ما تخيلتُ يوماً أننا سنشهد سقوطاً مدويّاً كسقوط الهارب وأهله ونظامه، في ليلة بألف وألف ليلة. في تلك الليلة مرّ بذاكرتي شريط كامل لكل ما مرّ من المرّ. حكاية تحكي قصة طاغية طغمة حكم بلاداً منسية من أصحاب المروءة والرجولة مدة أكثر من ٥٠ سنة بالدم والحديد والانحطاط، انحطاط غطى مجالات الحياة كافة.
وإن كانت أكثر كتابات اليوم تصف حالة التعذيب والاعتقال والاختفاء القسري والقتل والتهجير والقصف والاغتصاب .. فإنّ قلةً من تكلم عن الجانب المعنوي والعقدي الذي جثم على نفوس السوريين طوال عقود خمسة ونيف والذي خلق حالةً عامةً من نفوس مهزومة مذلولة، وهوية مضطربة، وانتماء زائف لوطن مهجور، لم يكن يوماً سَكَن وسُكنى، ومن تشوه ذوقي وخلل عقدي وانطواء ذاتي.
المرحلة الجبرية الخاضع لها العالم الإسلامي اليوم كما أخبرنا نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ترتكن إلى خليط عجيب متضافر ومعقود كعقد حبل من مسد؛ من شرائع وضعية، عقائد مستمدة من أي بشر إلا من ربّ البشر، وثنيات وخرافات وتسليم لأساطير، قوميات وطائفيات وحكم البعث، تدين شعبي حامل لإرث عميق من فلسفات قديمة ومن عقائد باطنية مطعّمة بتصوف فلسفي وغنوصية تعتلي عرش قيمها مبدأ الطاعة والخضوع الذليل لم يسبق أن عرفه تاريخ بشري.
في كتاب الباحث محمد إلهامي “سبيل الرشاد” يدلل من الوحي والسنة والتاريخ وطبائع البشر على مقولة أن “الناس على دين ملوكها”، وما تجسدت لي هذه السُنة الاجتماعية تجسيداً مثالياً إلا في سوريا البعث.
وأنا أمشي في شوارع دمشق، كنتُ دائماً ما أشعر بغصة تقف أعلى حلقي، ضغطة جاثية على صدري، دموع سيّالة جامدة في عيناي مع كل شارع رمادي مكتحل بسواد الأزقة أمر عليه، مع كل صنم وصور للزائليْن والغارقيْن في مزبلة التاريخ تثقب بؤبؤ العين، مع وجوه الناس الحاكية لألف أسى وظلم وقهر، مع شخوص الأفرع الأمنية في أزقة أحياء دمشق صارخة في وجه المارة ترهب خيالهم بذكريات قصص لمعتقلين عُذّبوا وسفكت فيها كرامتهم وقُتلوا.
في أية مؤسسة من مؤسسات النظام ترصد صور الزائليْن (الزائل حافظ والهارب بشار) في استقبالك لترسل إشارة دماغية عصبية مفادها “إنك مذلول في هذا البلد، فالفار أو نحرق البار” جبرية ما بعدها جبرية، سلبت الإرادة والحرية الإنسانية، مناط التكليف الإنساني التي خلقنا الله عليها بالفطرة. حتى الفطرة تعدوا عليها، فالمولود يولد مسلماً “على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه”، وهنا عقيدة الباطنية الأقلية عملت عمل الوالدين والأسرة وبنت عقولاً مسيرة لا مخيرة، وطوّعت نفوساً على الطاعة العمياء والخرساء والصماء، وأطلقت أرواحاً متناكرة متباغضة.
كنتُ أكيدة من أن هذا الظاهر من حولي لا يمثل حقيقة مدينتي دمشق، هناك باطن، وباطنيات أكثر ظلاماً وإرهاباً وإقصائاً تحتلها.
نعيب على الغرب تفريطهم في الأسرة وعزو وظائف الوالديْن إلى مؤسسات الدولة، ونحن في سوريا الأزواج والأولاد والأسر والمجتمع ومؤسسات النظام بأفرادها وجماعاتها، خاضعة للحكم الجبري في أسوء نسخه: الباطنية.
دولة متزندقة، لبست الباطنية في أشنع حلّتها؛ النفاق والوضاعة والتقية والتفاخر بالكذب، وتسربلت برموز أخفت وراءها عقيدتها الباطنية ونظرتها السوداوية للوجود ونظرياتها اللأخلاقية وتجلياتها القبيحة.
ثلّة باطنية متوحشة ملكت مجتمعاً ومارست عليه كل أصناف الحقد والدناءة والاستعلاء، وطبعت البلد كله بلون البعث وطبعّت على عبادة القائد الرمز الزائل زوالاً إلى الأبد.
باطنية لوثت دُرة الشرق وجعلتها مرتعاً لكل أنواع الفساد والإفساد، من رشاوى وواسطات ومحسوبيات وصفقات وسرقات ومخدرات وانحلال أخلاقي واستمراء للمعاصي وتعدٍ على الحقوق واغتصاب الأعراض وسرقة الأراضي حتى غدت بقعة تخاف حتى العصافير في سمائها على نقاء متنفسها.
جُعل من المتدين السني في سوريا -بسبب القمع والخوف والترهيب والتهديد- أشبه بكائن مُعطَّل منعزل عن فطرته وتكليفه، غاب عن قاموسه مفردات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتبس عنده الحق بالباطل بله زُين الباطل له، وطغى في أعمق وجدانه مبدأ الطاعة وحاذر نفسه أن تتدخل في سياسة الحكم أو تحلم بالخروج على الحكم الأقلوي لأن رجال دين الحكم الباطني ادّعوا أنه طريق يؤدي إلى فتنة، والفتنة أشد من القتل!
فاقتنع السنيّ الساذج بسلب عقله بعدما آمن بسردية المخلص (الإمام المنتظر) الآتي حتماً لتخليصه من الظلم والشرك الأكبر، أو فليؤثر الخلاص الفردي “ويمشي الحيط بالحيط”.
تحت دين الحكم الباطني خُلقت نفوس ضعيفة تهاب حتى الجدران علّها تملك آذاناً. الناس تخاف بعضها بعضاً، لا أمن ولا أمان، الكل مخابرات، ربما هذا مخبر يستمع إلي وأنا أتكلم مع صديقتي في حديقة ما، أو بائع الذرة المسلوقة يقف كل يوم في المكان نفسه عند ناصية الشارع يدوّن في تقاريره اليومية الخارج من الحارة والداخل إليها، ومتى تنشر زوجة المعارض غسيلها، كم طفل صار عند فلان، أي سيارة يملك علان..
من أين أتى هذا العسكري/ الجندي بكل هذا الإجرام والاستمتاع بالتعذيب؟ ما الذي تطعمه الدول لأتباعها كي تجعل جوعهم لممارسة الإهانة والتوحش لا يسد رمقه مهما انتفخ البطن؟ ما هو منهج التدريب العسكري الذي يتلقونه كي يمعنوا ويتفننوا في ذبح جيرانهم وأهلهم في الشارع والحي والمدينة؟
لعمري ليس إلا اتباعاً لجدهم الوثني “سمعان” المبتدع الأول لدين الغنوصية، ولربما أوّلوا جرائمهم هذه على أنها قُربى ليهوه إلههم المنتظِر هو نفسه لخاصة الخاصة كي تخلصه من غيبته وسردابه بينما يتفنن عبيده في تغييب الأكثرية في سراديب فرعون الشام.