“هيغلية الفقراء” مصطلح حديث يُطلق على سبيل السخرية والاستهزاء، أُطلقت على أشكال الاستعمار الجديد في العالم، كزيارة هولاند رئيس الجمهورية الفرنسية إلى أفريقيا، على سبيل المثال، من باب التهكم! وفي عالم الفلسفة تُعرف “الهيغلية” في الأساس على أنها فكر نخبوي وثوري في عصرها، نسبة إلى هيغل (1770 – 1831) مؤسس الفلسفة المثالية الألمانية، إلا أنها تظل مجرد نظريات وأفكار متعالية نتجت عن عقليات لا تعدو خط الترف الثقافي، تماماً ككل المذاهب والمناهج المحملة بمثل هذه الأفكار والتي تحمل وعوداً وهمية ومردوداً كاذباً، كالستالينية والماركسية والعلمانية… وعليه جاز لنا تسميتها بـ “هيغلية الفقراء”، وجاز إطلاقها على الكثير من مثقفينا الذين استحقوا بجدارة هذه التسمية.

فإن أجرينا تشريحاً فكرياً على عينات من نخبنا المثقفة فإنها تشي بوصولها إلى ما يُعرف بمرحلة الشيخوخة الفكرية، تلك الشيخوخة التي تتوقف عندها الكثير من الملكات الفكرية، كالقدرة على التحليل السليم للأحداث وقراءة مستجدات الواقع، أو الارتهان إلى أفكار بالية تعود إلى ثقافة حقبة ما قبل الثورة، أو الاكتفاء بالتنظير المثالي الميتافيزيقي المفارق للواقع.

ما نلاحظه هنا مع الثورات العربية -أو على الأقل حديثنا هنا عن الثورة السورية- أن قطيعة تاريخية حدثت على المستويات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وعلى مستوى العلاقات الدولية والإقليمية… فأعلنت نهاية حقبة فكر التخاذل والتسليم والخضوع لأشكال الفكر الاستبدادي والاستعماري، ورمت المثقفين مدعيّ النضال من “قوميين وممانعين” ومن حداثيين وليبراليين وعقلانيين إلى خارج تاريخ الوجود الثوري.

فالمنادون بالنزعات الليبرالية أرادوا إصلاح المجتمعات سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بعدما اعتقدوا أن اعتمادهم على معرفة الوجود معرفة موضوعية علمية وقراءته بعقلانية (كما يقولون) كافية لعملية الإصلاحات المجتمعية تلك، واستقراء سريع للواقع يبين فشلهم.

عقلانيو الثورة السورية، أتباع “نقد العقل العربي” و”نقد العقل الإسلامي” و”تحديد مفهوم العقل”… إلى ما هناك من مفاهيم ومناهج فكرية حاولوا من خلالها النقد والنقض والشجب… البحث عن هويتهم المفقودة، وبذلوا الجهود الحثيثة الدؤوبة لتجاوز الحقبة التاريخية الإسلامية فأضاعوا هويتهم وأضاعوا معها عقولهم! ولا أعلم متى سيستفيق عَبَدة العقل (على اعتباره ضد الروح) ووثنيو العقلانية، لينتقلوا من مركزية وجوهرية العقل إلى الاعتراف بحدوده؟!

إذا كانت العقلانية التي يقدسها العقلانيين، تنقسم إلى ستة أنواع (كما تحدث عنها حليم بركات) وأن لكل نوع منها فرضياتها ومنطقها وبراهينها ومناهجها الخاصة، وإن كان يحق للمستغربين (أي التابعين للثقافة الغربية والرافضين لأي نوع آخر من العقلانية) تسمية أنفسهم بالعقلانيين واعتبار مناهجهم عقلانية، فإن هناك أيضاً عقلانية تعتمدها العلوم الدينية النقلية، والتي تعتمد على القياس المنطقي على مثال سابق…

فئة المثقفين والكتّاب تلك، غابت عن الساحة الحقيقية للثورة بشكل ملحوظ، فنجد غالبيتهم يرفض الكتابة عن الثورة بشكل مجاني أو تطوعي… ونلفى أنهم اتخذوا من الكتابة مهنة يؤجرون عليها. ليس هذا فحسب بل من خلال التعليق والتحليل عن أحداث الثورة السورية؛ يحاولون تطبيق النصيحة المشهورة في فن الكتابة “عليك بالإظهار لا الإخبار”، أي بإظهار الكثير من المشاعر ودفع الجهود إلى جعل منشوراتهم تبدو وكأنها نابضة متدفقة بالحياة ومتماهية مع هول الأحداث على الأرض، إلا أنه مهما حاولوا خداع القارئ، ومهما ابتغوا للإظهار وسيلة، لازال أغلبهم في دائرة الإخبار! ولم تتجاوز أغلب كتاباتهم حد “ثرثرة الترف الفكري” على صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت، وهذا بات واضحاً لكل قارئ واع متابع لهم.

ناهيك عن أنهم مهما حاولوا التفلت من تركيب العقل العربي، فإن العقل في الفكر العربي ووجدانه يظل مرتبطاً بالسلوك والأخلاق ويحمل دلالة قيمية ترتبط بالهداية والضلال، فعلى قدر رفضهم لهذا العقل على قدر ابتعادهم عن الأخلاق.

وعندما عبّر عراب المثقفين عن رأيه في المعارضة السورية، أجده أمام وصف دقيق للمثقفين أنفسهم (بمن فيهم هو) في ربطه بين من يعمل بالحياة السياسية في العالم العربي وبين عقدة الأنا والنرجسية وانتفاخ الذاتية. أليس فكر ما قبل الثورة، بمجمله قائم على الذاتية وعقدة الأنا؟، أليست السياسة هي التطبيق العملي لنظريات هؤلاء المثقفين ومفلسفي الواقع؟!.

ويحلو للبعض الآخر تطبيق منهج الاستقراء التاريخي على الثورات العربية، فيقرأ أحدهم الثورة السورية على أنها شبيهة بالثورة الفرنسية! ويخرج بنتيجة مفادها أنها: 1: ثورة التنويريين (أي المثقفين) وأدواتها المهمشون والفقراء وعامة الشعب. 2: وأنه كما تأخرت الديمقراطية في فرنسا ولم يتم الاعتراف بالدولة العلمانية إلا عام 1905 أي بعد قرن ونيف من اندلاع الثورة الفرنسية، ولم يقر قانون زواج المثليين إلا عام 2013، فكذلك الأمر بالنسبة للثورة السورية، ستحقق الدولة العلمانية وإن تأخرت النتائج!

صحيح أن الثورة الفرنسية جاءت بمفاهيم المواطنة والإنسانية والمدنية والحضارة، إلا أنه يتم التعامي عن أن تلك الثورة نفسها ابتكرت المقصلة والإرهاب في طريقة الحكم والسلطة ضد الخصوم والمعارضين، ففي عهد الثورة الفرنسية أصبحت الحرية و”الإرهاب” مفهومين متلازمين، التحرر والخلاص من النظام السابق والإرهاب ضد أعداء الثورة وتصفيتهم.

مثقفونا، هؤلاء، يرددون شعارات الغرب، والوصف التحليلي الدقيق لـ”فرانز فانون” عن مثقفي الشرق في مقدمة كتابه “معذبو الأرض” ليس ببعيد عنهم، فهم نتاج زرع الفكر الغربي في الشرق، وحصيلة صناعة مفكرين قصارى همهم أن يغدوا على شاكلة الغربيين! هم ضد ثقافة الشهادة، ومناصرو لثقافة الفلسفات العبثية الفوضوية وثقافة الحشاشين.. همهم الأكبر نقد ومهاجمة الإسلاميين مهما كانت توجهاتهم.

باختصار، هم “هيغلو الفقراء” بامتياز.

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *