بداية أشكر مؤسسة “أنا ليند” للحوار بين الثقافات، والوكالة السويدية “سيدا”، وكل الجهات المضيفة المنتدى الاجتماعي، أطلس، قوس قزح، الأصابع الذكية، العاديات، وكل الأفراد الذين أسهموا في تفعيل هذا المشروع المهم والحساس جداً، الحساس من جهتيه: الموضوع والذات: فالموضوع متعلق بالأدب، والقراءة كونها الأداة الأولى للمعرفة والانفتاح على العالم، والذات المستهدفة وهي ذات الطفل الأكثر براءة وصفاءً في هذا العالم.
وللموضوع حساسية خاصة تتعلق بشخصي أنا، كوني امرأة أولاً تقلقني دوماً الصورة النمطية للمرأة في أدبنا العام أو في أدب الأطفال، وكوني أماً لابنتين كنت وما زلت في بحثٍ دائمٍ عن أفضل الكتب لأقدمها لهما. كما كنتُ -ومازالتُ- المرجع الأساس في عائلتي كلها لتقديم النصائح حول أفضل الكتب وأنسبها حسب سنّ الطفل ومضمون الكتب أو دار النشر المناسبة..
ما أريد قوله هنا يتمحور في نقطتين:
الأولى: الطفل العربي وتحديات القراءة.
الثانية: فسحة أمل لتغيير الصورة النمطية للفتاة العربية!
أولاً: الطفل العربي وتحديات القراءة
إذا كانت غاية الأدب الإنساني المتعة والتعبير عن عواطف ووجدان الإنسان وقراءة المواقف المختلفة من الحياة، فإن غاية أدب الأطفال، كالقصة والمسرح والتمثيلية والشعر والأغنية وحتى الصحافة، لا تختلف كثيراً عن الأولى. إن أدب الطفل له الأثر الكبير في تنمية عقله ووجدانه وسلوكه. فالحاجة إلى المعرفة ملازمة للحاجة إلى الترفيه واللعب. والقراءة أداة مباشرة لتعليم الأطفال أهم مشاعر الوجدان إيجابية كالثقة بالنفس، وحب الحياة، الطموح والتفاعل مع الآخر واحترامه، الاختلاف والخلاف وأدبه، وتربية الحس الجمالي والأخلاقي.
وعليّ التساؤل هنا هل يوجد أدب للأطفال؟ وهل نعتني بكافة أشكال الأدب، أم أن تركيزنا فقط على القصة؟ هل يعزز أدب الطفل الحديث ثقافة التكرار والتقليد على حساب تنمية ثقافة الإبداع والابتكار؟ ما نوع الكتب التي يجب أن تُقدم للأطفال؟ وكيف علينا إقناع الطفل بأهمية القراءة في ظل التطورات العصرية الهائلة ونمو المجتمع التكنولوجي المحيط به؟ كل تلك الأسئلة وغيرها تكشف عن حساسية الموضوع والذي قررت مؤسسة “أنا ليند” تبنيّ مشروع دعم وتطوير أدب الأطفال محاولة التصدي للعقبات الكثيرة في عالمنا العربي.
ومن المعلوم أن علاقتنا بالكتاب تبدأ بمرحلة عمرية مبكرة جداً. وهذا ما يجب الانتباه إليه والتركيز عليه، فالطفل الرضيع، ينجذب للكتب المصورة الملونة التي تركز على الجانب البصري له، أو الكتب المصممة بأشكال هندسية… إلى ما هنالك من تلك الابتكارات المثيرة لانتباه الطفل الرضيع. فأهمية وجود الكتاب في سنين الطفل المبكرة تنمي العديد من ملكاته، كانعكاس انفعالات شخصيات القصص في الكتاب عليه، فهو يبحث داخل كل قصة عن الانفعالات القوية التي تهّز وجدانه من حزن وخوف وفرح وغضب… كما تحقق أهدافاً مهمة كتطوير ملكات الطفل اللغوية من تربية الحس اللغوي السليم، وتحسين الأداء النطقي، وإثراء المفردات اللغوية، وتنمية القدرة على التعبير بشكل صحيح، ناهيك عن اكتساب الطفل لقيمة أخلاقية مع نهاية كل قصة. من هنا تأتي مهمة توعية الآباء والأمهات المسؤولين المباشرين عن أطفال المراحل العمرية الأولى حول أهمية قراءة القصص بشكل منتظم، لما لها من دور فاعل وتأثير جوهري في نمو شخصيته وميوله في السنوات التالية.
كذلك فإن لكل مرحلة عمرية صفاتها النفسية وخصائصها الفسيولوجية ومهاراتها العقلية الخاصة بها، متأثرة ومرتبطة بالمحيط الاجتماعي من أسرة ومستوى اجتماعي ومادي… حيث يلعب الوسط الاجتماعي دوراً أساسياً في توجيه الثقافة الشخصية، فالتفاوت في مستوى القراءة والاهتمام بالمعارف يطرد مع الطبقة الاجتماعية للأطفال. وقد ذُكر في الفقرة 3.1 من خطة البرنامج الإقليمي لمؤسسة “أنا ليند” أن الفئات المستهدفة بالدرجة الأولى هم أطفال من الفئات المهمشة، الذين يعيشون في مناطق محرومة (حضرية أو ريفية) وأتمنى من كل قلبي أن يتحقق ذلك ويصل هذا المشروع إلى أطفال كل الطبقات المحرومة.
في الواقع إننا كأسر عربية غير مقدِّرين تماما لأهمية الكتاب والقراءة للطفل في مراحل عمره المبكرة، ومن كان محظوظاً من الأطفال ودخل عالم الكتب قبل دخوله إلى المدرسة فإنه غالباً ما يفقد عند دخوله المدرسة القراءة الحرّة البعيدة إلى حدٍ كبير عن المناهج التعليمية النمطية. وفي اعتقادي فإن المراحل العمرية من 6 سنوات إلى 12 سنة من أهم وأكثر الفئات العمرية حساسية، التي لا تقل أهمية عن المرحلة العمرية المبكرة للطفل، في تكوين شخصية الطفل وإعدادها إعداداً سليماً فكرياً وعاطفياً واجتماعياً.
وما يحدث أنّ العلاقة منفصلة تماماً بين القراءة المدرسية والممارسة الاجتماعية للطفل؛ فالطفل في هذه المرحلة المقتصرة على الكتب المدرسية معزول عن ذاته وذوات الآخرين لأنه ببساطة عليه أن ينهي هذه المراحل الدراسية ثقيلة العبء بنجاح تام، فالغاية القصوى من قراءاته هي النجاح ليست أبداً دافع متعة الاكتشاف وإشباع فضول المعرفة. إن كان لا بد من هذه المنهجية في نظامنا التعليمي، ففي رأيي يجب الاهتمام وتعزيز القراءة الحرّة كونها لا تبني ذات القارئ فقط، بل تتخلل إلى عالم الذوات الأخرى التي بناها كاتب القصة ورسامها، المرتكزة إلى تصورات الطفل نفسه، فهي تلعب دوراً مهماً جداً في تنمية الشخصية الفردية وفي اندماجها في مجتمعها وانفتاحها على العالم الآخر، بذلك ومن خلال قراءة ومناقشة هذه القصة أو تلك ومحاولة محاكاتها دوماً مع واقع الطالب المعاش يتم شيئاً فشيئاً سدّ الفجوة بين القراءة المدرسية والممارسة الاجتماعية، وبدلاً من تلقي المعلومة الجاهزة في المدرسة يتعود الطالب على إعمال الفكر وابتكار ما هو جديد. وعلى ذلك فمن المفيد لو أننا نستطيع أن ندخل مادة في مناهجنا المدرسية تعتمد المطالعة الحرة، يكون فيها الطالب حراً في اختيار الموضوع المرغوب من المحليّ أو العالميّ، أو حتى على الأقل تفعيل مادة الأدب والنصوص في المناهج التعليمية كونها في الحقيقة مادة جافة خامدة بعيدة جداً عن الأهداف النبيلة القيمية للأدب لأنها تعتمد في الأساس على الحفظ والذاكرة فقط.
في الواقع، يحتاج الطفل العربي إلى سلسلة عديدة من الجهود تمهد له بناء علاقة فاعلة مع المعرفة وإحلال ثقافة الحوار والتواصل مكان ثقافة الطاعة العمياء التي تسم الأسرة العربية، ويفرضها الأهل على أطفالهم. ويجب أولاً البدء بتوعية الأسرة بأهمية الحوار مع أطفالهم وكأنهم أشخاص بالغين، لا ينقصهم شيئاً من أدوات التفكير. ومن ثم يأتي دور الكتب والقراءة في تعويد الطفل على المطالعة بشكل يوميّ، وعلى الحوار وحرية التعبير ومناقشة أهم الأفكار الواردة في تلك الكتب وتعليمه التفكير الناقد ليحقق الموضوعية والدقة والوضوح في تفكيره. ومن الأهمية بمكان أن نهتم في أدب الأطفال بكرامته الإنسانية، وبحقوق احترام الآخر، وثقافة الخلاف، والبيئة والنظافة..
ثانيا: فسحة أمل لتغيير الصورة النمطية للفتاة العربية!
من المهم ونحن في صدد هذا البرنامج أن نركز على تعزيز مساواة الكرامة الإنسانية بين الجنسين في أدبنا، وتغيير النظرة النمطية عن دور الفتاة في المجتمع الذي تضج به مناهجنا الدراسية، ويملأ صفحات أدب الأطفال، بل والأدب بشكل عام.
وهذا تماماً ما جاء في خطة البرنامج الإقليمي لمؤسسة “أنا ليند” في فقرة 2.4 من أنه “سيتم إشراك المرأة في جميع المستويات، من الإداريين إلى الرسامين والنقاد… من أجل النجاح في الوصول إلى الفتيات والتأثير على مضمون الكتاب”، لكن الأهم وهذا ما يجب التركيز عليه هو ألا تكرر المرأة نفسها وتعزز دون شعور منها، أو بشكل مقصود، نمطية الأدوار الاجتماعية لها والذي حدث ويحدث إلى الآن في كافة مجالات الثقافة والأدب والفنون، وحتى ضمن السلك التعليمي في المدارس.
إن الصورة الشعبية للمرأة العربية منذ تكونها جنيناً في رحم أمها إلى موتها محاطة بجملة من العادات والأمثال التي تعزز الصورة النمطية لها. فتكريس صورة المرأة العربية بوصفها موضوعاً للبحث، أو أداة إنتاجية للأطفال، أو أماً المسؤولة الوحيدة عن تربية الأجيال، أو زوجة مطيعة، أو حتى تصوير الاختلافات بينها وبين الرجل التي دارت معظمها حول أن المرأة هي المخلوقة الأكثر عاطفية، الأقل عقلانية، والأسهل غواية، كل ذلك عمل على تدني القيمة الاجتماعية لتعليم البنات وتثقيفها، وهو ملاحظ في العائلات الفقيرة حيث ارتفاع معدلات تسرب الفتيات من المدرسة، وحرمانها العديد من الأدوار المجتمعية الأخرى. وهذا ما ينتقل تماماً إلى الكتاب المدرسي، فمقرر القراءة في المراحل الابتدائية كلها تجمع على صورة واحدة للفتاة/ للمرأة تغذي عقل الأطفال، فهي الفتاة المطيعة، الأم، الزوجة، الممرضة، الشهيدة في سبيل الوطن… كل ذلك يقدم فيها المرأة كنموذج للعطاء اللامحدود، للتفاني..
وعلى ذلك فالصورة الغالبة للمرأة في القصص والروايات ليست بعيدة عن هذه النمطية، فهي المرأة التي تولي وجودها في المنزل أهمية كبيرة، والتلميح دوماً إلى أن خروجها إلى العمل هو بدافع العوز الاقتصادي وحسب، دون الإشارة إلى إمكان حمل المرأة على النضج العقلي أو اكتساب الخبرة الاجتماعية من جراء خروجها!
وما نشهده أحياناً في الأعمال الأدبية للنساء هو محاولة لخلق نماذج نسائية مختلفة عن النماذج النمطية للمرأة في مجتمعها، فتصبح في النص الأدبي: المرأة المتحررة، المالكة لنفسها، الفاعلة على صعيد اتخاذ القرارات وتسيير شؤون حياتها، إلا أن ذلك النموذج يظل في أغلب الأحيان غير مقنع، كونه في الأغلب يقدم صورة غريبة خيالية عن صورة المرأة في الحياة الواقعية.
في النهاية أرجو أن تحقق مؤسسة “أنا ليند” للحوار بين الثقافات أهدافها الواردة في خطة برنامجها والتي يترأسها هدف عام هو دعم النمو الذهني والروحي والخلقي والعاطفي للأطفال في العالم العربي من خلال تطوير أدب الأطفال.
وشكراً
المركز الثقافي في كفر سوسة، دمشق، 05- 10- 2009