام الأسد، والذين خضعوا إلى تدريبات عسكرية وبلغ عددهم حوالي 7 آلاف. كتائب البعث، جامعيون في خدمة النظام، الجزيرة. نت.
الجباعي، أثر اقتصاد الحرب في العلاقات الاجتماعية والقيم التي تحكمها، مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية، أغسطس/آب 2015، ص3. [27]
[28] الجباعي، أثر الحرب واقتصادها السياسي في المؤسسات العامة، سبق ذكره، ص8.
[29] باروت، سبق ذكره، ص 91. راجع كذلك الفصل الثاني من الكتاب تطور العلاقة يبن الدولة ورجال الأعمال في عهد الأسد الابن.
باروت، سبق ذكره، ص 96.[30]
[31] راجع مقالنا: هل سنتجاوز الحاجات الفسيولوجية يوماً؟
[32] غرس الديكتاتورية: نظام التعليم في ألمانيا (هتلر) وروسيا (ستالين) وإيطاليا (موسوليني).