هدفت المدرسة الاستشراقية وخطابها، في غالب الأحيان، إلى خلق صورة كاذبة مشوهة عن الشرق، تارة أرجعت إليه كل الشرور والأمراض والخصال الخسيسة كصندوق “باندورا” في الأسطورة الإغريقية، وتارة ثانية تشَبَّبت به كعذراء حسناء ملآى بالأسرار والكنوز والسحر.
الخطاب الاستشراقي المعاصر بفاعله الغربي، والمفعول به والتابع له العربي على حد سواء، يتبنى خطاباً محدداً متخصصاً بتزييف حقيقة العالم العربي والإسلامي، إلا أن العرب في خطابهم الاستشراقي تفردوا بنوعين خاصين، فمنهم من: حمل هذا الخطاب في فكره- بوعي منه أو لاوعي-، وأخذ على كاهله نفي هذه الصورة وخطابها عن شرقه في كل مقام ومقال، وهو بذلك لم يقم إلا بتعزيزها، ومنهم من: يثبت هذه الصورة في كتاباته وردود أفعاله دوماً، وما استنكف يجلد ذاته وذوات الشرقيين في مطلع كل قصيدة وبحث ومقالة، وبكفلٍ من قيم الغرب وفلسفتهم الوجودية.
أبرز خصائص الخطاب الاستشراقي تكريس الفصل بين الشرقيين والغربيين، على اعتبار أن الغربي وحده من يمتلك -بالطبيعة- العقل والتفوق الحضاري والإبداع والثقافة الراقية، وبشكل تلقائي، تكون الصفات المضادة للغربي تلك من نصيب الشرقي، وقد تمادى ذاك الخطاب وتمدد إلى أن طال الأساليب والأدوات المختلفة لمحاربة هذا الشرق المطموع به، والمستباح في الروح والجسد، حتى أدرك الهوان والانهزام والشعور بالدونية نهايته في نفوس الشرقيين من العرب والمسلمين.
وقد تميز الخطاب الاستشراقي المعاصر بترسانته المفاهيمية، مثل: العنف، والإرهاب، والرجعية، والتخلف، والعداء للحداثة ليلصقها بالشرقي عند وصفه له، على اعتبار أن اللاعنف، والتسامح، والتقدم، والتحضر، والحداثة والديمقراطية قيماً غربية أصيلة. تعود جذور هذا الخطاب، فيما أعتقد، إلى نموذج رائد والمتمثل بملحمة/ أنشودة رولاند (نظمت حوالي عام 1100م La chanson de Roland )، والتي تعد من أبرز الملاحم الشعبية في عصور أوروبا الوسطى، فالمسلمون في تلك الأسطورة ما هم إلا “أناس شعث غبر لا يمتهنون سوى أعمال القتل الوحشية، بغية حوز رضا ربهم الذي يعدهم بالجنة مقابل قتل غير المسلمين”. ناهيك عن صورة المرأة العربية المسلمة لدى المستشرق (الغربي والعربي)، وما يخلع عليها من صفات شهوانية، بل والموضوع المُشتهى، وموضع المتعة اللامتناهية للرجل الشرقي الشهواني بطبعه كذلك الأمر.
في تاريخنا هناك العديد من الأمثلة على أولئك المستشرقين باختصاصاتهم العلمية والحياتية المختلفة سواء في مجال علم الإنسان أو علم الاجتماع أو علم الآثار وغيرها، كالبريطاني توماس إدوارد لورنس المشهور بلورنس العرب، والفرنسي ماسينيون، وحتى الرحالة منهم، من أمثال باسل كورباه (أحد رجال القيصر الروسي في رحلته إلى الشرق من آذار إلى تموز 1914) وغيرهم الكثير ممن تناهى إلى علمنا وممن لا نعلم، والذين ما كانوا إلا رجالات الغرب بامتياز تخللوا الشرقي ومجتمعه، وعُدوا عيون الاستعمار في ألوانه كافة، وقدموا مفاتيح الولوج لدولهم وحكوماتهم يفضون بها قلب المجتمع الشرقي، لفرض سيطرتهم وسحرهم الأسود عليه. ولا نبالغ إن قلنا إن أغلب البعثات العلمية التي كُلف بها مئات الباحثين والرحالة على مر الأزمان، لا تعدو أن تكون إلا وسيلة لاختراق العباد والبلاد وإخضاعهم للدراسة والبحث ليسهل ترويضهم واحتلالهم لصالح الغرب ومصالحه. إحدى الأشكال الجديدة للمدارس الاستشراقية في عصرنا هذا لدراسة العرب والمسلمين تمثلت بما يُعرف مراكز الأبحاث والفكر أو ما يُسمى الـ think tanks كمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ومؤسسة راند، ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وغيرها الكثير … اعتنت بشكل منظم ومنهجي بأحوال الشرق والمسلمين تحديداً، اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً، فكان استعماراً في فرض قوة ناعمة، لينة، في وجه جديد للقوة الاستعمارية الصلبة المادية، وكان من أبرز ما تناولته بالتمحيص والتحليل والتفكيك والإحصاء الحالة الدينية للمسلمين وكيفية تطبيقهم للإسلام ومن ثم تصدير شكل الإسلام المطلوب والمقبول غربياً وعالمياً، ومناقشة العديد من القضايا الكبيرة كأشكال الحكم وحقوق الإنسان والمرأة … يأخذ بمخرجات هذه المراكز أصحاب القرارات الاستراتيجية ورجالات الإعلام والسياسة ومهندسي الحياة الاجتماعية.
وفي هذا السياق يقول فرانز فانون في كتابه الثوري “معذبو الأرض”، إن “الاستعمار لا يكتفي بفرض قانونه على حاضر البلاد المستعمَرة وعلى مستقبلها، بإفراغ عقل المستعمَر من كل شكل وكل مضمون، بل إنه يتجه أيضاً إلى ماضي الشعب المضطهَد، فيحاول بنوع من فجور المنطق أن يهدمه ويشوهه ويُبيده”.
ومع الثورة السورية -ثورة القيم وثورة كسر المنظومة الفكرية والقيمية السائدة، وعلى مدى 5 سنوات- شهدنا عودة انبعاث الخطاب الاستشراقي بقوة والذي لم يخفِ نفسه منذ البداية، حيث تنوعت أدواته وتشعبت مجالاته وكثرت رجالاته، حتى فشا خطره توغلاً وتغولاً حد التطرف.
سنقف سريعاً على تجليات الخطاب الاستشراقي في الثورة السورية، ليظهر لنا أننا وفي خضم ثورتنا لازالت قيم ذاك الخطاب طاغية متربعة في عمق الوعي واللاوعي الجمعي الثوري.
في المنظمات المدنية والجمعيات الإغاثية
مع بدء اشتعال الثورة سارعت المنظمات “الإنسانية” الناشطة في حقوق الإنسان والجمعيات الإغاثية، (والتي لا مراء أنها تحمل رسائل سياسية، كونها حاملة لقيم المجتمع الدولي ومبادئه والفاعلة ضمن قوانينه)، إلى الاتصال والتواصل مع الثوار لفرض مراقبة قريبة من تطورات الحراك الشعبي والاطلاع على خلفياته العقدية والإثنية والعرقية، وبهدف جمع ما أمكن من المعلومات وإخضاعها للدراسة والبحث ليتسنى معرفة ما سيؤول عليه الثوار في ردود أفعالهم مع تطورات الوضع في سورية. وكانت أن أعلنت العديد من المنظمات الأجنبية مختلفة الجنسيات دعمها للناشطين والناشطات وتدريبهم وتزويدهم بالأدوات اللوجستية اللازمة لممارسة نشاطاتهم الثورية- سواء أكانوا مؤمنين حقاً بما تقوم به هذه المنظمات من خدمات اجتماعية وثورية أم أنهم انتسبوا لها لمجرد أنهم فقدوا أعمالهم وحياتهم المستقبلية بسبب الثورة- وجندت العديد من الصحفيين والصحفيات لكتابة التقارير ونقل الأخبار عن الثورة السورية، بل وأغرتهم بالجوائز والمنح الدراسية والورش التدريبية، فما كان والحال هذه إلا أن تحول العديد منهم إلى “وكلاء مدجنين” حاملين لقيم تلك المنظمات ومروّجين طيّعين لأفكارها، المولودين الجدد في مدرسة الاستشراق.
وما التأكيد على “الكوتا” النسوية، والتركيز على مشاركة الأقليات والحث على ترديد شعارات المنظمات الغربية من التعددية والتشاركية والديمقراطية والعلمانية واللبرالية ورفض العسكرة والعنف وإقصاء كل ما يحمل طابعاً إسلامياً بدعوى ضرورة الوقوف على الحياد الأيديولوجي، إلا أكبر دليل على حمل هذه المنظمات والجمعيات لقيم الغرب وفلسفته، ما بدا وكأننا إزاء شكل من أشكال المدرسة الاستشراقية بوجه ثوري، حامل لقيم الحداثة، تلك القيم المنقذة العتيدة من الفوضى الشرقية!
المنظمات الإغاثية والمؤسسات الخدمية الأجنبية، والتي في ظاهرها تحمل شعارات خدمة المتضررين من الحروب ومساعدتهم، في أكثرها ما هي إلا مجال يُقدم من خلاله خدمة ترفد الحركة الاستعمارية بوضع اليد على العبد والأرض. والدليل على ذلك أن الركون إلى المساعدات ساعد على البقاء عالة على تلك المنظمات دون السعي لإنشاء مشاريع خاصة تعين على التمويل الذاتي ودعم التنمية البشرية، سيما وأن المناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد تملك من الإمكانات والخيرات والمقدرات (من الثروات المعدنية كالبترول إلى الغذائية كالحنطة وزيت الزيتون) تمكّن أهلها من الاكتفاء للاعتماد عليها كمصادر للتمويل، والاستغناء عن المساعدات الخارجية التي لا يخلو الكثير منها من أجندات سياسية وتعزيز لقيم استشراقية أقلها الهوان والضعف.
ووصل بنا استجرار كل ما هو غربي حد الإسفاف حتى في أبسط المفاهيم (وهو امتداد لما قبل الثورة بالطبع)، كالإعلانات المنتشرة عن دورة تدريبية هنا، ودروس عن كيفية التأقلم مع الحروب هناك، أو كيف تُسقط النظام سلمياً، أو أي من التدريبات التعليمية والبحثية، والتي تظهر مزينة بصور لشباب أو شابات أو أطفال غربيين ملونين من الأبيض والأشقر والأسود والأحمر، (ناهيك عن مناهج البحث المعتمدة والمواد العلمية الغربية الأصل) يتسمون بالجمال والنظافة والإطلالة المتفائلة في ابتسامتهم العريضة في إشارة صارخة تحمل رسالة استشراقية جديدة تقول بأن الشباب العربي لا يمكن أن يقدمون صورة إيجابية كتلك التي يمتلكها الغربي، فالمثال الأعلى والنموذج المحتذى هو ذاك الغربي المتحضر المدني بالصورة والمضمون، المشع حياة وفاعلية.
في الإعلام الاجتماعي والصحافة
لم يخدم الإعلام الاجتماعي (الفيسبوك وتويتر) السوريين، في نقل حقيقة معاناتهم، أو نقل الصورة الصحيحة في انتفاضتهم والتي عكف الثوار عليها بجد ومثابرة منذ بدء تنظيم حلقات مظاهراتهم في أيام الجمع والترتيب لها، من اللافتات الحاملة لمعاناتهم وطلباتهم الموجهة للعالم والأغاني الوطنية والأناشيد الحزينة … وأكاد أقول جازمة بأن الثوار لم يجنوا من تلك الوسائل الاجتماعية إلا مزيداً من الدمار والتشريد والتهجير … دون صدى حقيقي ملموس لمعاناتهم، بل أتطرف وأقول إنها أسهمت، بشكل أو بآخر، بتصعيد حملات الطغمة لقصف القرى والمدن السورية بالبراميل، إلى أن أسكتت حناجر الثوار وخلفتهم بين قتيل وجريح ومُهجر ولاجئ.
أضف إلى ذلك تصدي الإعلام الاجتماعي الثوري في غالبه لقضايا يطرحها الغرب، سواء أكانوا سياسيين أو إعلاميين أو منظرين، نُتهم من قبلهم بها عنوة وعن قصد لصرف الأنظار عن قضيتنا الجوهرية، كاستلال الناشطين والثوار أقلامهم بين فينة وأخرى وتقديم القرابين الاصطلاحية والمفاهيمية وتطويع النصوص وتلفيقها لنزع تهمة الإرهاب والتكفير والسلفية عنا، مرّقعاً الجديد بالرّث لارتداء زينة “الإسلام الوسطي” ومكياجه! فطُرح في الأوساط الثقافية العلمانية والدينية مصطلحات، نخبوية مفارقة، تُخلع على المسلمين في الشام لتمييزهم عن باقي الأمة الإسلامية.
في الحقيقة، ما حققه هذا الإعلام من انتشار واسع وبلوغ أقاصي الأرض من شمالها إلى جنوبها، ليس صورة طفل مدمى تحت أنقاض بناء في حلب أو دوما في ريف دمشق، انهار جراء براميل الفاشي وصواريخه، ولا صور آلاف الجثث المشوهة والبادي عليها آثار التعذيب والتشويه حتى أقصى درجات الوحشية، بل ادعي أن الذي انتشر والذي سيتداوله الناس وسيسجله التاريخ هو ما يخدم فكرة الاستشراق والمستشرقين عن الشرق؛ ذاك الشرق الغارق في متع وأساطير الشهوات اللامحدودة خلف الجدران وفي سراديب الحرملك؛ الشرق الذي يسكنه أولئك الفاقدين للحس المنطقي والتفكير العقلاني لفرط استسلامهم لعواطفهم وغياهب الغرائز، كونها الصورة الأقرب لدغدغة الوعي الجمعي (الغربي منه أو المستغرب الحامل للخطاب الاستشراقي) والتي تستثير غرائزه الشيطانية، أعني شيطنة الآخر؛ الآخر الشرقي أو العربي أو المسلم.
وأبرز صورة لما أريد قوله تجدها في تلك الأخبار التي تبدأ شرارتها بسطر أو سطرين وسرعان ما تغزل حولها نفوس البشر المريضة (سواء أكانوا من قطيع وأتباع الأسد أو من معارضيه)، أو حتى في المقالات الساخرة الهزيلة، المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي سواء في مجموعات أو على الحسابات الشخصية، والتي تنم عن خلل فكري كبير، وإسفاف في مخيلة الكاتب يستفرغه في عقل القارئ، ودائماً السلعة الأكثر شهرة والأسرع انتشاراً ولهيباً في تلك المنتديات العنكبوتية تتعلق بمواضيع المرأة والجنس، وجهاد النكاح، والسبايا…
“السبايا”! أعتقد أن السبايا–من الرجال والنساء- هم أولئك الذين سُلبت عقولهم ومشاعرهم وعواطفهم بالخطاب الاستشراقي والغربي معاً، فأصبحوا “سبايا وأسارى وإماء” تلك البهرجة الغربية في نظرتها إلى الشرق وفي نظرة الغرب لنفسه بأنه الأكثر حكمة، والأكبر عقلاً، والأسبق على التمدن والتحضر من عدوه: الشرق!
في السياسة ورجالاتها
يتجلى الخطاب الاستشراقي في هذا المجال خير تجلي في تبعية السياسيين، فكراً وتوجهاً وموقفاً وقراراً، لمن يملك زمام أمرهم، من الغرب أصحاب القرار والسيادة في العالم. فهم، في واقع الحال، لا يملكون إلا الوقوف على ما يُملى عليهم، لأنهم في قرارة أنفسهم مطمئنون إلى تصنيفهم كخاضعين وتابعين ومنفذين طيعين لإملاءات سياسي الغرب وقانونيهم، نظراً لعقدة النقص التي ركنوا إليها، وللوهن الذي زُرع في نفوسهم، بل والإيمان بالبرباغندا القائلة بأن الغربي يتفوق على العربي فكرياً، بل ويعلم ما لا نعلمه نحن عن أنفسنا، لأنه متقدم حضارياً عنا، ويملك من التقنيات والأدوات ما تفوق مستوى عقولنا، فما كان منهم إلا أن استكانوا للصورة النمطية التي رسمها لهم المستشرقون على اعتبار أنهم من الشرق الذي للغرب عليه درجة!
خير مثال أضربه هنا، مع تعقد الوضع في سورية منذ اندلاع انتفاضة شعبها في آذار 2011، بروز ما يتداوله رجالات السياسة، إعلامياً، حول عبارة “الحل السياسي”، كأحد الحلول المطروحة لحل القضية السورية في مقابل الحل العسكري المعقد سورياً وإقليمياً ودولياً، وأتساءل هنا في خضم هذه الفوضى الفكرية التي لابد من الوقوف عليها والتي لا تقل أهمية عن فوضى المشهد السوري ككل؛ هل وقفنا مع أنفسنا وتساءلنا ما الذي تعنيه عبارة “الحل السياسي” وما وراءها قبل تبنيها والترويج لها في كل محفل ومؤتمر؟ ألم يحن الوقت لندرك أنه ما إن وُجدت فكرة “الحل السياسي” فإن الثورة ومبادئها انتفت بالضرورة؟ إن التسليم للحل السياسي المفروض والملائم للاعبين الدوليين، من الأعداء والأصدقاء، ليس إلا شكلاً من أشكال الوهن والعجز والضعف الذي رسخه أجداد سياسيي الغرب الجدد؛ أعني المستشرقين القدامى.
اليوم وبعد 5 سنوات من مأساة شعب قُتل وقُصف وعُذب واُعتقل وأُهين وهُجر وشُرد، تناهى إلى سمعنا من أروقة ما يسمى السياسيين والمحللين والباحثين، أن هناك من بدأ ينادي بالعودة إلى مبادئ الثورة، معلنين – متأخرين بالطبع- أن الوقت قد حان لرمي كل تلك المساعي السياسية في حاوية الأروقة التاريخية السياسية العفنة، والعودة إلى التمسك بحزم بمبادئ الثورة؛ الحق والعدل والكرامة، لتكون هي الميزان والحكم.
اليوم وقد اعترفوا بذلك، هم أنفسهم كانوا بالأمس القريب يمارسون، هزواً وتكبراً، الفلسفة السياسية على منابر قاعات المؤتمرات ونوافذ الفيسبوك، وينظّرون للتأكيد على أن الحل يكمن في تبني السياسة الواقعية والنطق بلغة العلاقات الدولية، من أجل التعامل مع نظام متوحش مدعوم من حلفائه الروس والإيرانيين ومن ورائهم الأمريكان والإسرائيليين، وبعد أن حضروا مؤتمرات فيينا وتابعوا واتبعوا بيانات جنيف 1 و 2 و 3 وربما 5 و6 … وبعد مباحثات الرياض برعاية أميركية، ومن ثم الرضوخ لإنشاء هيئة مفاوضات عليا … وأخيراً وليس آخراً التوقيع على وقف العمليات العدائية … أتساءل ألم يكن كل ذلك تنازلاً عن مبادئ الثورة، في سبيل الاستسلام للحل السياسي المزعوم (والذي لازال بالمناسبة هناك من يهلل له ويتبناه إلى لحظتنا هذه!)، وفي ظل تراجع عسكري واضح للمعارضة في معاقلها حلب وإدلب.
أصحاب الواقعية السياسية خدعوا الناس بشعاراتهم ونظرياتهم، لأن واقعيتهم تلك لن تنتهي إلا كما انتهى إليه أحدهم في مقالة تحليلية واقعية نُشرت على موقع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (المركز الاستشراقي الجديد)، حيث قارب السياسة الأمريكية تجاه سورية والأسد مع سياستها تجاه العراق وصدام (منذ عام 1991 إلى عام 2003) حينما أعلنت أمريكا الحرب على العراق، حيث خلص إلى أن “إسقاط الأسد ليس في مصلحة غالبية الفاعلين الدوليين. لكن قد تتغير الظروف في سورية بعد عدة سنوات، أو قد يحصل مستجد في عالم العلاقات الدولية، يجعل من إزاحة الأسد ممكن التحقق، من دون أن ينفي ذلك احتمال انخراط الأسد في تحالفات إقليمية ودولية، قد تضمن له بقاءً أطول، أو قد تظهر معارضة سورية ذات خبرة سياسية ودبلوماسية، تتبنى خطاباً مختلفاً، يراعي موقع سورية وطبيعة العلاقات الدولية والإقليمية القائمة”.
سلسلة الاحتمالات هذه في لغة السياسة الواقعية تحمل مقياساً واحداً: مراعاة مصالح الفاعليين الدوليين، وإقامة تحالفات مع اللاعبين الدوليين مهما بلغت الدماء حد التراقي، وإن قُدم شعب بأكمله على مذبح الدبلوماسية السياسية الدولية، بل حتى وإن قمنا جميعاً بدفن مبادئ الثورة في مستنقع النظام الدولي ما قبل آذار 2011!
إن السياسة الأمريكية الحالية تتلخص بتصريحات جورج شولتز (وزير خارجية أمريكا من 1982 – 1989) عندما قال: “إن المفاوضات كناية عن الاستسلام وحسب، إذا لم يبرز ظل القوة على الطاولة”. وفي استعراضه لقوة أمريكا وطغيانها على المنظمات الدولية وقوانينها يقول: “إن وساطة أطراف ثالثة والأمم المتحدة ومحكمة لاهاي…، في حال جهل عنصر القوة في المعادلة، تكون وسائل طوباوية وقانونية صورية فقط”.
وباسم البراغماتية والواقعية السياسية يتهرب أكثر السياسيين بل والمجتمع الدولي أجمع من انتهاكات حقوق الإنسان ومن جرائم حرب وإبادة شعب منذ الأسد الأب إلى الابن، بل ويتمادى في طغيانه حيث وقع على “معاهدات تمنع محاسبة دولة أخرى تقصف المدنيين، والممتلكات العامة والخاصة (روسيا، إيران)، ويستمر التوكيل بالقتل، وحماية القاتل من تبعات فعله (إن كان دولة، أو ميليشيات) …” حتى غدت سوريا: أرض الإفلات من العقاب لكل مجرمي العالم، وليس لمجرمي سورية فحسب!
أَمحكوم علينا أن نعيش مع كل تلك الدماء والدمار والتهجير والتشريد والاعتقالات والتنازل حد تسليم الأعناق والأنفس للأعداء -من الأعداء منهم والأصدقاء- فقط لنُظهر للعالم أن منا “السياسي” و”المحلل” و”الاستراتيجي” و”المنظر”؟ لعمري لم تُخلق تلك الأسماء إلا للتغطية على جوهر الأسماء وحقيقتها أي: “التابعين، المقلدين، المغلوبين”، بلغة ابن خلدون فـ”المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده لاعتقاده الكمال في الغالب”، كما فصّل في فصل خاص في مقدمته الشهيرة.
السياسة عند العرب اليوم ليست إلا كباقي العلوم الإنسانية مستعارة مستوردة من الغرب، بمدارسها ومناهجها ورجالاتها (كرموز ونماذج يُحتذى بها، أو تُتبع)، فتجد أحدهم لا تخلو كتاباته وتحليلاته من استعارة عدمية نيتشه أو الرجوع إلى عقد روسو الاجتماعي وتبني إنسان فوكوياما الأخير أو وعي هابرماس بما هو مفقود أو صراع السياسة والأخلاق لدى حنة أرندت كي يستعرض مكتبته الفكرية، ويقحم النظريات والأيديولوجيات في المشهد الميداني والعسكري والحراك السياسي للثورة، ولم يدرِ أنه وفي خضم ذاك الاستعراض وتلك الاستعارات لم يخرج عن التكريس للخطاب الاستشراقي، لأنه يثبت بذلك أنه “تابع” وفيّ لمنظري الغرب وفلاسفتهم! فأين هم من ثورتنا؟
حتى أولئك الذين أخذوا على عاتقهم انتقاد استراتيجية السياسة الأميركية تجاه الثورة السورية، فوصفوها تارة بالمترددة، وتارة أخرى بالعاجزة، وثالثة باستراتيجية الزحف المتدرج، وتارات بالمتفرجة المتربصة، بينما تشعل الحرب في سورية عبر وكلائها في المنطقة من وراء الكواليس، أقول حتى هؤلاء تجدهم مازالوا يكررون مجترين أن استقرار منطقة المشرق العربي وأمنها وأمانها من مسؤولية الولايات المتحدة، فهي، على حسب زعمهم، لم تقدم حتى الآن استراتيجية واضحة لتهدئة الحرب المشتعلة في المنطقة! وما ذلك لعمري إلا دليل على استكانته إلى الفكر الاستشراقي، حيث لا تخرج الأفكار من نوافذ خلايا دماغه إلا من خلال الوهن، فيظل يردد: لا يمكن أن نجد مخرجاً إلا من خلال القوى العظمى، ولن تقوم لنا قائمة إلا بمساعدة دول الغرب ووكلائهم، نحن أضعف من أن نحل أزماتنا بأنفسنا، وأوهن من أن نملك مفاتيح الخلاص، ولسنا أصحاب القرار، ولا أوطاننا ذات سيادة… فأين ثورة سورية منهم؟ ثورة قيم الحق والعدل والكرامة!
2 شوال 1437 / 25-07-2016