لا أعرف من أين أبدأ، أفكار تتلاطم في خلايا رأسي، ما أريده في لحظتي هذه هو البوح بما يخنقني منذ خمسة أشهر، شعور يذيبني تماماً وكأني بركان مليء بالحمم والنيران ينتظر ساعة القيامة، أُخمد منذ زمن… لكنه في الصدر لم يهدأ من ثوراته الخامدة.
منذ يوميات الثورة السورية أخذت دائرة النار تكبر في أعماقي، إلى أن مسّتني… قلت الآن حان يومي… لم أعد احتمال الصمت والتخاذل … سأكشف ثورتي وأنفث لهبي وأمضي إلى المجهول…
كانت رغبتي هذه ضد كل القمع والتناقضات والثنائيات… ضد السلطة الماجنة الراقصة على دمنا… ضد الصفحات التافهة السخيفة المستخفة بمشاعرنا التي طغت على صُحُفنا وكتبنا… ضد النساء والرجال… ضد أشباه المثقفين وأنصاف الرجال… ضد اللاعنف والعنف… ضد جسدي المرهون… ضده هو…. ضدي… أنا.
كنت أؤمن أن كل التناقضات في وجودي أصلها واحد… الكره والحب… الظلم والعدل… العبودية والحرية… العنف واللاعنف… الضلال والحق… وليس عليّ إلا أن ألج هذا الوجود وأفك أسراره وانتقل من مقام إلى مقام كي أصل إلى هذه الوحدة… ويستوي عندي كل تناقض وتضاد.

لكن! الوجود العيني غريب بعيد عن هذا الوجود… وجود اتسم بالدماء الطاهرة، طغى عليه الظلم والاعتقال والاغتصاب وانتهاك الكرامة وسلب الحقوق… وجود يدّعي الاستقرار ويفرض الأمان والقانون بقبضة من نار ودم وصديد… وجود كاذب عاهر تواطأ فيه وحوش الدين مع فحول السياسة على النَفَس الرحماني والنفْس الكريمة… وجود عجزتُ عن إعادته إلى الأصل الواحد…
انقلبت إلى كائن غريب جداً عني… لا أفهمه وبالوقت نفسه أتعلم منه… لم أعد أشعر بوجودي… والنور الذي شاع في طريقي غدا وحشة وقبراً… همي الآن أن أتخلص مني… أن أسكب غضبي وغثياني وعدميتي في وجه وجودي…

****

منذ بدأ الاحتجاجات في درعا الجريحة وتبعها سفك للدم وتعذيب وحصار، قلت لنفسي ألف مرة متى سنخرج هنا في دمشق؟ إلى متى الصمت يخيمنا؟ كيف نحيا ونأكل وكأن شيئاً لم يكن وكأنه ذاهب إلى العدم؟ هل نكتفي بالمشاهدة والبكاء والدعاء؟
بعدها بقليل وبعد انتفاض العديد من المدن والمحافظات السورية تحرك شباب حينا ولو أنها كانت تحركات خجولة في البدء، كان الخوف سمة كل مظاهرة خرجت.
كل يوم جمعة انتظرت أصواتهم كي تطرب قلبي ووجداني، هم بدأوا بعد بقية الأحياء الدمشقية بقليل، بالأحرى هم خرجوا “طلعات طيارة” بلغة الثوار، إلا أن انتشار الأمن والشبيحة منذ الجمعة الثانية كانتشار الجراد في مزرعة ربيعية الصباح، وجحوظ أعين العواينية كأعين الذباب على كل بيت ومدخل وحارة أدت إلى تراجع الشباب.
إلى أن جاءت الجمعة التي اجتمع فيها الثوار بشكل منظم، وأنا بطبيعة الحال معسكرة في أيام الجمع أمام نافذة غرفتي من بداية الصلاة إلى انتهائها. خرجوا بعد الصلاة وعلت أصواتهم وصدعت، تخللت في دمي تخلل الياسمين في حارات الشام القديمة. هللت معهم ومن موقعي -ودموعي تحرق خدودي من شدة الانفعال- هتفت معهم: “الله أكبر الله أكبر، الموت ولا المذلة، على الجنة رايحين شهداء بالملايين، ليش خايفين ليش خايفين، الله مع الحق، وين رجالك يا… الله يلعن خوانك، الله سوريا حرية وبس…”.

جالوا الحارة جيئة وذهاباً، وكلما ابتعد صوتهم عني قليلاً أحزن وأشعر أن كمامة الأوكسجين التي تغذي خلايا جسدي اُنتزعت … ظلوا على هذه الحال حوالي الساعة … ساعة من الحرية التي لم يكن بالإمكان أن نحلم بها ولا حتى أن تمر كخاطرة في عقولنا. إلا أن الأمن هذه المرة لم يستطع ترك الشباب على حريتهم طويلاً، أطلقوا الرصاص الكثيف في الهواء من موقعهم، والشباب يهتفون ويصفقون ويتجاهلون الرصاص رغم كثافته ورغم رائحة القنابل المسيلة للدموع التي ذقت طعمها بنفسي وأنا في موقعي.
بعد أن انتهوا قبل العصر بقليل تجمعت حشود الأمن والشبيحة والعواينية مقابل المسجد وأخذوا يهتفون هتافاتهم المعهودة والمنتشرة على القنوات الرسمية للنظام، ثم شاهدت شخصاً يحمل كاميرا التلفاز ومساعده، وقفا مقابل هذه الجموع وأخذا يصوران المشهد، على أساس أن شيئاً لم يحدث وأن أهالي حارتي خرجوا من الصلاة مهللين فرحين بحياة الرئيس!
مساءً خرج الشباب مجدداً فرحت بهم كثيراً كفرحة أم بعودة فلذات كبدها بعد غياب لن يحضر… إلا أن فرحي لم يدم أكثر من ربع ساعة، بدأ مجدداً إطلاق الرصاص بشكل أكثر شراسة وكأننا في جبهة حرب مع أشنع الأعداء، ولم أكن أعلم وقتها أن شهيداً سقط برصاصهم إلى أن جاء صباح السبت وعلمت أن التشييع سيتم اليوم بعد صلاة الظهر.

صباح السبت كانت حارتي مغلقة بإحكام… المحلات حزينة ميتة تبكي ابنها الشهيد، الشهيد الذي تماهى ربيع عمره مع ربيع ثورة سورية. مع ترددٍ وخوفٍ وألف سؤال وسؤال عزمت أمري وألقيت نفسي ضمن الحشد! ما إن أصبحتُ بينهم وكانوا قد شكلوا دائرة ضمت حوالي 200 شخص حتى انتقلت إلى أرض الحرية والقلب الواحد والألم والغضب والأمل الواحد…
هتفتُ معهم للحرية وللعزة والكرامة، وترحمنا على الشهداء، صفقنا للثورة معاً، وبعد كل تصفيقة كنا نرفع أيدينا إلى السماء، وبقينا هكذا ندور في حلقتنا إلى أن اتحدت أرواحنا واندمجت، تخللنا في روح الشهيد وأصبحنا نحن هو وهو نحن، واستوت عندي كل التناقضات والتضادات، وشهدت نور روح الشهيد في مرآة روحي، وأيقنت أنه لولا تضحيتك يا “غالي” لن تعرف الأنفس كرامتها ولن تذق طعم الحرية.
أحببتهم جميعاً… كل من كان معي… قبّلت الشهيد قبلات الإكبار.

****
في ليلة الجمعة التي تلت جمعة سقوط الشهيد، حَشَدَ الأمن قواته وساندته قوى المخابرات وضباط من مختلف الأشكال والألوان. تمركزوا على مداخل حارتي الرئيسة وأصبح الدخول إلى الحارة والخروج منها بتفتيش دقيق للسيارات، ومشاهدة الهوية الشخصية لمراجعة اسم صاحبها إن كان في قائمة الإرهابيين والمخربين والسلفيين! كان منظراً مخيفاً وكأننا في يومين وليلة أصبحنا في قلب جبهة حربية، الكل مدجج بالسلاح، وجوه شاحبة وعيون ترمقنا باستعلاء. الغريب أنني لم أكن خائفة، فروح الشهيد سكنت صدري وركنتْ إليها روحي، وجاءني “الغالي” لحظتها مبتسماً وهمس في قلبي: “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية”.

****

اليوم التالي، أي جمعة الحصار والتطويق، منذ الساعات الأولى قبل الصلاة اجتمع المئات أمام المسجد الذي شهد تلك المظاهرة السلمية الرائعة المتحدية كل أسلحة الأمن وحقد النفوس وشرها، وشبه إليّ وكأني أدركت يوم الحشر في حياتنا الدنيا. ومع أن جيراننا في ذلك اليوم لم يخرجوا إلى الصلاة، بل أعتقد أن أحداً من شرفاء حارتي لم يخرج أصلاً تفادياً لالتقاء الأعين الطيبة بالأعين الخبيثة، آثرت بعد عصر تلك الجمعة مدعية بسذاجة ضرورة زيارة أحد أقاربي! ما إن خطوت خطوتي الأولى عند مدخل البناء حتى انتبه إلى خطواتي العشرات وأخذوا يراقبونني حذاء بحذاء، وكأنني العدو المرتقب، والإرهابي، السلفي المطلوب!

لحسن الحظ ولسوئه في الوقت نفسه، كانت سيارتي بعيدة قليلاً عن مدخل البناء؛ لحسن الحظ لأنني في قرارة نفسي قررت النظر في وجوههم جميعاً، واحداً واحداً… لن أخاف وسأتحداهم بأنفاسي، فكانت هنا مجموعة افترشت على الأرض تلتهم وجبة الغداء، وأخرى اتخذت ظلاً تحت أروقة مداخل الأبنية هرباً من الحر الشديد، والغالبية تجول وتراقب …

كنتُ كما من كانت مسجونة ليالٍ طوال، وحيدة في ظلمة كهوف مصاصي الدماء والقاتلين المتسلسلين، إلا أنها أسقطت الخوف وأعلنت أن دمها مرّ مرارة المس بكرامتها، وأسقطت معها أساطير المتكبرين والجبارين والقتلة مع أول مظاهرة واحدة مطالبة بالحرية والكرامة.

****

كان بوحاً هجر صدري ليسكن عقلي مطلع شهر أغسطس / آب 2011، واليوم في مارس/ آذار 2016 ما انكفأت ثورتي على قيمها تحيط؛ قيم العدل والكرامة والحق.

 ****

الميتامظاهرات مصطلح اصطنعته وأعني به ما وراء المظاهرات؛ أي مقام وجدان الأنا ووجودها بعد خوضها تجربة المظاهرة في طلبها للحرية والكرامة.

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *