تُجمع المراكز البحثية العالمية وآراء المفكرين والمحللين وعلماء الاجتماع أن أسباب انفجار الربيع العربي لم تكن أسباباً مطلبية أو خدمية لتحسين مستوى معيشة الفرد أو الجموع، وإنما كان الربيع العربي ومازال تجسيداً ونضالاً واستجابةً لنيل حقوق إنسانية عامة تتمتع بها كل شعوب العالم وإن كانت بنسبٍ متفاوتة، تنادي بالحرية والكرامة والعدالة كقيم ثابتة وحقوق بشرية أساسية ومن المسلمات الإنسانية.

ومما لا شك فيه أن شعوب دول الربيع العربي قد عانت أشد المعاناة من أنظمة حاكمة ذات بنية أوليغارشية وسلوك شمولي استخدم الممارسات الأمنية والعسكرية في أقصى وأشد صورها نكاية وكيدية لتكريس حالةٍ مستدامةٍ من الانقسام المجتمعي داخل مجتمعات يمكن وصفها بأنها محافظة وذات نسيج اجتماعي ثقافي متماسك ومنسجم؛ هذه المجتمعات التي يُشكل “العرب السنة” -مصطلح ذو دلالات تاريخية ثقافية وجيوسياسية- غالبيتها السكانية. ولا يُفهمنّ من كلامي هذا أن قطيعة الشعوب العربية مع أنظمتها الحاكمة سببها أحقاد دينية طائفية حصراً، وإنما وبصورة أوضح أقول إن الأزمة هي أزمة فئة حاكمة شديدة الانغلاق سواء كانت إثنية أو دينية أو عسكرية أو عائلية صادرت أبسط حقوق المجتمعات لصالح أقلية ضيقة جداً.      

شكّلت الحالة السورية انعكاساً لما ذكرناه أعلاه بأجلى صورة، وباتت حالة مرض مزمن للربيع العربي وأزمة إقليمية ودولية استعصت على الحل، فعقدت الدول المعنية مؤتمرات وندوات تشاورية واجتماعات سياسية (جنيف، أستانة، الرياض، موسكو، روما… ) على المستويات كافة، وخرجت التوصيات والمقاربات لوضع خريطة طريق لحل ما أصبح يُسمى “الأزمة السورية”.

بحسب اطلاعي على ما رَشَح عن معظم اللقاءات المذكورة، لاحظت إجماعاً أن لا حلّ للأزمة السورية إلا الحل السياسي، وأنه هو الطريق الوحيد، تأسيساً على أن المجتمع السوري مجتمعٌ متعدد الإثنيات والأديان والثقافات، ولا يمكن إقصاء أياً من هذه المجموعات عسكرياً، وهذا بالذات ما سأتناوله هنا مفاهيمياً؛ متجاوزة المشهد الميداني الذي يبدو أنه ماض في تشكيل واقع عسكري يفرض سورية مقسمة طائفياً وعرقياً ومناطقياً، وبالقوة العسكرية التي تنشد تحقيق المصالح الإقليمية والدولية على حساب سورية الدولة والشعب بكافة مكوناته.

انطلاقاً من العنوان “نحو مجتمع لا إقصائي” أجد من المفيد مراجعة بعض المصطلحات وانعكاساتها الواقعية إن كنا ننشد المقاربة الموضوعية، والتفكير والخروج بحلول من خارج الصندوق. إن وصف مجتمعٍ ما بأنه مجتمع متعدد إثنياً ودينياً وثقافياً وسياسياً إلخ…، ينطبق على مجتمعات العالم كافة ما عدا دولة الفاتيكان على حد علمي، وحتى ما يُسمى دولة إسرائيل الموسومة في دستورها بأنها دولةٌ يهودية قامت باليهودية ومن أجلها، فإنها تحكم مجتمعاً ليس متعدداً وحسب، بل ومتناقضاً في مكوناته حتى ضمن الديانة اليهودية نفسِها، (فهناك اليهود السفرديم والإشكيناز واليهودي الأبيض واليهودي الإفريقي… كما وهناك العرب السنة والعرب الدروز واليهود من أصل عربي والمسيحيون العرب…). إذن التعددية قدرٌ لا فكاك منه في كل مجتمعات العالم، وأنا شخصياً لا أرى أن مسألة التعددية بناءً على ما سبق، تشكل حلاً أو مشكلةً بحاجةٍ إلى حل، إنما هي واقعٌ موجودٌ في المجتمعات كلها وعبر العصور كلها، هذا من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية فإن التعدديةَ المجتمعيةَ تغدو مشكلةً حقاً في حال توافرت شروط دكتاتورية نظام أوليغارشي حاكم للمجتمع. ومع إقراري بأنها مشكلةٌ بالشرط المذكور، فلستُ أسلمُ بأنها حلٌ أو عاملٌ يُغني الحل لمشكلة الدكتاتورية.

وفي نفس سياق مراجعة المصطلحات نجد أنفسنا كمفكرين أمام سؤالٍ صعب، والإجابة عليه غير واضحة إلى الآن، وهي مسألة الحدود الجغرافية لسورية؛ فإن التطورات على الأرض تشي بأن سورية ما بعد آذار 2011 لن تكون كما كانت عليه حدودُها قبلاً. فمثلاً منطقة الجزيرة الفراتية انفصلت أو تكاد عن سوريا “سايكس وبيكو” ليخرج على العلن مصطلح إقليم يدعى “روج آفا” الكردي، الذي لا يُخفي طموحاته القومية المعززة بدعم أمريكي عسكري وجيش وشرطة ومؤسسات حكم مدنية محلية تمارس عملها على الأرض بقوة الأمر الواقع. أيضاً وفي السياق نفسه خرج على الملأ منذ مدة مصطلح “سورية المفيدة” سياسياً، والتي تشمل الشريط الجغرافي من درعا إلى حلب وما يليه من جهة الغرب (الساحل)، ومؤخراً بِتنا نسمع عن مصطلحٍ جديد خرج على استحياء “سورية المفيدة” اقتصادياً؛ أي منطقة البادية وحوض الفرات حيث تتركز معظم الثروات الباطنية من نفط وغاز . وبناءً على ما سبق نجد أن السؤالَ يُطل برأسه من جديد وقبل التأسيس لأي حل لابد من الإجابة عليه: هل ستعود سورية بحدودها السياسية كما كانت قبل عام 2011؟! هناك إجماعٌ بحسب علمي أن الجواب يأتي بالنفي، فحدودُ سورية لن تعود كما كانت، ولا أحد يعلم على وجه الدقة شكل الحدود المقبلة إلى أن ينجلي غبارُ الحرب، ولا أعتقد أن هذا اليوم قريب!

مع ذلك، ومهما تكن نتائج الحرب القائمة في سوريا، فإني أعتقد أن “نسب” التمثيل الديموغرافي لمكونات الشعب السوري ستبقى على ما كانت عليه قبل 2011، ولن تشهد تغييرات نسبيةٍ حادة على أيٍ من مكوناته، وسيبقى العربُ السنة أصحاب الغالبية الساحقة. أما التغيير الحقيقي والجذري الحاصل فهو على مستوى الفكر والطموحات والآمال والآلام، فإنه مما لا شك فيه أن 6 سنوات من الحرب القاسية أفرزت انقسامات حادة داخل المجتمع ما بين مجتمع المعارضة ومجتمع الموالاة، وتبنى كلُ طرف خطاب استئصال الطرف الآخر، هذا واقعٌ لا يجب إغفاله أو إنكاره. مع ملاحظة أن الكتلة الديموغرافية للمعارضة تتكون من العرب السنة، ووجود بعض الشخصيات الأقلوية في صفوف المعارضة غير مؤثر فعلياً، في حين أن مجتمع الموالاة بمجمله يتكون من عرب سنة وباقي الأقليات من مكونات الشعب السوري- مع استثناء الكُرد، أصحاب المشروع المنفصل عن كلا الطرفين. 

في المحصلة، إن كان الحل السياسي هو طريق حل الأزمة السورية كما هو متداول، وإن كنا في هذه المنصة نطرح رؤانا تحت هذا العنوان فلابد أن يكون الحل السياسي حلاً توافقياً بطبيعة الحال. بالتالي لابد من توصيفٍ موضوعي لطرفي النزاع ومطالب كل منهما بعيداً عن أية مجاملات. فالعرب السنة يدعون أنه إن كان لابد من تقريبٍ لوجهات النظر فلا مناصَ من الأخذ بعين الاعتبار طموحاتهم وآمالاهم والتضحيات الباهظة التي دفعوها ثمناً لتوحش النظام منذ استيلاءه على الحكم عام 1963، في مقابل مخاوف الأقليات (التي بعضها مشروعة وأكثرها متوهمة)، المرتابة من الثورة وحاملها من العرب السنة.

إذن، لدينا طموحات مقابل مخاوف، والسبيل لتحقيق هذا الطموح وإزالة تلك المخاوف برأيي ينطلق من المبادئ التي أتت مع الربيع العربي؛ الحرية والعدالة والكرامة كعنوانٍ إنساني لا يختلف عليه مؤيد أو معارض، وإنما يقع الاختلاف عند التوظيف وآليات التنفيذ. وبما أن العرب السنة يرون أنفسهم غالبيةً سكانية ًمطلقة صبغت سوريا بصبغتها تاريخياً ودينياً وثقافياً وجيوسياسياً، وأنهم أصحاب مشروع حضاري حامله الإسلام، وأنهم هم من قدموا أكبر التضحيات في سبيل تلك المبادئ التي انطلقت مع ثورة آذار 2011؛ فإن نظام الحكم في سوريا المستقبل سواء كان ديموقراطية عددية أو ديمقراطية نسبية أو أي نظام (يجمع بين الإسلام والعلمانية أو الإسلام والليبرالية أو مدنية ذات مرجعية إسلامية…) لابد أن يكون لهم فيه مكانتهم الطبيعية. وهذا مما يضعهم أمام مسؤولية الأخ الأكبر، إن صح التعبير، تجاه باقي الأقليات الدينية التي في معظمها محسوبة على الإسلام بالمناسبة (العلوية، الدروز، الإسماعليلية، الشيعة، الأكراد، العلمانيين) بحيث لا تنعزل هذه الأقليات في كانتونات مغلقة من جهة ولا يشكلون جماعات ضغط سياسي معطِّل من جهة أخرى.

والذي أريد أن أقوله إن المسؤولية الكبرى يتحملها العرب السنة لا الأقليات، وعليه فإن الخطاب يجب أن يُوجه لهم بالدرجة الأولى وعليهم أن يخرجوا بمقاربات تعكس طموحاتهم وآليات تحقيقها بشكل عملي بعيداً عن المزاودات والمجاملات والمثاليات، مع اعترافي أن ذلك -وبكل أسف- غير متوفر حالياً بسبب أزمة المرجعية والتشرذم التي يعاني منها العرب السنة، وهذا بالمناسبة أحد بواعث مخاوف الأقليات إن لم يكن أهمُها، فتشظي المرجعية الدينية والسياسية للعرب السنة وفقدان الثقة بالنخب الفكرية والدينية والسياسية وخطاباتها على الساحة هو أحد أهم أزمات سوريا.

هنا يتضح لدينا معالم على طريق الحل إن لم يكن للوصول إلى مجتمع متجانس كخطوة أولى، فليس أقل من تحقيق مجتمع متصالح مع ذاته بعيداً عن المجاملات كما ذكرنا، وذلك يتمثل في عقد مؤتمر عام للعرب السنة (على سبيل المثال) يكون فيه باقي مكونات المجتمع السوري ممثلين بصفة مراقب ومشارك للخروج برؤية توافقية تحقق طموحات هؤلاء وتزيل مخاوف أولئك، من دون إقصاء الأقليات من قبل الأكثرية أو تعطيل لحق الأكثرية من قبل الأقليات. وبالمقابل لابد للأقليات سواء كانت عرقية أو طائفية أو دينية أن تعترف بالدور التاريخي للعرب السنة في سوريا وريادتهم فيها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى لابد من حسم قضية الأقليات هل هم كتلةٌ واحدةٌ متضامنةٌ أم أنهم كتلٌ متعددة؛ فمعظم المقاربات تضع أكثريةً واحدة مقابل أقلية واحدة وكأن الأقليات نسيجاً واحداً متجانساً… وهذا غير صحيح. فالأقليات في سوريا منها الإثني والطائفي والفكري إلا أن الرابطة الجامعة لها هو خطابها المرتاب والمشكك في الأكثرية (العرب السنة) ومطالبتها بتشكيل هذه الأكثرية سياسياً وفكرياً بما يناسب الأقليات، لا بما يطمح له العرب السنة وهذه من المفارقات. والاقتراح هنا أن تخرج الأقليات بخطاب إما كل أقلية على حدة أو على شكل خطاب جامع لها متحرر من هذه المفارقة.

وبناءً على ما سبق، من الممكن تأسيس مجلس حكماء يراعي التمثيل النسبي لكل مكون من مكونات الشعب السوري الذي سيواجه استحقاقات جسيمة جداً لمعالجة آثار الحرب من مصالحة وطنية وإعادة إعمار وتوطين المهجرين والبت بمصير المفقودين وتبييض السجون إلخ… وهذا بنظري مقدمٌ على أي استحقاق آخر، وسنجد بالنتيجة أن تحقيقَ العدالةِ في ظل جوٍ من الحرية والكرامة سيوّلد مجتمعاً لن نقول إنه متجانسٌ بل على الأقل متصالحٌ مع نفسه ومع مكوناته وهذا لا يكون إلا بإزالة الاستبداد وأسبابه وأشكاله كافة أولاً وقبل كل شيء. 

ورقة أُلقيت في الاجتماع الثالث لأرضية الشرق الأوسط، مؤسسة قرطبة، سويسرا/ استنبول.

(استنبول 09- 10/ 10/ 2017)

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *