جاء الإسلام بحرية الإنسان من خلال مفهوم العبودية، وهذه هي الحكمة بعينها التي يصحبها التوفيق الإلهي. ففي قلب عبودية الإنسان تخرج حريته، ومن الحرية يظهر الفعل الأخلاقي والالتزام به لتحتل المسؤولية الأخلاقية مكانها في حرية الاختيار. ولأن الله أوكل الخلافة في الأرض إلى الإنسان، وأعطاه إمكانية عدم الوقوع في المعصية، حين حدد الخالق له فرائض شريعته، فإنه بعد كل ذلك لا يمكن له أن يسلب الإنسان حريته وقدرته على الفعل. والتوفيق نوعان: توفيق فطريّ لدينا من عند الله تعالى، ذلك أن الإنسان يُولد على فطرة الإسلام، وتوفيق فينا من أنفسنا، وهو أن ينظر الإنسان إلى نفسه باستمرار فيرى عيوبه وقدراته البشرية المحدودة. وإذا ما كان التوفيق الذي من عند الله تعالى مستصحباً للإنسان في كل أحواله وحركاته وأفعاله، يغدو التوفيق الباعث لطلب الأخلاق والاستقامة وبلوغهما بشكل مستدام.
تتحدد حرية الإنسان وعبوديته من خلال مفهومي الإضافة والذاتية، فعندما تكون نسبتنا إلى الحق لا إلى الخلق تفضي بنا النسبة إلى العبودية؛ مقام الذلة والافتقار التي لا عتق فيهما، بينما الإضافة إلى العالم تسمح للإنسان بأن يكون عبداً أو حراً. فالإنسان في حقيقته وذاته ليس عبداً للطبيعة وفي أعراضه وحاجاته هو عبد لها، بينما هو عبدٌ في حقيقته وأعراضه لله تعالى. ومن هذا المقام يرتبط علم الحكمة بالحرية. ذلك أن الحكيم هو الذي ترك الحرية لفهمه مقام العبودية الخالصة، أي وضع الأمور في نصابها وفي مكانها. فالله تعالى يقول في حديث قدسي: “إن لنفسك عليك حقاً ولعينك عليك حقاً ولزورك عليك حقاً” (صحيح البخاري، كتاب الصوم) ومن توجهت عليه تلك الحقوق أنّى له الحرية!
إن لمرآة الوجود وجهان ينظر الإنسان بهما؛ وجه افتقار إلى الله ووجه غنى إلى العالم. يستقبل العالم بالغنى عنه ويستقبل ربه بالافتقار إليه. عندها نفهم معنى قولنا: إن مقام العبودية أشرف من مقام الحرية في حق الإنسان. فالعبودية أداة الحرية والحرية أداة العبودية: فإما أن تختار الحرية إزاء الله فتصبح أداةً في يد الحتمية الطبيعية والضرورة الوجودية، أو تختار الحرية إزاء الكون فتمتلئ بغنى الله وتغدو حراً في عزّ عبوديتك؛ عبوديتك لله تعالى وحده. فالله الغني الحميد والغنى صفة ذاتية للحق تعالى، بينما غنى العبد هو غنى النفس الإنسانية بالله عن العالمين. إضافة الإنسان إلى العبودية إلى ربه أشرف من إضافته إلى الحرية إلى الغير.
هذا الاستثناء الإلهي “أن لا تكون عبداً لغير الله”، إنما هو دعوة للتحرر من استرقاق حكم الأغيار، من عبودية العالم المادي والإنساني الآخر، أن لا يكون ملك ولا سلطان ولا حكم لأحد من خلق الله على موقفك الوجودي وخياراتك.
وتغدو المعادلة بسيطة لشروط فلاح الإنسان، كلما ازدادت عبوديته لله تنامت حريته إزاء الكون والمجتمع والأشياء، وكلما نقصت عبوديته لله عزّ وجل تقلصت حريته إزاء الأسباب الطبيعية والإنسانية.
(نُشرت في مجلة بصيرة بتاريخ 13- 01- 2013)