من الممكن القول إن الرجوع إلى مبدأ واحد أول لتفسير العالم يُعدُّ امتداداً لعصر الأساطير والمعتقدات الدينية والنظم الاجتماعية لليونانيين القدماء، ومن ثم تبلور هذا الفكر مع الفكر الفلسفي، الذي جاء ليضفي الصفة العلمية، إلى حدٍ ما، على تلك التفسيرات القائمة حول العالم. ذلك أن الكثير من المفاهيم مثّلت قوى كونية خالقة امتدت إلى فكرهم الفلسفي، مثل مفهوم (الحب) (Eros) الذي تجلى عند أرسطو عندما تحدث عن عشق وانجذاب الموجودات تجاه المحرك الأول اللامتحرك.
وهذا ما أدى إلى رفض بعض المفكرين إطلاق الصفة المادية على الفكر الفلسفي اليوناني القديم. فمع أن اعتقاداتهم الروحية كانت بدائية إلا أنهم دمجوا ما هو طبيعي (مادي) مع ما هو روحاني أو إلهي. وأنكساغوارس، لم يخرج عن إطار البحث في “حيوية المادة ” أو “روحانية الطبيعة”، على حد تعبير زيللرفي كتابه “بواكير الفلسفة قبل طاليس”، لذلك عُدّ المفكر الوحيد في تلك الفترة الباحث عن أصل العالم وأرجعه إلى العقل.
إن البحث عن جوهر أول وأصل للعالم بوصفه الموجود الأول والنهائي لتكوّن الموجودات وفسادها (كما ذهبت المدرسة الأيونية والأيلية إلى ذلك)، أَسَّسَ لعلم ما بعد الطبيعة عند الفلاسفة اليونان القدماء، حيث انقسم الفكر اليوناني إلى تبني إحدى الفكرتين المتناقضتين أي: الموجود الثابت، والموجود المتغير. أما أفلاطون فيظهر ذلك في قوله بالصفات العامة للوجود وإقراره بمفهوم الموجود العقلي (المثال/ الثابت) باعتباره موضوع العلم.
ومن الصحيح القول إن مشكلة المعرفة وما اتصل بها من المشكلات الميتافيزيقية أُثيرت في تلك الفترة إلا أنها لم تتضح لعدم التمايز بين الذات العارفة والموضوع المـُدرك وأثرهما في إحداث النتيجة المعرفية ومدى يقينية هذه المعرفة، وأغفل الفلاسفة اليونانيون قبل سقراط مقابلة الفكر بموضوعه، مع الأخذ بعين الاعتبار حدود العقل الإنساني والظروف المحيطة المتغيرة بالموضوعات المدركة.
وعند تناولهم للمبادئ والأسس الطبيعية للأشياء -وذلك في معرض تأسيسهم لعلم الطبيعة- أرجعوا تمايز وتغاير عناصر الموجودات الطبيعية إلى مبدأ أول يحافظ على وحدتها وأصلها الوحيد، فتأسس بذلك مفهوم العلم الذي يصف أولاً الظواهر الطبيعية الجزئية، ومن ثم حاول الربط فيما بينها بهدف الوصول إلى تعليل عام أو قانون كلي نستطيع من خلاله فهم تلك الظواهر المـُشاهدة بالخبرة الواقعية والارتقاء بها إلى المستوى العقلي المجرد.
أما أرسطو في كتابه الطبيعة (الكتاب الأول، الباب الثاني) فقد انطلق لإظهار خطأ الفلاسفة السابقين عليه، فهو مثلاً رفض وَصْفَ الفلاسفة الأوائل، الأيليين تحديداً، بأنهم باحثون بالطبيعة بل إنهم بحثوا بمسائل متعلقة بالطبيعة، لأنهم نفوا الحركة. والأشياء الطبيعية خاضعة جميعها للحركة. وأسس فلسفته حول مفهوم الموجود، بناءً على إظهار عجز الفلاسفة الأوائل عن التفرقة بين مفاهيم الموجود المختلفة والمتعددة. فحسب أرسطو إن الطبيعيين رأوا أن الأضداد تخرج من الموجود الواحد الحاوي لها كأنكسيمندرس. وأنكر على بارمنيدس قوله: إن الوجود واحد. أما أنكساغوراس فقد نسب إلى العقل الإلهي فرْز ما بالعماء من الاختلاط، وقوله: إن الأضداد يتولد بعضها من بعض، أدى به إلى الإقرار أنها كانت موجودة في الموضوع الواحد، وهذا ما رفضه أرسطو بشدة.
