يُعد مفهوم “التعوُّد” أو “العادة” من المفاهيم الجوهرية التي شغلت الفكر الإنساني عبر العصور، وتناوله الفلاسفة والمفكرون والأدباء بأبعاده الفلسفية والنفسية والاجتماعية. فمن كونه آلية لتشكيل السلوك والأخلاق الإنساني، إلى كونه قيداً على الحرية والوعي، وصولاً إلى كونه مسؤولاً عن الخمود أو محفزاً للنهوض، يظل التعود حاضراً بقوة في تشكيل فهمنا للعالم ولذواتنا.
تَعَّوُّدَ الشيء: أَلِفَ شيئاً ما أو سلوكاً معيناً وتعايش معه. صيّره عادة له. جعله من عاداته حتى أصبح متماهياً معه ويصعب تركه.
في علم النفس: التعود ضعفٌ عن الاستجابة السلوكية القويمة لمثير ما بعد التعرض له بشكل متكرر.
هنا أقف على مفهوم التعود في سياقات مختلفة انتقائية، بدءاً من الفلسفة الإسلامية والعربية الكلاسيكية، مروراً بالفلسفة الغربية، ثم الأدب العربي الكلاسيكي والحديث، وانتهاءً بالفكر العربي المعاصر، علّنا ننجح في بيان التداخلات والتخارجات في تناول هذا المفهوم الذي يشكّل قوة فاعلة في تشكيل الوجود الإنساني ووجدانه في مستوياته الفردية والاجتماعية والفكرية.
يُعد الإمام أبو حامد الغزالي (ت. 505 هـ / 1111 م) من أبرز الفلاسفة والمتكلمين المسلمين الذين تناولوا مفهوم العادة بشكل عميق، خاصة في سياق نقده للفلاسفة ومبدأ السببية. لم يكن الغزالي أول من طرح فكرة العادة، فقد سبقه إليها بعض أئمة المعتزلة، لكنه أضفى عليها بعداً فلسفياً وعقائدياً مهماً.
يذهب الغزالي إلى أن العلاقة بين السبب والمسبب ليست علاقة ضرورية ذاتية، بل هي علاقة اقتران تحدث بـ”عادة” أجرى الله عليها الكون. فمثلاً، النار لا تحرق بذاتها، بل الله هو الذي يخلق الإحراق عند ملامسة النار للشيء. هذا يعني أن الاقتران بين الظواهر (مثل النار والإحراق) هو مجرد عادة إلهية، وليس قانوناً طبيعياً حتمياً تملكه الأشياء بذاتها. وهذا يفتح الباب أمام الإيمان بالمعجزات التي تتجاوز المألوف.
ومع نقده للسببية الضرورية إلا أنه لا ينكر وجود نظام في الكون. هذا النظام هو سنة الله في خلقه، فالظواهر تتكرر بشكل منتظم لأن الله أجرى العادة على ذلك، مما يرسخ في أذهاننا توقع حدوثها.
عبد الرحمن بن خلدون (ت. 808 هـ / 1406 م) مؤسس علم الاجتماع الحديث، تناول مفهوم العادة من منظور اجتماعي وتاريخي عميق في “مقدمته” الشهيرة.
يرى ابن خلدون أن العادات والتقاليد هي جزء أساس من “العمران البشري”. إنها قوة اجتماعية، تشكل سلوك الأفراد والجماعات، وتؤثر في بناء الدول وسقوطها. العادات ليست مجرد أفعال فردية، بل هي قوى جماعية تتراكم عبر الأجيال وتصبح جزءاً من الهوية الثقافية للمجتمع.
وللعادة تأثير على الطباع والأخلاق، فالبيئة والعادات التي ينشأ عليها الإنسان تؤثر بشكل كبير في تكوين شخصيته وسلوكه. على سبيل المثال، يرى أن أهل البدو يكتسبون عادات الشجاعة والخشونة بسبب طبيعة حياتهم، بينما يميل أهل الحضر إلى عادات الرخاء واللين.
كذلك للعادة دور في دورة حياة الدول. فالدولة تمر بمراحل مختلفة (النشأة، القوة، الازدهار، الانحطاط)، ولكل مرحلة عاداتها وتقاليدها. وعندما تصبح عادات الترف والرخاء والتكاسل سائدة في دولة ما، وتفقد “العصبية” التي كانت أساس قوتها، تصبح العادات السيئة راسخة في وجدان الشعوب وتمثل قوة بحد ذاتها يَصعب مقاومتها أو تغييرها. وهو ما يُسمى “مستقر العادة”، هو عامل إيجابي في بناء الحضارة إلا أنه يحمل وجهاً سلبياً عندما يتحول إلى جمود وخمول وتكاسل.
نال هذا المفهوم حضوراً بارزاً أيضاً في الفلسفة الغربية، وإن اختلفت زوايا النظر والأبعاد التي منحت له.
أرسطو في كتابه الشهير “الأخلاق إلى نيقوماخوس”، يطرح فكرة محورية مفادها أن الفضيلة ليست مجرد معرفة نظرية أو حالة فطرية، بل هي ملكة مكتسبة تتكون من خلال الممارسة المتكررة للأفعال الفاضلة. ما يعني أن التعود أو العادة تلعب دوراً محورياً في تكوين أخلاق الفرد وفضائله. كما أن التعلم يغدو أفضل بالممارسة، فالإنسان يصبح عادلاً بممارسة العدل، وكريماً عزيزاً بممارسة العزة والدفاع عن الكرامة في جميع المواقف، والرحيم بممارسة الرحمة وهكذا ومع تكرار تلك الأفعال الفاضلة تغدو النفس فاضلة، وكأنها جزء أصيل من شخصيتنا وطبيعة راسخة من الفضائل.
ونظرية الوسط الذهبي مشهورة عند أرسطو، والتدريب على تحري الوسطية بين رذيلتين يتأتى من تعودنا على اختيار السلوك الصحيح في مختلف المواقف. ولو كل فرد من أفراد المجتمع اختار الفعل الصحيح، فإن ذلك سيتعدى أثره إلى المجتمع ومع التكرار والتعود على تكرار السلوكات الفاضلة فإن المجتمع ولا شك سيغدو فاضلاً.
التعود عند أرسطو إذن هو الآلية المركزية الممَكّنة للإنسان لتنقله من امتلاك القدرة على الفضيلة إلى تنزيلها في سلوكه وشخصيته ومن ثم مجتمعه.
وإذا ما أردنا الذهاب إلى النقيض من النظرية الأرسطية عن التعود نجدنا أمام الفلسفة الوجودية في العصر الحديث. فقد اتخذت هذه الفكرة منحىً سلبياً، حيث يُنظر إلى التعود على أنه عائق أمام الحرية الأصيلة والوعي الحقيقي بالوجود.
فالانغماس في العادات والروتين اليومي يمكن أن يؤدي إلى نوع من “النوم الوجودي” أو “الوعي الزائف، كما عند سارتر وكامو.
فسارتر يؤمن بأن الإنسان يولد بلا ماهية محددة، وأنه حر تمامًا في تحديد ماهيته من خلال اختياراته وأفعاله. فالوجود سابق على الماهية. وهذا ما يؤدي بالإنسان عبر التعود إلى أن يرتدي قناعاً يُخفي وراءه حقيقة حريته ومسؤوليته تجاه الاختيار الحرّ الواعي. هنا يظهر الانغماس في سوء نوايانا عن أنفسنا في محاولة خداعها بأننا لسنا أحراراً وأننا مقيدون بأغلال اجتماعية وعادات معينة. ويتناسى الإنسان أنه ليس مجرد موظف في مؤسسة أو عامل في مطعم أو طبيب في مشفى أو باحث في مركز أبحاث أو جندي في جيش.. بل بالإمكان تجاوز هذه الأدوار بوصفنا كائنات حرّة تملك القدرة على كسر هذه الأنماط والتعبير عن الحرية والكرامة.
كامو العبثي يذهب إلى أن التعود وسيلة للهروب من العبثية الكونية. العبثية بزعمه هي ذلك التناقض بين رغبة الإنسان في المعنى والحضور وبين صمت الكون ولا اكتراثه!
وإذا ما أخذنا الطرف الثاني من المنحى السلبي للتعود فلا بد والوقوف مع الفلسفة النقدية التي عدته “وعياً زائفاً”.
يستخدم فلاسفة النقد الاجتماعيين والسياسيين، أثر العادات والأفكار السائدة على تشكيل وعينا بطريقة تخدم مصالح معينة أو تحافظ على الوضع القائم. فالتعود قد يؤدي إلى قبول الظلم أو التنمطيات أو الأحكام المسبقة أو حكم سياسي ما أو تطبيع مع ثقافة غريبة دون نقد أو تساؤل، مما يعيق التفكر الحر ويحول دون التغيير الاجتماعي.
ذلك أن التعود هنا ليس مجرد سلوك متكرر، بل يصبح حالة ذهنية يمكن أن تسلب الإنسان حريته وقدرته على الاختيار وترسم مواقفه الوجودية، وتحرف مساره عن معرفة حقيقة وجوده، وتجعله يعيش حياة غير أصيلة خامدة مستكينة خاضعة بعيدة كل البعد عن الوعي الحقيقي.
التعود في الأدب العربي الكلاسيكي ظهر مع مشاعر الرثاء والحزن على الديار التي اعتادها، وعلى الأحبة الذين فقدهم وأصبح يحيا حياة بلا معنى مؤلمة على غيابهم.
أما بعض التعبيرات عن ارتباط التعود والحياة الروتينية بالسأم والملل فقد كانت تعبيرات عامة لم تدخل في عمق فلسفة التعود.
مع تأثر الأدب العربي الحديث بالمدارس الغربية (الواقعية، الوجودية، العبثية)، بدأ مفهوم “التعود” و”الروتين القاتل” يظهر بشكل أكثر وضوحاً كقضية مركزية في العديد من الأعمال، خاصة في الرواية والقصة القصيرة التي تسمح بتعمق أكبر في النفس البشرية وتفاصيل الحياة اليومية.
فالروتين المميت يسحق الروح ويجعل الحياة بلا معنى. يُفقد النفس الإحساس بالوجود أو الهدف أو المعنى.
لذلك فإن أغلب الأعمال الأدبية تصور الشخصيات الأساسية متمردة على العادات والتقاليد الاجتماعية وعلى الروتين اليومي القاتل. في بعض الأحيان قد يظهر التعود وكأنه آلية دفاعية يلجأ إليها الإنسان للتكيف مع ظروف قاهرة.
في الأدب الغربي، تظهر رواية “الغريب” (1942) للعبثي الوجودي ألبير كامو كأشهر عمل أدبي يكشف عن آلية التعود الاجتماعي، ذلك التعود الذي يقترب من العبثية المقيدة للحرية الفردية والوعي الأصيل. ذلك أن رفض هذا التعود يمكن أن يؤدي إلى مواجهة مؤلمة ولكنها ضرورية مع عبثية الحياة. وعندها يقف هذا الوعي الحر الرافض للسلوك الاجتماعي المعتاد أمام محكمة تحكم عليه بالإعدام راضياً لا مبالياً منسجماً مع الحكم.
فكرة التعود تجعلنا نمر بالأحداث اليومية والتجارب دون أن نعيشها بعمق. المناظر، الأصوات، الروائح، وحتى الأشخاص والأحداث … تفقد قدرتها على إثارة الدهشة أو الانتباه عندما تصبح جزءاً من الروتين. التعود يجعلنا نرى العالم من خلال حاجز، فلا نعود ندرك جماله أو حتى نتألم لتفاصيله الدقيقة الموحشة. هذا الفقدان لكثافة التجربة يؤدي بدوره إلى طمس الذكريات. فما لا يُعاش بوعي حرّ وأصيل لا يُحفظ بوضوح في الذاكرة، ويصبح الماضي مجرد سلسلة من الأحداث الباهتة التي لا تحمل أي معنى أو شعور، بل ويفقد إحساسه وأمله في حياة مستقبلية ذات معنى.
وتغدو الكتابة -في الأدب أو على وسائل التواصل الاجتماعي- وحدها مفككة لتراكمات التعود، ليحطم حلقاتها المستحكمة حلقة حلقة ويستعيد الكاتب -ظناً منه- أجزاءً من مشاعره الحقيقية التي اعتاد دفنها.
التعود أصبح مع الوقت صنواً للتخلف وأخاً وفياً للجمود ومقاوماً للتغيير.
ومع المفكرين المسلمين في العصر الحديث والمعاصر جاءت الدعوة إلى التحرر من التقليد الأعمى والعادات البالية، والتعود على البلادة التي كبلت العقل المسلم وحدت من الاجتهاد والتفكير النقدي التي كان لها دور كبير في تأخر الأمة المسلمة.
التعود الفكري والاجتماعي أدى إلى غياب الإبداع، وتكرار الأخطاء، واجترار المفاهيم والنظريات والمنهجيات الغريبة عن المجتمعات المسلمة، وقَتَل التجديد وروح المبادرة، وكرّس للكثير من العادات السلبية المرادفة للتخلف الاجتماعي الشامل لنوعي المجتمع نساءً ورجالاً.
التعود خلق حالة عامة من البلادة والكسل والاتكالية واللامبالاة والتقليد الأعور للغرب والاستسلام إلى ما هو قائم، فليس في الإمكان أفضل مما كان!
التعود قتل في الأجيال الشغف بالبحث عن المعرفة، ونفّر من التفكير الحرّ المستقل، وزهّد العقول في النقد وسلّم النفوس إلى الأنانية الفردية.
التعود أذهب الحمية لموروثاتنا الثقافية وطمس هويتنا الحضارية.
كيف انزاح هذا المفهوم في تجسيداته الواقعية المعاصرة من بعده الميتافيزيقي وأثره في الدفع نحو الرقي ومعالي الأخلاق العمرانية في الفلسفة الإسلامية حتى غدا البشر معه متصالحين مع توحش الإنسان؟ كيف اعتدنا على فكرة الموت من التجويع والاغتصاب والصد للدفاع عن شرف الأمة؟
التعود الكولوينالي مهّد لاحتلالنا واغتصاب أراضينا واستباحة أعراضنا وجعلنا أشباه رجال (الرجال كصفة تشمل الذكور والإناث) مستكينين وراء الشاشات متفرجين دؤوبين على أشنع جرائم العصر في تجويع مجتمع كامل وفي إهانته وحرمانه من حاجاته الغريزية الأولى!
التعود على مشاهدة الجثث والدماء ومتابعة تقارير التعذيب في سجون الطغاة، وسجون التنظيم الإسرائيلي، أمرٌ مريع وفاجع يصفع وجنات تاريخ البشرية!
تعوُّد أخمد استجاباتنا السلوكية الإيجابية للمثيرات المتوحشة الحيوانية.
التعود على العيش مع منكرات الأخلاق ومفاسد النفوس ومخدرات العقول يقضي على بقايا رجولتنا ومروءتنا واستقامتنا الوجودية وإرادتنا الحرّة.
نحن لا نتعود إلا إذا ماتت فينا أشياء، هكذا قيل،
ومع اعتيادنا على مآسي المستضعفين وآلامهم في الأرض، في غزة الحبيبة وفي جميع بلاد المسلمين،
نعلن أن
ضمائرنا ورجولتنا قد ماتت.