ربما لم يخطر على بالنا، أننا وفي خضم هذه الحرب الطاحنة في سورية المنسية، قد نتمكن من تذوق “مكانة المكان”! فمع الثورة السورية ظهر إلى العيان فن “قيمة المكان”، والوعي بمكانته، وبالوعي هذا نمى الحب والوفاء له والتعلق به.
وأول بوابة لتلك المعرفة حين انتشرت عشرات من صفحات “العدسات”، رصدت أماكن مختلفة في أرجاء سورية كافة؛ من دمشق، وغوطة دمشق، وحمص، وحماة، ودرعا، واللاذقية… وخلّدت الكثير من أنشطة الثوار كان أبرزها مظاهراتهم وشعاراتهم السلمية التي تبنوها.
بدأنا معها برؤية تفاصيل المكان ودقائقه حتى أحسسنا وولجنا إلى رقائقه، تلك الصور والشروح عن المشاهد الملتقطة، تارة تصور الألم على الدمار، والثانية تجسد حنيننا إلى أيام حولتها ذاكرة التاريخ إلى أركان نسيان، وتارات أُخر جمدت فرحاً بنصر أو بتحرير أو بحلم بعيد بعودة قريبة!
شكّلت تلك الصور الناطقة، الدليل الدامغ على الوعي الجديد بمكانة تلك الأماكن أو الإحساس برفعتها ومنزلتها. ومع أن هناك الكثير من الأوصاف المادية لتلك الأماكن، إلا أن وراء هذا الاهتمام بالظاهر المحسوس كان العبور إلى أغوارها وبُعدها المستتر الذي ظلّ حبيساً أو منسيّاً في وعينا الجمعي، وأكاد أجزم أنه لولا الثورة السورية لم نكن لنقف على مكانتها من الثلاثية القيمية؛ الجمال والخير والحق.
ومع هذه الانتفاضة أصبح محتماً علينا معرفة “علم المكان”، تاريخه، جغرافيته، وأهميته الاستراتيجية المرتبطة بالماديات ظاهراً، ومن حيث مكانته الوجدانية والرمزية بوجه أعمق. إنه الشعور بالأماكن الشريفة الغالية على قلوبنا، ووجود قلوبنا في بعض الأمكنة أوغر جرحاً من وجودها في بعضها الآخر؛ فأصبحنا نشعر بزيادة وعينا على مستوى الشعور والوجدان، والزيادة في هذا المستوى، زيادة في الإحساس بوجودنا المرتبط بخيرية رسالتنا ومسؤوليتنا الكبرى في إعمار هذه الأرض المباركة لإعلاء قيمة الحق ونشر العدل فيها.
وأجمل وأفضل وأعمق ما تعلمناه من علم “قيمة المكان”، أن للأماكن قيماً روحية ومفصلية وملحمية، كغوطة دمشق، التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ فُسطاطَ المسلمين، يومَ الملحمةِ، بالغُوطةِ، إلى جانبِ مدينةٍ يُقالُ لها: دمشقُ، من خيرِ مدائنِ الشَّامِ”. (صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 4298)، والقصير في حمص، التي تمثل عقدة الوصل بين القرى مختلفة المذاهب في الساحل السوري، والتي تمثل دوراً استراتيجياً في إنشاء الكانتون المذهبي المفترض.
جغرافية المكان، أو جغرافية “مكانة المكان”
ارتبطت بعمق بهّم الثوار، ومصيرهم المرتبط بحملهم لشعلة الكرامة ورفع كل أشكال الذل والاستبداد والظلم، هذا المصير لن يعيدنا إلى جغرافية “مكانة المكان” ما قبل الثورة؛ فالثوار باتوا يعلمون أن طريقهم في تلك الأماكن انقسمت إلى شقين: أوله: عبر أماكن يتماهون معها في حركتهم وانتقالهم وتنقلهم، وآخره: عند الوصول إلى السكون والاستقرار والتمكين، ومن يبلغه يصل إلى قيمة القيم “مكانة المكان”.
الوعي بقيمة الأمكنة هذه لم يقتصر فهمها على أرواح السكان المحليين في هذه البقعة أو تلك، بل عبرت إلى القارات كافة، وجذبت أرواح ما وراء حدود جغرافية المكان، حملوا همّ الأمة للوقوف –حساً ووجداناً- مع مضطهدي ومظلومي تلك الأماكن المقدسة، واستشعروا خصائصها الروحية وفضائلها الدينية لا تضاريسها أو طبيعتها الخلابة أو عمارتها الهندسية وآثاراها التاريخية أو كل ما يتعلق بالحسي المادي.
هي الأماكن التي قدّر الله سبحانه في هذا الزمان أن تكون الجسر أو المعبر للقاء وجهه الكريم سبحانه، فأُضيف إلى مكانتها أسمى مكانة وجودية وأكملها على الإطلاق.