إن مهمة الفلسفة الأولى عند أرسطو هي معرفة ما هو الموجود (أي ما هو الجوهر)، لأنها أهم من معرفة كميته أو كيفيته أو أفعاله، ولأن الجوهر من المبادئ والعلل الأولى للأشياء، فلو انعدم الجوهر لانعدم كل شيء، كانت الجواهر أولى الموجودات. ومن هنا كان السؤال ما هو الجوهر؟ هو ذاته السؤال ما هو الموجود؟ وقد دارت حوله كتب أرسطو الأساسية: المقولات، الطبيعة، الكون والفساد، ما بعد الطبيعة.
إن أهمية استخدام أرسطو للمفاهيم المختلفة للموجود تجلت في توظيفه لها ضمن الأنساق الفلسفية المختلفة، حيث خضع مفهوم الموجود عنده إلى تقسيمات عدة: الجوهر والعرض، المادة والصورة، القوة والفعل، الماهية والفرد أو الكلي والجزئي، المحايث والمفارق. والسؤال الذي دار حوله البحث هو هل استقلت هذه التقسيمات فيما بينها، حيث خضعت لطبيعة المجال المستخدمة فيه (منطق، طبيعة، ميتافيزيقا)؟ أم أن هناك نوعاً من الترابط فيما بينها، أي أنها تبعت نموذجاً معيناً، الأمر الذي دفع أرسطو لاختيار هذه التقسيمات لتحقيق ذلك الترابط؟
خلصنا من خلال البحث إلى أن أرسطو في كتاب المقولات يؤكد على أن اسم الموجود يقال بمعان عدة، هي بشكل أساس: الكليات، الأعراض، والجواهر. وأن الموجود الأحق بهذا الاسم هو الجوهر الجزئي (شخص الجوهر)، مثل (زيد) هذا المشار إليه، وهذا ما أدى بدوره إلى وقوع التناقض مع مقولته (لا علم إلا بالكليات)، التي تعني كذلك أن الجوهر هو الكلي.
وعند بحثه في كتاب الطبيعة عن علل الموجود الطبيعي، يتبين له أنها الهيولى والصورة، كونهما عللاً ذاتية، أما علل حركة ووجود الموجود فهي العلة الفاعلة والعلة الغائية، معتبراً أن لكل حركة محرك. وتناول في الكون والفساد أنواع التغيرات التي تطرأ على الموجود وهي: 1- الكون والفساد الخاص بالجوهر الطبيعي أو المادي، 2- الزيادة والنقصان وموضوعهما كَمْ الموجود، 3- الاستحالة وموضوعها كيف الموجود، 4- النقلة أو الحركة في المكان وتتناول مكان الموجود.
ويعود في ما بعد الطبيعة ليتحدث عن تقسيمات الموجود (المقالات 9،8،7): 1- جواهر وأعراض، 2- مادة وصورة، 3- قوة وفعل، مبرهناً على أمور ثلاثة:1- لا وجود للماهيات أو الكليات إلا في الأفراد، 2- لا صورة بدون مادة ولا مادة بدون صورة، 3- وأن كل موجود بالفعل إنما أصبح بالفعل انطلاقاً من موجود بالقوة سابق عليه.
يفتتح أرسطو كتابه ما بعد الطبيعة (مقالة الألف الكبرى) بالعبارة التالية “كل الناس يشتهون المعرفة بطبيعتهم”، كما لا يمكن أن نقول إننا عرفنا شيئاً إلا إذا عرفنا علله ومبادئه الأولى، وينتهي إلى أن سلسة العلل لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، وبذلك يفترض وجود محرك أول متحرك في الطبيعة لإنهاء سلسلة الحركات، إلا أنه يظل مؤكداً على أن الموجودات الطبيعية تحوي مبدأ حركتها وسكونها ذاتياً، وتقوم فيها مباشرة لا بالعرض. ومن ثم يؤسس في ما بعد الطبيعة لعلة أولى تمثل المبدأ الأول والمحرك اللامتحرك، تصدر عنه الدفعة الأولى للعالم، وهو صورة محضة، لم يكن أبداً بالقوة، إنه جوهر مفارق أزلي خالد.
وهكذا تبدو رحلة الموجود أو الجوهر من “هذا المشار إليه” المركب من المادة والصورة، الذي يعاني الكون والفساد وينتقل من القوة إلى الفعل لينتهي إلى الموجود المحرك اللامتحرك والغاية المطلقة لكل الموجودات المتحركة بدافع تلك الغائية لبلوغ الكمال.
فهل يعني ذلك أن الغائية والطبيعة عند أرسطو يصبان في الميتافيزيقا، عندئذٍ يظهر تناقضاً هنا على صعيد مفهوم الحركة والمحرك مع ما أقره في المستوى الطبيعي من أن الموجودات الطبيعية تحوي مبدأ حركتها ذاتياً! وهذا ما قد فسره بعض الباحثين من أن مشروع أرسطو لرحلة الموجود عانى من عدة تناقضات. مع ذلك فمن الممكن رد وجود تناقض في مذهبه، إذا فهمنا أولاً وعلى صعيد مفهومي الجوهر المادي والجوهر المفارق أن هناك تطوراً في فكر أرسطو، فالطور الأول تَمَثّل في ما ورثه من أستاذه أفلاطون حيث شغل تفكيره إثبات ماهية واحدة تبقى ثابتة بالرغم من كثرة الأفراد، أما الطور الثاني فيكمن في تجاوز فكر أستاذه، أي عندما ميّز أرسطو بين الموجود الذي يتعين واقعياً بمقولاته العشر، وبين الموجود الفردي المركب من المادة والصورة.
ومع مفهوم المحرك الأول يتلاشى التناقض في مشكلة المعرفة القائمة بين الكليات الثابتة (الماهيات) وبين المعرفة الجزئية المستقرأة من الواقع (الفرد)، لأن المحرك اللامتحرك هو الموجود القائم بذاته، ذو الفردية التامة، والحقيقة الأكثر واقعية، المبدأ المعرفي الأول حيث تكون الأشياء والموجودات معقولة بقدر اقترابها من المعقول بذاته. ذلك أن الطبيعة كلها عند أرسطو طموح وتطلع وتأمل إلى عقل العقل، وبهذا التأمل تنجذب الموجودات إلى هذا الموجود الكامل.
كما يمكننا القول إن الطبيعة شكلت المنبع الأصلي لمذهب أرسطو حول مفهوم الموجود، الذي صبّ فيما بعد في بحر الميتافيزيقا، دون أن يعني ذلك وجود تناقض في مستوى المعاني المستخدمة من قِبَل أرسطو في مقولة الموجود، إنما يمكن رد التناقض الظاهر إلى حالة من التطور في مذهبه، إذا ما سلّمنا بأن اسم الموجود عند أرسطو يُقال بالتشكيك على: الجوهر والعرض، المادة والصورة، المفارق والمحايث، أي أن هناك تداخلاً في فلسفة أرسطو يحكمها اسم الموجود بين المستويات المنطقية والطبيعية والميتافيزيقية.
وهذا ما فطن إليه الفارابي حينما فصّل العلوم الفلسفية عند أرسطو والمواضيع التي تتناولها تلك العلوم، فابتدأ بعرض موضوع المنطق، الطبيعة، السماء والعالم، الكون والفساد، والآثار العلوية… ووجد أن هناك موضوعاً واحداً مركزياً يبحث أرسطو فيه، يقول الفارابي عن فكر المعلم الأول إنه: “شرع في كتاب ما بعد الطبيعيات أن ينظر ويفحص في الموجودات بوجه غير النظر الطبيعي”([1]) لأنه لا يتم للإنسان المعرفة التامة إلا إذا بحث في الموجود في مستواه الميتافيزيقي.
ومن هنا نجد أن المعلم الثاني أولّ من استوعب مفهوم الموجود في فلسفة أرسطو كونه المفصل الذي يربط مستويات الفلسفة عند المعلم الأول، ومن ثم فإن أرسطو ومن خلال مفهوم الموجود يظل من أكثر فلاسفة اليونان تأثيراً في فلاسفة العرب المسلمين، حيث أخذوا عنه الفلسفة التحليلية للمفاهيم ذات التفكير المنطقي، وأبحاثه في الطبيعة التي تنـزع إلى العلمية الواقعية القائمة على التجربة والملاحظة، بالإضافة إلى معظم آراءه في ما بعد الطبيعة، دون إغفال أن غاية الفلسفة الإسلامية مختلفة عن نظيرتها عند أرسطو، لأنها كانت تهدف إلى الجمع بين الدين والفلسفة، فأنتجت فلسفة مشبعة بالعقائد الدينية وبأفكار ومفاهيم أرسطية، مع الإقرار بأن المسلمين من الفلاسفة قد ولّدوا أفكاراً جديدة من السياق الثقافي الاجتماعي العلمي الديني المحيط بهم، كقولهم بواجب الوجود (الله) وممكن الوجود (العالم)، والجبرية، ومسألة حدوث أو قِدم العالم، ومسألة الجبر والاختيار، الحرية، والنبوة وغيرها…
ويتضح ذلك جلياً من خلال موضوع الفلسفة الأولى، فالكندي يقول إنه: علم بحقائق الموجودات الذي يصل بنا إلى الأزلي الفاعل والعلة والسبب لسائر الموجودات، “إنه علم الحق الأول الذي هو علة كل حق”([2]).
والفلسفة الأولى عند الفارابي هي: “علم بالموجود بما هو موجود”([3]) لأنه في ذلك معرفة ذات الشيء والدلالة على ماهيته، إلى أن أصبحت الغاية من هذا العلم هي معرفة الخالق تعالى بوصفه العلة الفاعلة لجميع الموجودات. وابن سينا جعل غاية هذا العلم النظر في الأسباب القصوى للموجودات([4])، وينتهي إلى موجود أول، مسبب الأسباب، ومبدأ المبادئ، الله تعالى. وابن رشد الذي اتبع سابقيه يرى أن الفلسفة الأولى هي البحث في الموجودات من حيث دلالتها على موجدها، وكلما كانت المعرفة بالموجودات أتم كانت المعرفة بخالقها أتم([5]).
ومن أكثر المفاهيم الأرسطية التي عالجها الفلاسفة المسلمون هو مفهومهم عن الغاية القصوى من موضوع الفلسفة الأولى أي الموجود الأول، فانتهى الكندي مثلاً إلى إثبات وجود الله وبتفصيل صفاته وفعله وعلاقته بالعالم بشكل خالف فيه، من حيث المفاهيم والغايات، أرسطو، وانتقل من كونه علة غائية إلى عَدّه علة فاعلة، فإله أرسطو الموجود الأول، لا يشاركه موجود في مرتبة الوجود، لا يعلم إلا ذاته، ومن هنا كان الاختلاف بين أرسطو والفارابي، أما الله عند الفارابي فإنه يعلم ذاته ويعلم غيره. أما ابن سينا فقد تأثر بفكرة عشق وانجذاب الموجودات إلى الله، غاية وجودها، وعدّه عالماً بكل شيء على نحو كلي، فيدرك الجزئيات من حيث هي كلية، ذلك أنه عقل وعاقل ومعقول، وعشق وعاشق ومعشوق.
ختاماً، إن أهمية دراسة المفاهيم الأرسطية دراسة معمقة تفتح لنا آفاقاً واسعة للوقوف على تراثنا وقوف القارئ الفاحص تارة والناقد تارة والمستفيد تارات أُخَر، لعلة السعي للاستئناف الحضاري للأمة الإسلامية والتي يعضدها الاهتمام بالفكر الفلسفي، تاريخاً وتحقيقاً وتطوراً.
(1) الفارابي، فلسفة أرسطوطاليس، تحقيق: محسن مهدي، بيروت: دار مجلة شعر، 1961، ص 132.
(1) الكندي، في الفلسفة الأولى، من رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق: محمد عبد الهادي أبو ريدة، فرانكفورت: معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية، 1999، ص 97.
(2) الفارابي، أبو نصر، الجمع بين رأيي الحكيمين، تقديم وتعليق: ألبير نصري نادر، نصوص ودروس، بيروت: دار المشرق، ط 4، 1986، ص 80.
(3) ابن سينا، الشفاء، الإلهيات، الجزء الأول، مرجع سابق، ص 9.
(4) ابن رشد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تقديم وتعليق: ألبير تصري نادر، بيروت: دار المشرق، ط 4، 1986، ص 27.
لقراءة البحث كاملاً تفضلوا بزيارة الرابط