استغل مقامي هذا لأقف معكم على وقائع وأحداث حديثة العهد بنا نحن السوريون، وضعتنا وجهاً لوجه أمام شاشة كبيرة، صفعتنا بمشاهدها الكاشفة الفاضحة، نقلتنا إلى رحلة تاريخنا معاينةً ومشاهدةً، كادت أن تخلفنا صرعى، لنمحّص بأم أعيننا، يومياً وكل ساعة، ماذا كنا، وما حلّ بنا، وما يجب أن نكون عليه!  

رغم صعوبة الموضوع وتعقد المجال المبحوث، أعني نظرة ابن خلدون إلى العرب، صفاتهم وطباعهم، ودورهم في قيام الدول وسقوطها، لعلنا ولو بكلمات فقيرة تعود بنا إلى التاريخ لفهم قانون حركته وسيرورته ولو بشكل يسير. هنا لست معنية بالجدل العبثي فيما إذا كان المقصود بـ “العرب” في مقدمة ابن خلدون هم الأعراب بشكل خاص أم العرب كافة، فالحق ومعالم طريقه كالشمس بازغة ساطعة لمن له بصر وبصيرة، إنما هو بالتأكيد عنى بـ “العرب” أولئك من يمتلكون زمام أمور البلاد وأولئك القيّمون على وجدان العباد، من حكام وسلاطين وفقهاء…

العلامة الفقيه المالكي ابن خلدون (732-808ه) فضح طبيعةالعرب وطباعهم، في كتابه القيّم العبر وديوان المبتدأ والخبر من أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، هذا الكتاب خرج لنا بعد دراسة متأنية لتاريخ الإنسان العربي، دراسة تاريخية واجتماعية وسياسية، فقال فيهم حسبما جاء في عناوين كتابه: العرب”لا يتغلبون إلا على البسائط”، وأنهم “إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب”، وأنهم: “أبعد الأمم عن سياسة الملك”، و”أبعد الناس عن الصنائع”… لكنهم “لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوة أو ولاية”.

فالعرب، كما وصمهم، وبسبب طبيعة التوحش لديهم أقرب إلى “أهل انتهاب وعيث”، يأخذون ما يريدون نهباً وسرقة ويعودون إلى الصحراء، دون محاربة أو عناء لكسب قوتهم. وكذلك هم “أصعب الأمم انقياداً لبعضهم بعضاً للغلظة وبعد الهمة والتحاسد والتنافس…” وغيرها من مذمومات الأخلاق، ولذلك هم أبعد الناس عن الصنائع والعلوم العقلية لاعتيادهم حياة البداوة والشظف وخشونة العيش، وهم بذلك إلى “الحيوانية” أقرب. 

مع أنه، ومنذ نعومة أظافرنا، ما فتئنا، نقرأ ونسمع صيحات علماء الدين والمشايخ والدعاة والمفكرين الإسلاميين بضرورة بذل أقصى الجهود والأنفس لإحياء الدين ونهضة الأمة الإسلامية! ونحن في خضم هذه الصراعات والتجاذبات الإقليمية والعالمية بعد ثورات العالم العربي، وتخاذل الوجدان الإنساني وموت الضمير العالمي، نتساءل أين منا هذا المشروع الواحد الجامع الشامل بعد كل تلك الصيحات وويلات الشعوب المضطهدة المكلومة المفجوعة؟ لعمري، لم تخرج من كونها مجرد كلمات على رفوف المكتبات سكنتها العِثاث أو زيّنت البيوت والجامعات، ولم نزدد إلا فرقة وتشتتاً وتشرذماً وتناحراً، إلا ما رحم ربي.

ذلك أن من أول الخصال القبيحة والأخلاق المذمومة التي خلعها ابن خلدون على العرب الاستعباد والتبعية، فإن ظلوا عرباً بخصالهم وعيوبهم المتأصلة في طبيعتهم، فإنهم إلى التبعية أقرب وأركن، وإلى الخضوع والانقياد أسهل وأخنع، وإلى صناعة الملك والسياسة أبعد، فسرعان ما يخون العرب بعضهم بعضاً ويبيع بعضهم بعضاً، وما إن تخلوا عن عصبيتهم للإسلام واستبدلوها بعصبية الحدود الجغرافية الوهمية، رسمها لهم أعداء الإسلام، إلا طغت أخلاق الخسة على سمتهم، بل وتنافسوا لمد ولاء الطاعات والتبريكات لأسيادهم، وأصبحوا آلة ومطية للآخرين، وسرعان ماتخلوا عن تاريخهم وتراثهم، بله عقيدتهم من كتاب الله وسنة نبيهم، سعياً وجهداً مخذولاً لإرضاء أسيادهم الغالبين، فـ”المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، لاعتقاد المغلوب الكمال في الغالب، كما فصّل ابن خلدون في فصل خاص.

