لا شك أن انتصار الثورة السورية المباركة وتحرير دمشق في اليوم الثامن من ديسمبر عام 2024 يُكتب بماءٍ من ذهب على صفحات التاريخ الإنساني.
اليوم ونحن في طريقنا لتحقيق وعود الثورة في إرساء قيم الحرية والعدل والاستقلال والكرامة تبرز ضرورة التنبه إلى شَرَك الاندفاع إلى الحداثة وأدواتها، وتغول الدولة الحديثة بمفهومها المستنسخ من الغرب وما نتج عنها من ظواهر تهدد بنزع الإنسانية عن الإنسان، بله حيونته.
ومن أبرز خصائص الدولة الحديثة الظاهرة للعيان وفق التحليل السسيوسياسي ظاهرة العنف، ذلك أن أقلام ما بعد الحداثة الغربية ما فتأت تُستل لتشخيص الأخطار والأزمات التي نزلت بالإنسان وفق مقولة العنف المصاحب للدولة الحديثة وزمن الحداثة.
وهنا أستعرض أهم ما يهم العربي المسلم لمواجهة مظاهر الحداثة المتوحشة وقيمها عبر خواطر المفكرين الغربيين في ملف “العنف” (دفاتر فلسفية-نصوص مختارة، المغرب: دار توبقال، ط ١، ٢٠٠٩).
الحضارة الغربية من حيونة الإنسان إلى عنفه
تحول الإنسان في عصرنا إلى حيوان يقتل ليأكل، ويقتل ليلبس ويتزين ويترفه، يقتل ليبقى، يحتل أراض ويستحل أعراضاً، ويقتل لأجل السلطة والمال، إلى أن غدا غاية القتل من أجل القتل. واُستبدلت كينونة الإنسان الخُلقية الرحيمة بالحيوانية المتوحشة. عالم الحيوان تحركه غريزته وهذا قانونها، إلا أن الحيوانات الأكثر توحشاً تتصرف وفق غريزة الحفاظ على حياتها، فهل هو قانون عالم الإنسان؟
فقد قتل الأقوياء دائماً الضعفاء كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. فهناك غرائز تختزنها جيناتنا ورثناها من أسلافنا البدائيين. إلا أن الإنسان الحديث أكثر توحشاً من “الإنسان البدائي”. “الصراع في سبيل البقاء” “البقاء للأقوى” نظرية تعتبر الإنسان في جوهره مفترساً وعدوانياً.
فرويد اعتبر الاعتداء على الآخرين ميزة الإنسان في داخله إلى درجة كبيرة جداً. وينتج عن ذلك أن القريب أو الآخر القريب بالنسبة له ليس عبارة عن مساعد له بل هو إغواء يتجلى في جعله موضوع إشباع لاعتدائه واستغلاله بدون أي تعويض بل واستباحة جسده وعرضه بدون موافقة، والاستحواذ على ما يملك وإهانته والتسبب له في الآلام وتعذيبه بشدة وقتله.
شرعنة العنف وضرورة الحروب
لا تنظر البشر إلى الشر في داخلها بل في الآخرين، فالعدو هو الشر، كل الشر في العالم. هذا البحث عن الشر في الآخرين يصنع حاجزاً عن رؤية الشر الموجود فينا. إن من يمارس العنف على الآخرين بوصفهم أعداءً له ينفي في البدء أن يكون الآخر مثيلاً له، بل يبني علاقته معه بوضع ضد للإنسان. وتغدو العلاقة التناظرية بين الأنا والآخر سفسطة كلامية. وخير دليل علاقة التشيؤ التي نتعامل بها مع الآخر، علاقة النفعية، العلاقة الصراعية، هذا الضد للإنسان تجعل كل أنا مهددة من الآخر وكل آخر مهدد من الأنا، العلاقة ضدية.
ذلك أن إحدى الميزات الأساسية لكل حضارة هي الطريقة التي تُدرك بها العدوانية وتنظمها. هذا §الإدراك يرسخ في ذهن كل فرد من أفراد المجتمع منذ الصغر. فالتربية كل تربية تعمل على توجيه العدوانية، كل تربية تعلم كيف ومتى يجب أن نكبح جماح العدوانية أو على العكس متى نسمح لها بالانفلات.
الدولة الحديثة تستأثر ممارسة العنف. فمعيار الدولة السيدة في القانون الدولي هو سلطتها في كل حين في إطلاق العنف المنظم وفي مهاجمة من تشاء وحين تشاء. وبعد كل تجارب الدول الحديثة أصبحت مقولة “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان” مقبولة، هناك حالة كراهية أولية موجودة لدى الناس تجاه بعضهم بعضاً.
الهيراقليطيون (نسبة إلى الفيلسوف اليوناني هيراقليطس) مؤمنون بأن الصراع/ الحرب هو أب وملك الجميع يخوضه بعضهم وكأنهم آلهة ويخوضه البعض الآخر باعتبارهم بشر، يجعل من البعض عبيداً ومن الآخر أحراراً.
فشنّ الحرب ضد الآخرين هو من التركيب البيولوجي للبشر، والسبب أن العنف هو تعبير ضروري عن الغضب، أو أنه دافع فطري للسيطرة على ما هو فطري أو تدميره بوصفه إرادة قوة. هذا القول بأن العنف من فطرة البشر يفضي إلى أنه لا بد من السيطرة عليهم ومن وجود بنى جماعية خارجية. من ثم يصبح النظام الثقافي قادراً على تشريع العنف وعقلنته واستخدامه ضد الناس العنيفين كأداة سيطرة اجتماعية. وبذلك تتمكن الثقافة من إدراج العنف والصراع المدمر تحت عنوان الأمن الثقافي وحماية المواطنين أنفسهم.
نيتشه صاحب نظرية ضرورة وجود فيضانات تتدحرج في مجراها الحجارة والطين، علي الرغم من تدميرها للمنتجات الزراعية الرقيقة إلا أن فائدتها في الانطلاق من جديد. فالحضارة بزعم النيتشويين يستحيل أن تستغني عن الأهواء والرذائل والشرور. ومثالهم الرومان لما تعبوا من شنّ الحروب وتحولهم إلى امبراطورية عظيمة حاولوا الحصول على قوة جديدة من صيد الحيوانات المتوحشة وابتداع مبارزات المصارعين واضطهاد المسيحيين. واليوم يستعمل البشر وسائل جديدة لإعادة خلق هذه القوى المتناقضة من رحلات استكشافية فيها خطورة ورحلات بحرية وتسلق الجبال والقمم التي قد تحمل أهدافاً علمية إلا أنها تمكّن البشر من العودة لاختبار كافة أنواع المخاطر. وفي كل عصر سيبحث البشر عن بدائل تحت أشكال متنوعة. لذلك أوربا بحاجة ليست فقط إلى الحروب بل إلى أفظع الحروب -ابتداءً بالعودة إلى التوحش حسب نيتشه- حتى لا تستهلك حضارتها ووجوها نفسيهما في وسائل حضارية.
الحرب إذن ليست عنفاً بالمطلق، بل تستعمل كمرحلة. الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى. والعنف هو أحد الوسائل التي تمتلكها الدول من أجل الدفاع عن مصالحها. وكل سياسة هي سياسة حرب، لكل حرب بُعد سياسي. والفنون العسكرية التي تُقدم عبر احتفالات تحضيرية إحساساً بالاحتفال الحقيقي كي يشعره بأنه أكثر شجاعة مما يعتقد. حتى غدا للعنف قداسة تلك التي تندرج تحت لواء الأيديولوجية المهيمنة، وهي أيديولوجية العنف الضروري، المشروع والمشرف؛ اغتصاب الآخر، وشخصيته وهويته دون استخدام أي سلاح ناري. جميع الدول اليوم في مواجهة مع بعضها بعضاً، تقر بالنيات السيئة عند الجار وتتبجح بالنيات الحسنة. والكلام وحده يمكن أن يُهين الآخر ويعمل على امتهان شخصه.
الغرب المدعي لاتباعه المسيح -اللاعنفي- يتسابقون على التسليح ما يعني أنهم بدّلوا إلههم، وارتدوا. وتجربة الشعب اليهودي يوجد لها قاعدة لتبرير فكرة أن الله يستعمل العنف ضد البشر.
ويُتهم المسلمون بأنهم يمارسون العنف رداً على العنف الممارس ضدهم. والاشتراكيون متهمون في مناداتهم بالإضراب أو الثورات الاجتماعية التي هي ضرب من ضروب العنف وظاهرة من ظواهر الحرب.
أنماط العنف هي مجموعة من المعتقدات التي تفصح عن المواقف تجاه العنف في الثقافة. هذه الأنماط تشمل أسطورة البطل، وديناميكية استغلال القاتل/ الضحية وثنائية العقل/ الجسد وأسطورة الكاوبوي والفردية التنافسية ونظرية العنف الفطري وأسطورة العدوان الفحولي والمجتمع الصناعي العسكري والحتمية التكنولوجية وخاصة الحربية وإخضاع المستضعفين وأسطورة تفوق العقلانية على العاطفة والإبداع وأسطورة نخبوية الجنس البشري والعرق الأبيض. إنه التوحش البارد مجهول مصدره البنية الداخلية للتبرير العقلاني والذي لا يعترف سوى بما هو قابل للحساب والأرقام.
عنف العولمة
إن هيمنة الغرب الأوربي على باقي العالم تسببت في كوارث حضارية حسب إدغار موران، كما تسببت في تخريبات ثقافية غير قابلة للإصلاح، وفي أنواع رهيبة من العبودية. العصر تطور بفعل العنف والتخريب والعبودية والاستغلال الوحشي.
وعلاوة على أنواع مقاومات العولمة فإنها ليست رفضاً للبنية التكنولوجية المتعلقة بالعولمة بل رفض للبنية العقلية التي تعمل على الموازاة بين كل الثقافات. بودريارد الفيلسوف الفرنسي، يذهب إلى أن القوة العالمية للعولمة تجرف أمامها كل مختلف، فإما أن تدخل عن طيب خاطر أو تدخل بالقوة في إطار النظام الدولي أو تنمحي من الوجود. فقانون الغرب إخضاع كل الثقافات المتعددة إلى قانون المعادلة الوحشي. حتى الحروب تستهدف تقنين التوحش وفرض نظام واحد على كل بقاع العالم. الهدف القضاء على كل منطقة صامدة واحتلال وتدجين كل الفضاءات “المتوحشة” سواء تعلق الأمر بفضاءات جغرافية أو بعوالم ذهنية.
كانت المباهاة بالذات شيئاً متداولاً: نهاية التاريخ، النظام العالمي الجديد، دولة الحق، التدخل الإنساني… ولكننا لم نتدخل لإيقاف هذا السيل من أنواع القتل بل كنا نُسهم فيه بشكل فعّال. كما يعترف تشومسكي. فأحد إنجازات هذه الحضارة الغربية أنها جعلت من الممكن وقوع تناقضات داخل المجتمع الحر. ويغفل الغرب عن أن “كل جهاز قمعي يفرز عدته المضادة، ويفرز من داخله علة فناءه”.
دائرة العدوان والعنف اليوم تتسع حين تسود الحرب والرغبة في تدمير الآخر واختزاله إلى موضوع للاستهلاك.
عنف السلوك الاستهلاكي وعولمته
القفزة الاقتصادية وتطور قنوات الاتصال وإخضاع عالم الجنوب إلى السوق العالمية، وتعميم الاقتصاد اللبرالي العولمي، أدى إلى تدفقات هائلة من الهجرات ونجم حربان عالميتان -ونشهد حرباً ثالثة ورابعة ربما- وأزمات اقتصادية كثيرة.
الاستهلاك يُعد عداونية وعنفاً؛ مظاهر النفوذ والثراء (سيارة، مسكن، مكتب، ملابس..) التي ترهب الآخرين ترسل إشارات الطبقة الأغنى تجاه الآخر وعليها ظهرت مقارنات تُذكّر بالفروق الطبقية الاستهلاكية.
والاستهلاك هو: “التصرف باستنفاذ السلع والخدمات بشكل كامل في عملية من عمليات الإنتاج أو الإشباع المباشر للحاجات أو الاحتياجات الإنسانية”.
عولمة السلع والقيم المؤسسة لبنية العولمة تُعد مدخلاً أساسياً لفهم المجتمعات المعاصرة. لقد أصبح الاستهلاك قيمة اجتماعية، فالفرد لا يستهلك ما يشتهيه فحسب، وإنما يستهلك ما يجد جيرانه وأقرانه -وربما الخواجة – يستهلكونه. قل لي ماذا تستهلك أقل لك من أنت!
كل شيء تقدمه الطبيعة من الاحتياجات الضرورية (الماء، الغذاء وربما الهواء مستقبلاً) لكل الكائنات استغلته الرأسمالية وحولته إلى سلع خاضعة لقوانين السوق. كل شيء يخضع لقوانين الرأسمال والاستثمار والسلعنة. حتى الإنسان غدا مسلعن؛ اللاعبون الرياضيون ينتقلون من شركة إلى أخرى لمن يدفع أكثر، عارضات الأزياء، الممثلون، المؤثرون، المعلمون…
أصبح إنتاج المزيد والمزيد من الحاجات الاستهلاكية الجديدة والمتجددة باستمرار وإغراق الأسواق بها في أوقات قياسية، السمة الرئيسة للاقتصادات ما بعد الصناعية، والعامل الرئيس لتسارع عملية الاستهلاك.
هذه الظاهرة المتسارعة للاستهلاك خلقت نمطاً من الثقافة يمكن تسميته بثقافة الاستهلاك والتي لا تشير لثقافة تحمل مظاهر ثقافات الشعوب التقليدية من قيم ومعتقدات وفنون وعادات، بل يشير إلى الجوانب الغريزية وإلى المظاهر والكماليات، حيث تتحدد قيمة الإنسان بمقدار ما يقتنيه من أشياء مادية أو مال، وتعمل الثقافة الاستهلاكية على تحويل جميع مظاهر الثقافة الإنسانية، وأبرزها الفنون إلى سلعة تجارية.
بودريار الفيلسوف الفرنسي يؤمن بأن أسطورة الاستهلاك الفاحش سيطرت على المجتمع إلى حد اقتناء ما ليست هناك حاجة إليه. ومواضيع الاستهلاك صارت اليوم أكثر تعقيداً من سلوك الناس المتعلق بها. قيمة الأشياء لم تعد تتوقف على منفعتها، بل دخلت متغيرات أخرى إلى معادلة استهلاك الأشياء، وأصبحت هي المتحكّم الفعلي في فعل الشراء، فالسيارة التي يرغب الجميع في اقتنائها هي السيارة الأفخم والأجمل والأقوى، ولم يعد الأمر متوقفاً فقط على الوظيفة التقليدية للسيارة المتمثلة في كونها وسيلة انتقال لقد تغيرت طبيعة الأشياء، حيث صار اقتناؤها منزوعاً من غائيته الأصلية ليدخل في مدار آخر مختلف، وقد انعكس ذلك على مضمون السلعة ذاتها وعلى سلوك المستهلك. ليصبح فعل الاستهلاك حدثاً اجتماعياً.
إن الحشود الأكبر والأكثر تكرراً التي نراها هي متسوقو صباح أيام العطل، ونقوم بمحاكاة سلوكهم؛ لأن المحاكاة تعبر عن رغبتنا بالانتماء إلى القطيع. ونحن لا نتصرف على نحو متفرد، بحرية وباستقلالية وبأصالة، بل نعبر عن رغبة الجميع بأننا يجب أن نتسوق. إنها الراحة المحببة لذهنية القطيع، بالمقابل لا نرى جمهور الأفراد المنفصلين الذين يجلسون في المنزل ولا يشترون. إن حقيقة أن الاستهلاك هكذا كما هي، يجعلنا نفكر أنه عادي، لكنه ليس كذلك.
لقد أصبح مركز الاستهلاك هو الحياة اليومية التي تحولت فيها الممارسة من الشأن السياسي والاجتماعي لتصبح اهتماماً باليومي، وتختفي المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية لصالح المجال الخاص متمثلاً في العمل والأسرة وأوقات الفراغ، كما نجح الاستهلاك في أن يجعل الناس يشعرون بأمن زائف من خلال خلق كائن سلبي يفتقر إلى الشعور بالذنب أو التقصير حينما تكون المخاطر والكوارث بعيدة عنها، ويصبح الفرد بذلك كائناً مطواعاً محايداً وهامشياً، ويترتب عن ذلك أن تصبح علاقته بما يجري من حوله علاقة فضول لا أكثر.
ذلك أن النظام الرأسمالي نجح في وضع البشرية برمّتها أمام نوعين من الحاجات الذاتية؛ نوع مألوف هو الحاجات الطبيعية، المرتبطة بضرورات النمو والبقاء؛ وقد فاقت الرأسمالية غيرَها في إجابتها وإشباعها بما غطّته منتوجاتُها من خصاص فيها؛ وحاجات صناعية، غير طبيعية، اصطنعتْها للناس وأقنعتهم مع الزمن، بطبيعيتها وبضرورة إشباعها. ثم ما لبث المعروض عليهم من المنتوجات المشبِعة لتلك الحاجات أن بات مألوفًا لديهم ومرغوباً، بالتالي جزءاً من عادات الاستهلاك الجمعي، ومن يوميات إنفاقٍ ما يفتأ يتعاظم مع تعاظم الحاجات الاصطناعية إياها، وتزايد قوّتها الإغرائية. هكذا أتت الصناعة -وهي من ثمرات الرأسمالية – تزاحِم الطبيعة في إنتاج الحاجات الإنسانية، بل تتفوق عليها، أحيانًا، بمعروضاتها لتخلق للإنسان طبيعةً ثانية تُجاور طبيعته الأولى.
وكما يمكن للمرء أن يُشبع حاجةً مادية (التغذية مثلاً) باستهلاك منتوج غذائي، أصبح يسيراً عليه- بدافعية الاستهلاك- أن يُشبع حاجة فكرية باقتناص معلومات سائبة في الشبكة العنكبوتية مثلاً؛ فكلّ شيء جاهز ومعلّب في عصر اقتصاد الاستهلاك!
مع الرأسمالية رُبطت كل قيمة اجتماعية بالاستهلاك! حتى التحصيل العلمي والمعرفي والسعي انحصر بتنمية الموارد المادية لتعظيم قدرة الفرد على الاستهلاك.
في الماضي كان الناس يستهلكون ما ينتجه عملهم من أجل أن يعيشوا، وأصبحوا يستهلكون في ما بعد ما لا ينتجونه (أيضًا من أجل أن يعيشوا)، ثم اليوم مع الرأسمالية غدوا في تناغم مع تغيير القيم نفسها، شعارهم العيش من أجل أن يَستهلكوا ويُستهلكوا!
هذه الاقتصادات المادية تُعرف باسم اقتصادات الرضا والاستمتاع والتي تنصرف إلى إشباع مطالب مادية لدى الناس، من دون تلك التي يتوقف عليها البقاء الحيوي. ومن أشهرها الاقتصاد السياحي.
بنية الاقتصاد السياحي قائم على الإمتاع وتحقيق الشعور بالرضا، على استثمار الفراغ بما يولّد الشعور بتعبئته بوسائل تجديد الطاقة. لذلك هو اقتصاد يقوم على إمبراطورية هائلة من الوسائل والمرافق: فنادق وإقامات ومنتجعات ومسابح وملاعب وملاهٍ ومطاعم وبرامج رحلات استكشاف معالم مدن الإقامة، وصالات رياضة، وخدمات أخرى سياحية لا حصر لها. إنها صناعة قائمة بذاتها تبدأ بأساطيل الطائرات المدنية ولا تنتهي بخدمة التوصيل إلى المطار، وتقوم عليها دول ووزارات وشركات كبرى، وتُضخ فيها ملايين ملايين الدولارات سنوياً. هذا الاقتصاد مفتوح على العالم وعابر للحدود. حتى أن السياحة تنوّعت: من سياحة استجمام وسياحة استكشاف إلى سياحة جنسية، وأخرى ثقافية، وثالثة دينية، إلخ.
إن عولمة السلع والقيم التي تقوم عليها بنية العولمة تعد مدخلاً أساسياً لفهم المجتمعات المعاصرة. كما أن لهذه الظاهرة آثار بعيدة على الاقتصاد والقيم الاجتماعية وعلى السلوك الاجتماعي… حيث يؤدي نمط الإنتاج في المجتمع الحديث إلى خلق حاجات جديدة عن طريق الإعلان وتسهيلات الائتمان التي تعمل على زيادة الاستهلاك حتى أطلق عليه المجتمع الاستهلاكي. وهكذا يعمل الاستهلاك حسب بودريار على نشر القيم السلبية المتمثلة في التبذير والإسراف، حيث يعرف بودريار الاستهلاك من خلال القيم السلبية بقوله: “في الأفق يرتسم تعريف الاستهلاك بوصفه إتلافاً أي تبذيراً إنتاجياً، وهو أفق معاكس لأفق الاقتصاد القائم على الضرورة، والتراكم والحساب، حيث يُقدم النافل على الضروري، وحيث يسبق الإنفاق بقيمته التراكم والتملك، وبالتالي فإن التبذير والإسراف من أهم معاني الاستهلاك، فقد يتطلب الاستهلاك تراكماً في الإنتاج من أجل التغلب على الندرة لتلبية الحاجات الاستهلاكية، وعندما تساعد الحاجات على تحقيق السعادة تصبح أحلام والرغبات مرتبطة بالصور الثقافية الاستهلاكية المتمثلة في الإفراط والإسراف والتبذير والفوضى والعنف… وغيرها”.
ثقافة الاستهلاك تشير إلى تلك الجوانب الثقافية المصاحبة لعملية الاستهلاك بوصفها مجمل المعاني والصور والرموز المصاحبة للعملية؛ فالأفراد يستهلكون بجانب استهلاكهم للسلع المادية، الصور والمعاني والرموز المرتبطة بها، كما أنهم يتخذونها رموزاً يتخاطبون بها خطاباً صامتاً في الحياة اليومية.
وهكذا يسعى الاستهلاك من خلال أدواته إلى التلاعب بالجسد كقيمة، دون اعتبار لأي ضوابط أخلاقية، وهذا ما أكد عليه بودريار من خلال تحليله للنموذج الذكري والأنثوي في مجال الاستهلاك مؤكداً أن الإعلانات تقوم على فكرة تفكيك فكرة الجسد وتجريده من كل القيم والضوابط الأخلاقية من خلال إفساد الأذواق العامة، مما أدى إلى الخلط بين النموذجين الذكوري والأنثوي، بل يتعدى الأمر إلى ظهور نموذج جنسي ثالث (خنثوي)؛ بمعنى آخر ظهور المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وخاصة من خلال أذواق الموضة المعاصرة التي هدفها الأساس الربح دون النظر إلى أي قيمة أخرى، إلا لترسيخ قيم المتعة والترفيه وإطلاق العنان للغرائز الجنسية بشكل مباشر أو غير مباشر تحت مسمى الحرية وتتبع الموضة التي تسوق لصورة الإنسان الحضاري الزائف الذي يتساوى مع منطق الأشياء والسلع.