قاسى المسلم في مشرق العالم ومغربه ما قاساه جراء خضوعه طويلاً لبراثن الاستعمار المعنوي والمادي، والاستلاب الفكري والانتهاك الجسدي، لصالح ذلك الاستعمار ومصالحه، ووفقاً لما حدده وارتضاه للشعوب المستضعفة حياةً ومنحىً وهدفاً؛ متخذاً السيطرة عليها والتحكم بمقدراتها غاية استراتيجياته؛ فكان أن سجن ذلك الاستعمار تلك الشعوب في دائرة الإحباط واليأس والفشل وقلة الحيلة والخضوع والوهن، فسلبوا منهم الحق في حياة كريمة، وفقدوا مع الزمن قيمة الحق في الوجود الإنساني والإحساس بها.
ثم أتت النُظُم العربية الشمولية المستبدة، والتي ادعت استقلالها وتحررها من تلك القوى الاستعمارية وقوى الاحتلال، فنجحت في تغليف مجتمعاتها بالقاعدة الوهمية؛ “الشعب يحيا ضمن إيقاع للحياة مقبول ومرضي عنه”، فاستكان شعور الشعب إلى هذا الوهم وركن إليه عقوداً طوالاً.
والحقيقة، أن تلك النظم اتخذت من الخوف والإذلال والتسلط وهدر قيمة الإنسان، مادياً ومعنوياً وجسدياً، سياسة ممنهجة لها -وهكذا حاله كان ولازال من المهد إلى اللحد- حين طبقتها في مؤسساتها الحكومية والإدارية والتعليمية، ناهيك عن أجهزتها الأمنية، بالتعاون مع قوى التحالف الخارجية، وأنصاف الرجال من العرب؛ من نخب وعلماء دين السلاطين، مما خلق كائنات يحركها الخوف والقهر والكره، إلى أن وصلنا إلى تقسيم مجتمعاتنا إلى الثنائية الممكنة التالية: كائن مُعذِّب وقاتل، وآخر مُعذَّب وضحية!
في مجال علم النفس، هناك ما يُعرف بـ”سلم الحاجات النفسية” (الخمس) الضرورية للفرد، والتي تجلت عند رائد مدرسة علم النفس الاجتماعي -ماسلوMaslow. ورغم أنه لا يصحّ استعمال النظريات التي تخصّ الأفراد لتفسير السلوك الجماعي، لكننا سوف نعتمدها من باب المجاز الذي يساعدنا على توضيح الصورة، وليس من باب البرهنة العلمية.
فكأن الفرد المولود في بلادنا يخرج إلى الوجود خروجاً اعتباطياً، ويشعر منذ لحظات الوعي الأولى بعبء وجوده ولا جدواه. وما كان من جوهر سياسة النظم الاستبدادية إلا حبس الفرد في متاهة الحاجة الإنسانية الضرورية الأولى، يصارع عبثاً ودون استطاعة لتجاوز هذه الدائرة إلى ما يليها من حاجاته الفطرية الضرورية الأخرى؛ فتبقى نشاطاته كافة، وفاعليته الإنسانية، محصورة في إشباع وتلبية حاجات بدائية كالحاجة إلى الطعام واللباس والمأوى والزواج والاستقرار. ليس ذلك فحسب بل لقد كُرست فكرة السعي إلى إشباع هذه الحاجات وكأنها الحاجات الجوهرية والنقطة النهائية في وجوده، التي يتوجب عليه الوصول إليها، فعززت فكرة أن الفرد الذي أوجد مستوىً مقبولاً من الحاجات “الفيزيولوجية” كتأمين المسكن والزواج والدخل الثابت هو الإنسان الناجح والجدير بالتقدير، لا بل مثال يُحتذى به!
الفرد في أي مجتمع إنساني طبيعي، ما إن يلبي الحاجة الأولى حتى ينتقل بشكل تلقائي إلى الدرجة الثانية من الحاجات الأساسية المتمثلة بالحاجة إلى “الأمن”، ومن ثم ينتقل إلى “الانتماء”، وإلى “التقدير”، وأخيراً “تحقيق الذات”، فيكتمل بذلك سلم الحاجات النفسية الأساسية للفرد في المجتمع السوي.
قيمة الحق في الإحساس بالأمن تعد حاجة أساسية في حياة الفرد، الذي لطالما أحس في ظل تلك الحكومات المستبدة، (سواء شخصه أو عائلته أو مقتنياته)، أنه في خطر دائم، بل وخَبِر اضطهاد وامتهان كرامته في كل لحظة… لأنه في ظل تلك النظم يحيا دائماً تحت تهديد التشريد وعدم الاستقرار المادي والمعنوي، ناهيك عن خوفه الدائم من الاعتقال والتصفية إن فكر أن يخالف سياسة البلد أو يصدح بكلمة حق في وجه ظالم، أو يمنع مفسداً في الأرض، ليصبح ذكره في خبر “كان وأخواتها”.
بعد حاجة الفرد “للأمن والأمان” في مجتمعه، تأتي قيمة “انتمائه واندماجه” مع بني جلدته وجماعته، لأنه بحاجة إلى مد جسور علاقات اجتماعية معينة مع محيطه، لكن ما نلاحظه أن العام السائد في المجتمعات الديكتاتورية أن الفرد فيها منعزل، مفضلاً الابتعاد عن الانخراط ضمن الجماعات والتكتلات، لأسباب عدة، أهمها؛ الخوف على نفسه، أي أنه يعود إلى الحاجة السابقة وهي حاجة “الأمان” التي لم تُشبع بعد، وعندها لن يستطيع الانعتاق من قلق الخوف الذي يهدده ليل نهار. بالتالي، إن لم يتم إشباع حاجة “الانتماء والاندماج” بين الأفراد، فإن الفرد لن يستطيع أن ينال “التقدير والاحترام” والثناء من قبل محيطه؛ الحاجة الرابعة من سلم الحاجات الأساسية. ومن اللافت للنظر، أنه وُضعت في مجتمعاتنا عقبات كثيرة تحول دون وصول الفرد إلى الغايات الكبرى في أعلى مراتب السلم النفسي.
ثم جاءت الثورات العربية… من أجل الخروج على تلك المنظومة الحياتية لكسرها وإحداث قطيعة معها، وبناء منظومة قيمية تراعي كرامة الفرد وإنسانيته، وإلا فأكاد أجزم بعبثية الثورات -مع التضحيات الجسام والمآسي والتهجير والتشريد لمئات الآلاف من البشر- إن لم تحقق هذا الهدف.
وتأتي الفاجعة، ونحن في خضم الثورة السورية، وفي ختام سنتها السادسة، نقف وقفة صدق مع عملية سير بعض المؤسسات والمنظمات والأحزاب الثورية والتي نجد أن البعض منها لم تخرج عن ممارسة الاستراتيجية نفسها، تلك الاستراتيجية التي تفننت النظم الديكتاتورية بممارستها بعنف وعنجهية، سواء أكانت المؤسسة الثورية ذات تمويل خارجي وإدارة سورية، أو كانت من تمويل سوري وإدارة سورية. وتجد الفرد في هذه المؤسسة أو تلك المنظمة، يقبع مجبراً في دوامة الدائرة الأولى من الحاجات الخمس؛ يسعى بصعوبة لتأمين حاجات الطعام والمسكن والزواج، وحسب، ثم يجد من البد الوقوف عند هذا الحد، فلا هو يشعر أنه يحيا ببيئة آمنة، ولا أحس يوماً بالانتماء، ولن ينال تقدير الذات بطبيعة الحال، ولا حتى خطر على باله بأنه قد يحقق ذاته يوماً ما! فكيف والحال هذه سيعمل من أجل وطنه، ومن أجل أهداف الثورة ومبادئها، دون أن تصيبه الخيبة كأقل مصاب، والاعتزال كأكثره؟
ويحضر على بالي مثال خاصّ في الحطّ من شأن الحاجات النفسية الأربع والوقوف عند الحاجة الأولى، ويتمثّل في طريقة معاملة ذكور تلك المؤسسات الثورية لإناثها، وهو بالمناسبة منتشر حتى بين أوساط ما يُسمى “النخب” والمثقفين والأكاديميين، فتراهم يتسابقون في الإعلان عن أنفسهم كذكور منحدرين من الحضارة الإنسانية الكلية، وكمدنيين ينادون بحقوق المرأة -ولست من أنصارها-، ويحتفلون بعيدها السنوي الأممي، ويقدمون المقترحات للإشادة بدور المرأة في المجتمع، وتُدهش لخطابهم في كل مؤتمر ومنبر حين تراهم يقحمونها كقضية جوهرية في سياق الحديث عن الثورة والحرية والعدالة، فيتخذونها زينة لخطابهم ومكياجه، بل ويستخدمون إناث محيطهم كعارضات جمال؛ إما لتقديم أنفسهم كالأولاد “الشطار” الحافظين لكراسات حقوق الإنسان والمرأة، أو لجلب التمويل والدعم من المنظمات الدولية والإقليمية.
ولا ينسون أبداً الإدلاء بدلوهم عند لقائهم بشخصيات حقوقية أو سياسية دولية أو بممثلين عن منظمات خيرية عالمية؛ فيتسابقون فيما بينهم للتنديد بالعنف الممارس ضد المرأة بأشكاله كافة؛ المعنوي والجسدي واللفظي، ويرمون الوعود فُرادى وزُمَر، ويعقدون القسم على أن يعملوا على تمكينها في سورية الجديدة؛ سورية الحرية والكرامة، ويلعنون حقبة نظام الأسد المستبد السبب الأساس في تخلف وضع المرأة، ساعين لأخذ صكّ الاعتراف بأنهم ليسوا كمتخلفي بني قومهم وجلدتهم؛ أولئك الذين كبلوا المرأة وحبسوها في قفص ليجلدوها في اليوم ألف جلدة وجلدة.
وما إن يدير أربابهم (الدوليون والحقوقيون) ظهورهم عنهم، وينفردون بوجودهم مع المرأة، في دائرة مجال عملهم أو في مجال فكري ما أو حتى في مطبخ “سياسي” معين، إلا وتجدهم لا يوفرون سلوكاً لينالوا منها، ويسخّفوا من عملها، ويعدوها بالفشل والتنحي جانباً. ليس هذا فحسب بل يتناوب عليها أنصاف المثقفين هؤلاء تحطيماً لمعنوياتها، وإقصاءً لآرائها، وتكبيلاً لروحها… حتى ينال منها الملل والإحباط… فتمشي القَهْقَرى لتحفظ بعضاً من أنوثتها وذاتها، وتحمل أفكارها في حقيبتها إلى جولة أخرى مع ذكور نظام الحكم البائد، وأشباه الرجال؛ الأبناء الأوفياء لذاك النظام، مدعي التحضر والتمدن ومناصرة حقوق المرأة.
هل سيأتي يوم نقطع فيه بشكل قاطع مع منظومة قيم النظم الاستبدادية، الساقطة أخلاقياً، ونؤسس مجتمعاً قائماً بصدق على قيم العدل والكرامة، مؤمناً بذات الفرد وحاجاته وقيمة وجوده?
{إن غداً لناظره قريب}.