وحال حكام العرب وحاشيتهم ومن شابههم من الأدعياء والمنافقين وفقهاء السلاطين، كالمغلوبين، حسب وصف ابن خلدون، الخادمين المنقادين الخانعين للغالبين من رؤوس القوى العظمى، فتحكموا بوصاية من تلك القوى بأنفاس العباد وأرواحهم، خوفاً على ملكهم وسلطانهم.

وكأنه حاضرٌ بيننا، شاهدٌُعلى تشرذم العرب وشتاتهم في التاريخ، وتضييعهم للملك في الأرض منذ عهده بهم إلى يومنا هذا، حين يقول: “وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان، من لدن الخليقة، كيف تقوّض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبدِّلت الأرض فيه غير الأرض، فاليمن قرارهم خراب إلا قليلاً من الأمصار، وعراق العرب كذلك، قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك، وإفريقية (…)”. ويستشهد ابن خلدون بقول رستم (خادم ملك الفرس، قاد معركة ضد المسلمين وقُتل في يوم القادسية عام 15 ه) حين رأى المسلمين يجتمعون للصلاة: “أكل عمر كبدي، يُعلم الكلاب الآداب”، للدلالة على وحدتهم وقوتهم تحت أمير واحد، وما إن نبذ العرب الدين نسوا السياسة، وانقطعت منهم عن الدولة أجيال، ورجعوا إلى قفرهم، ففي تركهم للدين ترك للأخلاق الإنسانية، والضمير اليقظ، والعقل النقي، وعودة إلى البداوة والتوحش!


أما الدولة التي يبنيها العرب على أصل ديني إما من نبوة أو دعوة حق وبعقيدة وإخلاص فهي أعظم الدول لأنها قامت بمعونة من الله في إقامة دينه، فإن ارتبطوا بالإسلام تبدلت أحوالهم وطباعهم ليغدوا صنّاع الملك والسياسة وسفراء الحضارة الإنسانية إلى العالم أجمع. والسرّ كما يقول في جمع القلوب وتآلفها إن: “القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقلّ الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة، قال تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ماألفت بين قلوبهم}”. 

وفي مقاربة-وما أكثر المقاربات والأمثلة وما أبعدنا عن قراءة التاريخ واستقراءه- فكرة ابن خلدون بآخر ما نقرأه من مشهد الأمة البائس الذي أُنهك تناحراً وتفرقاً وتباغضاً حتى أمات القلوب كمداً، وجمّد الدمع في الأحداق دماً؛ الاتفاق والتفاهم بين “ولاية الفقيه” و”الشيطان الأكبر”؛ الذي شغل الدنيا وفضاءاتها، والذي لا يخرج عن أن يكون اتفاق مصالح مشتركة، منها فيما أدعيّ؛ منع نهضة الإسلام في قلب العالم المعاصر، بحجة أن إيران أفضل حليف للحرب على “الإرهاب”؛ الإرهاب الذي غدا ملتصقاً بالإسلام السني وحسب، وأصبح مطية للتعدي على شعوب مستضعفة مستعبدة من قبل حكام عرب وكلاء لقوى الثالوث المحتل (أمريكا، إيران، الصهيونية)، بل ومنحها (إيران) الشرعية لمدّ نفوذها وتغذية مشروعها في المنطقة، خدمة لمصالحها الاقتصادية والتجارية (وهل نسينا اتفاقية الغاز الإيراني في منطقة عسلوية بين إيران والعراق وسوريا؟) فتغدو القوة العظمى الوحيدة المهيمنة على المنطقة الإقليمية المشتعلة. وقد أعلنوها ملالي إيران وقوادها من السياسيين والعسكر، مختالين، بعودة الإمبراطورية “الكسراوية” قريباً، حين تباهوا بسيطرتهم على أهم عواصم الشرق العربي: دمشق، وبغداد، واليمن… 

أخوف ما أخاف على أمتنا من كثرة حرصنا على الدنيا ولذائذها، واتباعنا لأهواء النفس، وركوننا إلى مذمومات الأخلاق، وتبنينا لعصبيات الجاهلية والتوحش، أن تطول بنا أعوام الذل والهوان والخنوع أكثر وأطول!

وكما قال ابن دريد:

مَن ملَّكَ الحِرصَ القيادَ لم يزَلْ *** يكرَعُ من ماءٍ من الذّلِّ صَرَى

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *