هناك منهجان استخدما “بشكل سلبي وسيء” لنشر الأفكار والنظريات والفلسفات والإيديولوجيات في محيطنا؛ إما بالطريقة العنيفة أو بالطريقة الناعمة. العنيفة معلوم أنها تأتي عن طريق فرضها بالقوة وتكون مباشرة وواضحة، أما الناعمة فعندما تكون مشوبة بغايات خبيثة، ومن هنا يكمن خطرخا لتدليسها وكيديتها وتسللها بكل رقة من عوالم أخرى وسياقات بعيدة عن سياقات ثقافتنا، فتعمل على خلخلة البنية الأساسية لها، لتحل محلها ثقافة مختلفة عنا، رويداً رويداً ومن الداخل.
إحدى تلك الأفكار والفلسفات التي انتشرت بالأسلوب الناعم في مجتمعاتنا ما عُرف مؤخراً في الصالونات الأدبية العالمية بـ”النسوية” والتي بحسب المعاجم هي: “الاعتراف بأن للمرأة حقوقاً وفُرَصاً مساوية للرجل في مجالات الحياة كافة العلمية والعملية”. وتنوعت التوجهات فهناك نسوية ليبرالية وأخرى ماركسية وثالثة متطرفة في حال عداء كامل دائم لا ينتهي مع الرجل.
ولا يخفى على مُطّلع أن أصل نشوء النسوية غريب تماماً عن ثقافتنا، كغيره من الإشكالات التي تنشأ في الغرب وتُحاك حولها النظريات والأفكار والإيديولوجيات إلى أن تصل إلى أسماع باحثينا ومثقفينا فينقلوها ويسحبوها (هم والمستشرقون) على مجتمعاتنا ونصوصنا التراثية والتاريخية والمقدسة، لقراءتها وتفكيكها، ويلبسونها عنوة لباساً غريباً هزلياً هزيلاً.
النسوية الغربية تدافع عن المرأة المُعنفة من قبل المجتمع والرجل على حدٍّ سواء، وينطلق مناصروها من أن الإنسان لا يولد ذكراً أو أنثى وإنما يصبح كذلك من خلال التربية الاجتماعية! فيسعون لترسيخ ثقافة الإنسان الحرّ حتى في اختيار جنسه! عدا عن أنها تعدّ أن محاربة الديانات والأيديولوجيات من أساسيات قضاياها كونها (أي الديانات) – حسب قصور عقولهم- ليس لها من رسالة إلا إقصاء الآخر المخالف، أو إنشاء تحزبات وصراعات تدّعي فيها كل ديانة أنها تملك وحدها الصواب والخلاص، ناهيك عن اتهام الإسلام تحديداً بالتخلف والبعد عن كل ما هو حداثي، بل وأنه ظالم للمرأة والأقليات الدينية والطائفية!
وكما هو الحال دائماً فإن التاريخ يثبت لنا وجود أصداء عربية و”إسلامية” لتلك الأصوات الغربية، ومن الجنسين، وما عليها إلا ترديد ما تدعو إليه كل الحركات الغربية الحداثية وغير الحداثية، منها ما بات يُعرف في وطننا العربي والإسلامي باسم “النسوية الإسلامية” أو “الجندر الإسلامي”، وكأننا لن ننتهي من هذه اللواحق المقحمة على إسلامنا، فتاريخ هذه اللواحق معروف لدينا، اللاحقة التي يجب أن ترضي أربابهم في أقاصي الغرب والشرق وتوافق سياساتهم، وتصبغه بصيغة مقبولة، فيسارع بنو جلدتنا إلى تبني مصطلحات هلامية، مُستَهلكة، مغلوطة دون تحرٍ أو الوقوف على دقتها، والتي لا تحمل أية قيمة علمية أو أي تأصيل شرعي!
فأخذوا يُلحقون لفظة “الإسلامي” بأي مفهوم جديد، وعصري، وحداثي، إلى أن غدا الإسلامُ أب الاشتراكية، وأخ الليبرالية، وابن عم الحداثة، والأم الروحية للعلمانية… وما إلى هنالك من تسميات يخلعونها على الإسلام ظناً منهم أن ذلك يخدم الإسلام، والإسلام بريء من هؤلاء، لأنهم في الجوهر ليسوا إلا أدوات بأيدي صنّاع المفاهيم والنظريات الغربية حين يلوون النصوص لتتناسق مع الثقافة الغربية. الإسلام لا يحتاج إلى نظريات وحقوقيين من الغرب ولا إلى فلسفاتهم كي ينظرّوا علينا ما يجب أن تكون عليه المرأة وكيف تنال حقوقها، لأنه دين ارتقى بالمرأة إلى مدارج العزّة والكرامة، وجاء ليرفع من قيمتها حيث أثبت حقها في الكرامة الإنسانية، فحررها من عقدة الذنب التي ظلت تلاحقها منذ بدء الخليقة وحافظ على سمعتها وأثبت استقلال شخصيتها، فإذا كانت أحكام الشريعة الإسلامية لم تنزل إلا لإقرار العدل والإنصاف وإزالة الظلم بين البشر كافة، فكيف بين المرأة والرجل؟! قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90). وقال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل: 97).
والأنكى عندما سارع من يدافع عن أطروحات النسوية ادعاءً بأنها من قلب الإسلام، بعد أن ملأوا الدنيا طولاً وعرضاً من قبل بحقوق المرأة في المجتمعات العربية ومحاربة أشكال التمييز أو القضاء على العنف الممارس في حق المرأة وأصبغوا عليها صفة القداسة وأصدروا البيانات والكراسات والتوصيات من قبة الأمم المتحدة وأروقتها (والتي سقطت ورقة التوت عنها بعد الثورات العربية)، نادوا فيها بإصلاح وضع المرأة في المجتمعات العربية.
عملية الإصلاح هذه التي يتبعها أصحاب وصاحبات حقوق المرأة تسير من خلال الهدم؛ هدم المسلمات الشرعية لدى المسلمين. ولا أدل على ذلك إلا عندما ينادون باعتبار القرآن المصدر التشريعي الوحيد ويلغون السنة النبوية. كما لا يخفى على المتابع اعتمادهم على أسباب النزول أو رفض بعض التفسيرات للنص القرآني طالما لا يتناسب ومنهجهم. عملية الهدم هذه تطال حتى الفقه الإسلامي والفقهاء باتهامهم باتباع آرائهم الشخصية وأهوائها!
فآخر تقليعاتهن/م أن اعتلت إحداهن المنبر وخطبت خطبة العيد (عيد الأضحى المبارك)، من منطلق “النسوية الإسلامية” وممارسة المرأة لحقوقها المحرومة منها في المشرق العربي بسبب طغيان الخطاب الذكوري والتفسير الذكوري للنصوص المقدسة، بعدما مهدت الطريق لها زميلتها الغربية “الفيمينيست” وأَمّت الصلاة في الرجال والنساء عام 2005، وطالبت مراراً وتكراراً بقراءة القرآن وتفسيره أنثوياً لا ذكورياً، معلّنة ديناً “إسلامياً نسوياً” جديداً!
تعالت بعدها التبريرات والمرافعات عن فعلتها مستندة إلى البحث في السنة النبوية لإيجاد حالة مماثلة، فكان أن وجد أحدهم قصة أم ورقة الصحابية وكيف أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تؤم أهل دارها من رجال ونساء، علماً أن أهل دارها هم “جارية وغلام” فيما نُقل من أخبار السيرة، ثم إن أم ورقة كانت لها مكانة كبيرة كونها حافظة للقرآن، رجع إليها الخليفة أبو بكر رضي الله عنه عند جمعه للقرآن من البيوت وصدور الحفظة، فهل تلك النسوة اللواتي يؤممنّ الصلاة ويعتلين المنابر وصلنّ إلى مقام أم ورقة؟ والجدير بالذكر أن تلك الصحابية نفسها هي التي لم يأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج في غزوة بدر عندما قال لها: “قرّي في بيتك، فإن الله تعالى يرزقك الشهادة”.
إن أصحاب حقوق المرأة والنسوية يُسقطون-أو يتجاهلون على الإطلاق-من هذه الرواية جزئية لا تعجبهم ولا تتناسب مع منهجهم في فهم الإسلام في مسألة خروج المرأة إلى الحياة العامة والآليات الضابطة لها.
ولكم أن تراجعوا كتاب “البداية والنهاية” لابن كثير وكتاب “سير أعلام النّبلاء” للحافظ الذّهبي وغيرهما، للاطلاع على مقام الشيخات الصالحات العابدات الناسكات المحدثات الفقيهات كما جاءت سيرتهن وما كنّ عليه من مقام عالٍ. فهل لم يبق على نساء عصرنا من الأدوار المناطة بهن في مجتمعهن إلا إمامة الصلاة؟! وبأيّ منطق يتم الخلط بين واجب التفقه في العلوم الشرعية ونقلها وتعليمها، وبين الحق في الإمامة والخطابة؟!
الطريف بالأمر أن هؤلاء أنفسهم، مناصري حقوق المرأة و”نسويتها”، يرفضون “الإسلام السياسي” لارتباطه في مخيالهم بالإرهاب والإخوان، أو ببساطة ولنكن واضحين لأن الغرب يرفضه ولا يقبل بوجود دولة تتداخل فيها السياسة والدين، لكن عندما يأتي الحديث عن المرأة وعن حقوقها تُسل أقلامهم ويسخّرون أنفسهم للدفاع عن حقوقها السياسية كاملة حتى بلوغها سدة الرئاسة! إلا أن المرأة التي يريدون ليست إلا صورة المرأة “المودرن” والمفهوم الغربي الحداثوي لها (كنموذج الرجل المطلوب على المقياس الغربي تماماً)، فيحق لها المقاومة والتمرد والنضال السياسي حتى تنال حقوقها، بل ويحق لها إمامة الناس للصلاة لإثبات أن الإسلام متحضر مدني حداثوي… وأن العيب من منظور “النسوية الإسلامية” تلك في الرجل الشرقي الذكوري المتخلف الذي سلبها تلك الحقوق!
وليس أدل على ما أقول إلا ما مرّ معي مؤخراً كنموذج حيّ في صفحات أول صحيفة عربية يومية لندنية حينما قدمت بشكل مشرق ومشوق لحياة مقاوِمة شيوعية برازيلية سابقة أصبحت أول رئيسة للبرازيل ضمن حقل “السياسة حياة”! بينما وفي حقل آخر “إسلام سياسي وتسامح” ضمن الجريدة نفسها لن تجد إلا نفث السموم في المقالات للنيل من الإخوان كمثال عن الإسلام السياسي “الإرهابي” حسب زعم الجريدة، ما سيكرس يوماً بعد يوم، وجيلاً بعد جيل تلازم الصورة النمطية للإسلام الإرهابي إذا ما تداخل بالسياسي ليسحبوا الإسلام شيئاً فشيئاً من الحياة العامة ويغدو خاصاً بحياة الأفراد الروحية فقط، وتلازم الصورة النمطية للمرأة المسلمة التي لن تتحرر إلا إذا كانت على خطى وشاكلة المرأة الغربية! هذا المثال لبيان تهافت وازدواجية طرح مناصري حقوق المرأة على الشاكلة الغربية.
كلامي أعلاه لا يعني أبداً أننا لا نعاني من أزمات متعددة على الصعيد الأخلاقي العملي والتطبيقي لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية، بل إنني أؤكد على المخاطر التي يواجهها مجتمعنا العربي الإسلامي والتي إن لم نجد لها حلولاً سريعة وجذرية في ظل هذه الفوضى الأخلاقية والقيمية التي انكشفت مع اجتياح الثورات العربية، فإننا سنظل أمة بعيدة عن ركب حضارتها الإنسانية، وعن جوهر الإسلام نفسه.