التعليم والدعوة في المجتمع الديني الدمشقي في العشرية الأخيرة (قبل سنة 2011)
“لون الماء من لون الإناء”[1]
الأهداف
1- الدين والتدين في فتوره ونشاطه يمثل حاجة طبيعية في المجتمعات العربية المدينية، كونه المجال الذي تتحقق فيه الذات وقيمة الانتماء.
2- دراسة الجماعات الدينية في المجتمع الدمشقي ترسم صورة دقيقة عن واقع التعليم الديني ومظاهره واتجاهاته ومآلاته.
3- للسياسة دور كبير في هندسة الحياة الدينية والدعوية في المجتمع السوري عامة والدمشقي خاصة.
4- المؤسسات الدينية الرسمية ومناهجها التعليمية لا تغطي حاجة المجتمع الدمشقي.
مقدمة
إن التدين بالنسبة للمجتمع الدمشقي والسوري بشكل عام يمثل حاجة فطرية طبيعية، تبرز مظاهره إلى العلن تارة وتفتر تارة أخرى، كونه يحقق أولاً قيمة الانتماء وتحقيق الذات في ظل مجتمع لم يراع هذه الحاجة لا على الصعيد الاجتماعي ولا على غيره من الصُعُد حيث تفشى فيه أخلاق الفردية والأنانية والاغتراب وتغلغلت فيه أشكال الفساد كافة.
وقد غلب على المظهر الديني للمجتمع الدمشقي طابعاً دعوياً اجتماعياً؛ اتخذ العلماء والمشايخ من المؤسسات الدينية التقليدية (الرسمية وغير الرسمية) منصات للوعظ والإرشاد الديني والحفاظ على الهوية الدينية السنيّة والتأكيد على الخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمع السوريّ.
هذه الورقة ستناقش مظاهر التعليم الديني والدعوي وانعكاساتها على المجتمع الدمشقي من خلال المستويات التالية:
المساجد ومعاهد تحفيظ القرآن
ازدادت نسبة بناء المساجد في العشرية الأخيرة، ويعود ذلك في المقام الأول إلى سرعة استصدار رخصة البناء قياساً بالفترة السابقة وإلى زيادة الإقبال على المساجد في أوساط الشباب.
ونشطت معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم، أُريد منها تحقيق هدفين، أولهما: التأكيد على تبني الدولة السورية لمظاهر التدين على الرغم من علمانية الدولة -بزعمهم-، وثانيهما: تمثل تلك المعاهد المكان الأنسب لمزاولة الدعاة والمشايخ أدوراهم الروحية والتربوية.
المعاهد والمؤسسات الشرعية
أدت سياسات تأميم الأوقاف الإسلامية إلى سحب الاستقلالية الاقتصادية لجميع المؤسسات الدينية لصالح النظم السياسية المستقلة حديثاً في الدول العربية لتكون تحت سيطرة الدولة؛ فالمساجد مسجلة في وزارة الأوقاف، والجمعيات الخيرية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والتعليم الإسلامي في وزارة التعليم، والعديد من الكليات الشرعية على اتصال بوزارة التعليم العالي. وقد زودت هذه المؤسسات بدورها الدولة بالبنية المؤسسية والتنظيمية الموثوقة والكفيلة بتطبيق الإسلام الرسمي، مثل مركز أبو النور للشيخ أحمد كفتارو (1915- 2004)، ومعهد الفتح للشيخ فرفور. وكلاهما لديها فرع لتعليم الإناث إلى جانب الذكور.
الجمعيات الخيرية الدعوية والنشاطات الثقافية
مثل جماعة زيد نسبة إلى مسجد “زيد بن ثابت”، التي أسسها الشيخ عبد الكريم الرفاعي (1904-1973)، بالتحالف مع “مشايخ الميدان” في دمشق، لعبت دوراً مزدوجاً في التدين الشعبي، الدور الأول: اجتماعي خيري، والدور الثاني: دعوي في التذكير بضرورة تطبيق شرع الله في العبادات والمعاملات والسلوكيات.
ومن بين التيارات الثقافية، انتشرت أفكار جماعة جودت سعيد في العقد الأخير من القرن 21 والتي تعتبر أبرز مبادئها تكريس فلسفة اللاعنف.
انتشار الكتاب والشريط الإسلامي وانتعاش دعوة الدعاة
فقد عرفت العشرية الأخيرة انتعاشاً لسوق الكتب والأشرطة والأقراص المدمجة الدينية، ولقد تزامن ذلك مع انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وانتشار المعلومات الدينية والعلمية عبرها. إضافة إلى انتشار الفتاوى على الهواء في الفضائيات التي سهلت الحصول على المعلومة دون الرجوع إلى المشايخ والعلماء؛ فتصدر الإنترنت كمنصة للتعليم الديني وتراجع دور الكتاب الورقي على حساب الكتاب الإلكتروني، والتعلم الفردي على التعلم الجماعي.
المدارس المحافظة الخاصة
في العشرية الأخيرة تم تأسيس عدد من المدارس المحافظة التي كانت تعتمد منهاج التربية السورية مع إضافات دينية سواءً في طبيعة المادة العلمية المضافة أو في الجو العام للمؤسسة التعليمية. ويعرف السوريون أن مادة التربية الدينية التي تعطيها هذه المدارس الجديدة اهتماماً خاصاً، مادة ثانوية جداً في مناهج التدريس السورية، حيث لم تكن تفيدهم في المفاضلة للتسجيل الجامعي، لذلك لم تكن تشكل مجال الاهتمام الدراسي.
التدين والدعوة في المجال النسائي
من أبرز مظاهر التدين والدعوة في المجال النسائي كانت جماعة القبيسيات التي أسستها الشيخة منيرة القبيسي (1933-2022) والتي تتلمذت على الشيخ أحمد كفتارو مفتي الجمهورية السابق حيث دعمها رسمياً وشرعياً. وتعتمد الجماعة على نشر الدعوة والأذكار وتعليم فقه العبادات وتحفيظ القرآن والحضّ على الحجاب، والتخلق بالأخلاق الإسلامية دون التطرق إلى اختصاصات ذات مستوى علمي عال أو أدنى اهتمام بالقضايا السياسية وقضايا الأمة بشكل عام.
*****************
ما ستركز عليه هذه الورقة هو بيان أن للتيارات الصاعدة والأطراف الدينية الفاعلة عواملها الذاتية التي أسهمت بدورها في صياغة المشهد الديني في دمشق، حيث تم تطوير أساليب دعوية متلائمة مع الحالة الأمنية وقادرة على التكيف وفقاً للهوامش المتاحة. إلا أنّ هذا النشاط الديني الملموس والمفتوح بعض الشيء لم يحمل جوانباً إيجابية دائماً بل نجد أنه خلق حالة من الفوضى الدينية تراوحت بين التحزبات وبين انتشار الآراء الدينية المغلفة بتوجهات سياسية أو تلك الحاملة لقيم تعزز من الفردية خاصة بين الشباب، ناهيك عن تصاعد ظاهرة مسلميّ السوق، حسب تعبير باتريك هايني.
البحث
إن التدين بالنسبة للمجتمع الدمشقي والسوري بشكل عام يمثل حاجة فطرية طبيعية، تبرز مظاهره إلى العلن تارة وتفتر تارة أخرى، كونه يحقق أولاً قيمة الانتماء وتحقيق الذات في ظل مجتمع لم يراع هذه الحاجة لا على الصعيد الاجتماعي ولا على غيره من الصعد حيث تفشى فيه أخلاق الفردية والأنانية والاغتراب وتغلغلت فيه أشكال الفساد كافة.
من جهة أخرى لا يمكن رد كل الفعالية التي أصابت الحالة الدينية في العشرية الأخيرة إلى النظام، ذلك أن للتيارات الصاعدة والظواهر النامية والأطراف الدينية الفاعلة آنذاك ديناميكيتها الخاصة وعواملها الذاتية التي أسهمت بدورها في صياغة المشهد الديني في سوريا جنباً إلى جنب مع النظام السوري المتأثر أيضاً بالظروف الداخلية والإقليمية والدولية، حيث أدت جملة عوامل متداخلة إلى حصول انفراجة في الوضع الداخلي استغلها فاعلون محافظون سوريون مستجدون من مختلف التنويعات الدينية لنشر أفكارهم والترويج لمبادئهم دون الدخول في علاقة زبائنية مع النظام، وتم تطوير أساليب دعوية وابتكار تكتيكات جديدة ومتلائمة مع الحالة الأمنية الضاغطة عموماً وقادرة على التكيف وفقاً للإمكانيات والهوامش المتاحة، ولقد كشفت العشرية الأخيرة عن حركية عالية ونشاطية كبيرة اتسمت بها بعض الدعوات الدينية ولاسيما الدعوة السلفية التي نشطت في جميع المحافظات السورية دون استثناء، ودعوة القبيسيات التي شهدت تطوراً ونجحت باستقطاب بعض أبناء النخب الحاكمة.
وإن شئنا تقسيم ملامح وآثار المدارس الدينية السنيّة في سورية منذ الاستقلال الفرنسي إلى بداية 2011 نجد أنها تراوحت بين مستويات كبرى ثلاثة:
1. دعوي اجتماعي؛ حيث اتخذ العلماء والمشايخ من المؤسسات الدينية التقليدية (الرسمية وغير الرسمية) منصات للوعظ والإرشاد الديني وللحفاظ على الهوية الدينية السنية والتأكيد على الخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمع السوري.
2. فكري تأليفي توثيقي تأصيلي؛ تبنى أتباعه مناهج فكرية وبرامج عمل تدعو إلى الصحوة الإسلامية ونادوا بالإصلاح والتجديد الديني، وانخرط البعض بالسياسة ومحافلها، وأنشأوا أو شاركوا في الجمعيات الاجتماعية المدنية التي تُعنى بقضايا الأمة.
3. جهادي مسلح اتخذ أنصاره العقيدة الجهادية القتالية منهجاً لهم، وسعوا للتركيز على الإعداد النفسي التربوي والبدني للشباب المسلم.
وأن المجتمع الدمشقي شغل المستوى الأول منه الحصة الأسد، بينما عرف ثلة من المجتمع الدمشقي المستوى الثاني، ويكاد ينعدم المستوى الأخير فيه.
الكتاب والشريط الإسلامي
عرفت العشرية الأخيرة انتعاشاً لسوق الكتب والأشرطة والأقراص المدمجة الدينية، تزامن ذلك مع انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وانتشار المعلومات الدينية والعلمية عبرها. إضافة إلى انتشار الفتاوى على الهواء في الفضائيات التي سهلت الحصول على المعلومة دون الرجوع إلى المشايخ والعلماء؛ فتصدر الإنترنت كمنصة للتعليم الديني وتراجع دور الكتاب الورقي على حساب الكتاب الإلكتروني، والتعلم الفردي على التعلم الجماعي.
ومما يلفت النظر في تلك الفترة سماح النظام بمنح تراخيص دور نشر ذات طابع ديني رغم كونها محسوبة على جماعة الإخوان تاريخياً مثل دار القلم التي أسست داراً لها في العاصمة دمشق، كما سمح ببيع الكتب لبعض الشخصيات الفكرية المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين سواءً السورية أو غير السورية مثل الشيخ يوسف القرضاوي ود. مصطفى السباعي والشيخ محمد الغزالي وعبد القادر عودة وغيرهم.
ولقد كان معرض الأسد للكتاب الذي يُعقد سنوياً في العاصمة دمشق فرصة كبيرة لطالبي الكتاب الإسلامي للحصول على كتب تعد محظورة مثل كتب سيد قطب وشقيقه محمد قطب، حيث سجّلت نسبة مبيعات كبيرة لصالح الكتاب الديني. كما لوحظ تسريب بعض دور النشر المشارِكة في “معرض الأسد” لهذه الكتب مع غض نظر رسمي في دولة هي الأعلى من حيث عدد أفراد الأمن بالنسبة لمواطنيها. ولم يقتصر الأمر على كتب جماعة رموز الإخوان الذين خاض النظام السوري صراعاً دموياً ضدهم، بل كان من المستغرب جداً حصول الزائرين على كتب ابن تيمية وغيره من أساطين الدعوة السلفية، الذين تعاملوا بحدة مع الأقليات المصنفة باعتبار أنها “باطنية غنوصية”.
لكن وفي غضون ذلك لوحظ استمرار حظر كتب الإخوان التنظيمية مثل كتب الشيخ سعيد حوى وعدنان سعد الدين وعصام العطار وغيرهم، ما يجعلنا أقرب إلى الاستنتاج أن النظام تساهل مع كتب الرموز الإخوانية التي تناولت مواضيع إسلامية عامة كقضايا السنة ومكانتها والشورى ودعوة الإسلام وأخلاق الشريعة وعقيدة المسلم دون التطرق لمسائل تنظيمية حزبية؛ بمعنى أنه تم التساهل مع الأدبيات الحاوية على أقصى درجات من المضمون الراديكالي في الحكم على الأنظمة والأقليات دون السماح بالكتب التي تمس شؤوناً تنظيمية وحزبية مهما اعتدل طرحها.
وما يقال عن الكتاب الإسلامي يمكن قوله عن الشريط والقرص المدمج الإسلامي الذين شاع بيعهما في مختلف المناطق السورية مترافقاً مع شيوع ظاهرة الدعاة الشباب الجدد في الوطن العربي مثل المصرييْن عمرو خالد وخالد الجندي، ومع انتشار الفضائيات الإسلامية التي قدمت محتوىً دعوياً جذاباً وغير تقليدي من حيث الشكل مثل قناة اقرأ السعودية وقناة الرسالة التابعة لشركة روتانا.
تنوعت مواضيع الشريط الإسلامي وتوزعت على ملفات مختلفة؛ فمن القضية الفلسطينية وغزو العراق كمدخل لنقد الأوضاع السياسية السائدة في العالم العربي وحالة الخذلان التي تتعرض لهما القضيتان العراقية والفلسطينية، إلى الأخلاق والعفة وصون المرأة وتحرير المسلم من الخرافات، والدعوة للاقتداء بالسنة وتزكية النفس وتربيتها روحياً، وتنمية المهارات ذات النفس الإسلامي. في السياق نفسه شاعت الأغنية الدينية في الأعراس المحافظة والحفلات غير المختلطة[2]، فضلاً عن النشيد الديني الدعويّ والمقاوم والتزكوي المرتبط ببعض المناسبات كالمولد النبوي وذكرى الإسراء والمعراج.
كما حصل المشايخ على امتيازات عدة منها الاستخدام الواسع للوسائل التقنية بدءاً بالمواقع الإلكترونية والأقراص المدمجة التي ساعدت على نشر واسع لخطاب دعوي توعوي، إلى وسائل الإعلام المرئية كالبرامج التلفزيونية، والإذاعية، مثل برنامج د. محمد راتب النابلسي الصباحي الذي كان يُبث يومياً على الإذاعة السورية.
السماح بزيارات الدعاة إلى سوريا
زار بعض الدعاة والمشايخ المشهورين سوريا ومنهم الشيخ المصري محمد يوسف القرضاوي في نيسان 2004 وفي عام 2009، والداعية السعودي عائض القرني، كما تم السماح لقناة طيور الجنة الإخوانية التوجه بإقامة حفلات ومهرجانات في حلب وحمص وذلك في صالات عامة، والداعية الحبيب علي الجفري في عام 2004 بدعوة رسمية من مجمع أبو النور وفي عام 2009 تحت رعاية بعض أغنى تجار دمشق (آل سحلول) حيث عُقدت له حلقات ذكر وموالد ودروس دينية في الجامع الأموي ومساجد سورية عدة.
ظاهرة المدارس المحافظة وإعادة تنشيط المسجد
انتشار المدرسة المحافظة
تحت عناوين شتى مثل الثناء وطلائع النور (حمص) والإبداع (حلب) وغيرها من الأسماء، سمح النظام في العشرية الأخيرة بتأسيس عدد من المدارس المحافظة التي كانت تعتمد منهاج التربية السورية مع إضافات دينية سواءً في طبيعة المادة العلمية المضافة أو في الجو العام للمؤسسة التعليمية مثل مدرسة عمر بن عبد العزيز في دمشق، والمدرسة النموذجية الخيرية في حمص. كما سمح بفتح رياض أطفال اتسمت بالطابع الديني بشكل واضح.
من الجدير بالذكر أن هذه المدارس اختلفت عن الثانويات الشرعية الرسمية التي تعتمد منهاجاً شرعياً مكثفاً، فهي مدارس تمنح شهادات الثانوية العامة، وتؤهل خريجيها لدخول الجامعات الرسمية والخاصة.
يلفت النظر أن تلك المدارس الخاصة تعود ملكيتها وإدارتها لعائلات وشخصيات محافظة غالبيتها من الطبقة البرجوزاية وكانت رسومها مرتفعة بالنسبة لمتوسط دخل الفرد في سوريا ومع ذلك كانت تحقق ربحاً عالياً، ما يعني أن انتشار حالة التدين آنذاك لم تقتصر على الطبقة الفقيرة، وحققت هذه المدارس حضوراً متميزاً في الوسط التعليمي خصوصاً في أوساط الطبقة الوسطى المدينية والمحافظة وبعض أوساط المسؤولين (منهم ضباط كبار) نظراً لكفاءة طاقمها التدريسي وارتفاع رواتب مدرسيها قياساً برواتب نظرائهم في المدارس الحكومية وجودة مرافقها وبناها التحتية.
سياسة التساهل هذه في العشرية الأخيرة تناقضت مع سياسة النظام في عهد الأسد الأب الذي حظر أي مؤسسة تعليمية خارج الإطار الرسمي. ويعرف السوريون أن النظام السوري جعل من مادة التربية الدينية التي تعطيها هذه المدارس الجديدة اهتماماً خاصاً، مادة ثانوية جداً في مناهج التدريس السورية، بحدود حصتين في الأسبوع، وبمعدل علامات منخفض، كما أن نتائج هذه المادة لم تكن تدخل ضمن المجموع العام لطلاب الشهادة الثانوية، ولم تكن تفيدهم في المفاضلة للتسجيل الجامعي، لذلك لم تكن تشكل مجال الاهتمام الدراسي.[3]
ورغم سماح النظام في العشرية الأخيرة بوجود المدارس الدولية التي تعتمد منهاجاً آخر غير منهاج التربية السورية مثل مدارس الشويفات الدولية الشهيرة ورغم الجرعة الدينية الزائدة عن السقف الرسمي التي تضمنتها أجواء ودروس المدارس المحافظة، إلا أن هذه الأخيرة (مثل مدرسة مرج الزهور[4] بدمشق أُسست عام 2002) استطاعت جذب بعض أبناء النخب السورية الحاكمة العلمانية التوجه سواء العسكرية أو الاقتصادية.
تسارع وتيرة بناء المساجد وبروز دور معاهد تحفيظ القرآن
ازدادت نسبة بناء المساجد في العشرية الأخيرة عما كانت عليه زمن الأسد الأب، ويعود ذلك في المقام الأول إلى سرعة استصدار رخصة البناء قياساً بالفترة السابقة وإلى زيادة الإقبال على المساجد في أوساط الشباب الذين أطلقوا لحاهم بحرية ضمن حالة التدين التي شاعت في المنطقة العربية. كما لوحظ تخصيص أماكن للصلاة في الأسواق التجارية وفي المطاعم وفي المنشآت السياحية وحتى في الجامعات كجامعتي دمشق وحلب، وتم السماح ببناء مساجد في بلدات مختلطة دينياً كما حصل في ريف حمص.
علاوة على ارتفاع عدد المساجد، ازدادت -في بعض المناسبات مثل العشر الأخير من رمضان- ساعات فتح المساجد ولم يتم الالتزام بإغلاقها بين الصلوات وجرى في بعض الأحيان تمديد ساعات فتحها من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر.
ورغم أن نشأة معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم تعود إلى حقبة الرئيس حافظ الأسد إلا أن أنشطتها تكثفت في العشرية الأخيرة على نحو ملحوظ، أُريد منها تحقيق هدفين، أولهما: التأكيد على تبني الدولة السورية لمظاهر التدين على الرغم من علمانية الدولة، وثانيهما: تمثل تلك المعاهد المكان الأنسب لمزاولة الدعاة والمشايخ أدوراهم الروحية والتربوية.
الجمعيات الخيرية الدعوية والنشاطات الثقافية
جماعة زيد نسبة إلى مسجد “زيد بن ثابت”، التي أسسها الشيخ عبد الكريم الرفاعي (1904-1973)، بالتحالف مع “مشايخ الميدان” في دمشق، فقد لعبت دوراً مزدوجاً في التدين الشعبي، الدور الأول: اجتماعي خيري، حيث شكلت دوراً كبيراً في إنشاء جمعيات اجتماعية خيرية كانت تعويضاً عن مسؤولية الدولة في معالجة مشكلتي الفقر والبطالة في سورية، لكنها ظلت محدودة الانتشار ضمن أوساط الطبقة الاجتماعية المتوسطة التي ترتبط بشكل مباشر بتلك الجماعات الدينية والطرق الصوفية.
والدور الثاني: دعوي في التذكير بضرورة تطبيق شرع الله في العبادات والمعاملات والسلوكيات، والذي كان يمارس بحرية في المساجد وحلقات الذكر والموالد وفي البيوت الدمشقية الخاصة؛ مثّل هذا الدور الدعوي أثراً فاعلاً دينياً موازياً للمؤسسات الدينية الرسمية.
شهدت الجمعيات الخيرية ذات الصبغة الدينية والارتباطات المشيخية انتعاشاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة التي سبقت اندلاع الثورة، سواء على الصعيد الجغرافي أو على الصعيد الكمي؛ فمع أواخر التسعينيات بدأت الحكومة تدريجياً التخفيف من شدة العوائق المفروضة على الجمعيات الخيرية[5]، وعرف المجال الخيري نشاطاً على ضوء حدة الأزمة الاقتصادية التي مر بها النظام. وفي سياق الخطوات التي اتخذت نحو تحرير الاقتصاد للتوجه نحو “سوق اجتماعي”، شجع النظام الجمعيات الخيرية والنشطاء الاجتماعيين على العمل دون التدخل في الحياة السياسية.
كما أُعيد فتح جمعية التمدن الإسلامي الخيرية والاجتماعية، بإشراف الشيخ أحمد معاذ الخطيب الحسني (دمشق 1960)، والتي تبنت “منهج اتباع الدليل من الكتاب والسنة مع إدراك عميق لمقاصد الشريعة، وانفتاح وتعاون مع كافة التيارات الإسلامية، دون انغلاق ولا تعصب ولا تكفير، مع اهتمام بالغ بأحوال الأمة وسد ثغراتها على كل صعيد، وإدراك عميق لرسالة الإسلام وعالميته ومدنيته”[6].
كما سمح النظام بافتتاح مكتب فرعي للمنتدى الإسلامي العالمي للحوار في دمشق وهو “منظمة غير ربحية تأسست عام 1996 م للنهوض بمهمة الحوار وتأصيل مفاهيمه ووضع الضوابط والآليات وتحديد الوسائل اللازمة لتحقيق الأهداف البناءة للحوار وللتنسيق بين المنظمات الإسلامية في هذا الميدان”[7]، ترأسه د. محمد حبش.
ومن بين التيارات الثقافية، انتشرت أفكار جماعة جودت سعيد (مواليد 1931، من كتبه: مشكلة العنف في العمل الإسلامي) في العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين والتي تعد أبرز مبادئها تكريس فلسفة اللاعنف، وعُقدت له العديد من المحاضرات لنشر هذه الفلسفة، كما كانت تُقام العديد من الصالونات الأدبية في بيوت النخب الدمشقية المثقفة (صالونات نسائية، وأخرى مختلطة) لمناقشة هموم الفرد السوري من خلال هذا المبدأ ويتم فيها دعوة مثقف أو شيخ أو عالم دين ومن جميع الفرق الإسلامية وحتى غير الإسلامية، للتأكيد على ثقافة اللاعنف ونشر التسامح والرحمة والتعايش بين أطياف المجتمع السوري.
وبالإضافة إلى المعاهد الشرعية الرسمية وحلقات الدروس الدينية في المنازل سواء التابعة لجماعة القبيسيات أو غيرها، نشأت حركات تجديدية تنويرية ‑كما تطلق على نفسها‑ نشطت فيها الإناث ولو بنسبة أقل بالمقارنة مع الذكور، كحركة فكر جودت سعيد التي شاع صيتها في دمشق خاصة ومدينة داريا بشكل أدق، أواسط التسعينيات من القرن الماضي. دعت هذه الحركة إلى التغيير التدريجي والسلمي من خلال أنشطة مدنية وتعلم الدين وتعاليمه ضمن منهجية اللاعنف ونشر السلام والمحبة ومحاربة الفساد، وكان الشيخ عبد الأكرم السقا (إمام وخطيب مسجد أنس بن مالك في داريا) من أبرز أنصار هذه الحركة والذي ألف كتباً فقهية عدة، ودرس فيه الفقه والقرآن والتجويد (ضمن حلقات معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم). ومن النساء برزت حنان اللحام كداعية دينية وناشطة في نشر فلسفة اللاعنف حيث فتحت بيتها لاستقبال المريدات والمريدين من أنصار التغيير السلمي.
من أبرز مظاهر التدين النسوي كانت جماعة القبيسيات التي أسستها الشيخة منيرة القبيسي (1933) والتي تتلمذت على الشيخ أحمد كفتارو حيث دعمها رسمياً وشرعياً، ومن ثم أرفدها د. البوطي بالتوجيهات الدينية والتربوية.
امتازت جماعة القبيسيات بقربها من المدارس الدينية التقليدية في سوريا، دمشق خاصة؛ كمعهد فتح، ومجمع أبو النور، وجماعة زيد. تعتمد الجماعة على نشر الدعوة والأذكار وتعليم فقه العبادات وتحفيظ القرآن والحض على الحجاب (والذي انتشر كثيراً بين صفوف الفتيات)، والتخلق بالأخلاق الإسلامية دون التطرق إلى اختصاصات ذات مستوى علمي عال أو أدنى اهتمام بالقضايا السياسية.
ونظراً لميل المجتمع السوري إلى التدين فقد لاقت الحركة قبولاً واسعاً لدى البيوت السورية المحافظة الغنية خاصة في دمشق وحمص وحماة، واقتصرت أغلب نشاطاتها على المدن دون الأرياف السورية، ماعدا الريف الدمشقي الذي سجل لها حضوراً كبيراً.
وقد سيطرت القبيسيات على شريحة واسعة من المدارس الخاصة وانتشرت ممثلات الجماعة في المجال العام في أنحاء سورية، وسمح النظام لهن بمزاولة التدريس في المساجد بعد أن كنّ محصورات في البيوت منذ عام 2006. وتعرضت هذه الجماعة لانتقادات واسعة من السلفيين والعلمانيين على حد سواء، ومن بين تلك الانتقادات أنها حركة صوفية تتبع الطريقة النقشبندية والشاذلية، واعتمادها منهج الترهيب على حساب الترغيب في الإسلام، وتشجيع الفتيات على العزوف عن الزواج، وعلاقة الطاعة العمياء بين الشيخة/ الآنسة والطالبات والتي تصل في بعض الأحيان إلى حد التقديس… وغيرها من الإشكالات.
إن فكرة تسليط الضوء ممن كتبوا في هذا الشأن على وجود ممارسات نسائية دينية تعليمية دعوية في المنازل والادعاء بخطر هذه الجماعة لأجل ذلك النهج كونها ستكون بعيدة عن أنظار الأمن في سورية، إنما هي نتاج تبني رؤية النظام البعثي؛ فمن المعلوم أن نظام المشيخة وعلائقها ونشاطاتها وكيفية تلقي العلوم الشرعية وغير الشرعية متجذرة في تاريخ سورية (بلاد الشام) سواء في مجتمع الرجال أو في مجتمع النساء، وأن المجتمع السوري في طبيعته يحتضن العديد من النشاطات الدينية الدعوية، بل وتعتبر من خواص الأسر السورية المحافظة؛ فالدروس الدينية والموالد النبوية والاحتفالات الدينية الأخرى والمناسبات الاجتماعية كالزفاف وغيره كان حيزها في البيوت أو المساجد.
ثم إن الكثير من نقاد الجماعة يشكك في جدوى وجود مثل هذه الجماعة ودورها في المجتمع، فالمدارس بكل مراحلها ‑حسب زعمهم‑ تُقدم في مناهجها مادة التربية الدينية، ومن أراد التخصص فعليه الانتساب إلى مدارس ومعاهد شرعية[8]، على اعتبار أن المادة الدينية في المدارس كافية من حيث المضمون والمحتوى، وهو غير صحيح وغير دقيق تماماً، عدا عن إغفال مسألة حاجة الأسر المحافظة لتعليم بناتها الدين والقيم الروحية دون الانتساب إلى مدارس ومعاهد شرعية متخصصة.
يعود تاريخ تأسيس جماعة “القبيسيات” إلى ستينيات القرن الماضي، على ما يبدو، وقد نهجت جماعة “القبيسيات” نهج المدارس الدينية الدمشقية الأُخرى مثل مدرسة حسن حبنكة الميداني ومن بعده مدرسة جامع زيد ومدرسة كفتارو، ونهج الشيخ فرفور وجماعته في التركيز والاستناد إلى الطبقة الاجتماعية الغنية والمتوسطة والمرتبطة مع طبقة رجال الأعمال، حيث اتسمت علاقات القوة والسلطة والنفوذ في سورية بنوع من النفعية وإيلاء مسألة تبادل المصالح على رأس العلاقات بتأثير من سياسة البعث التي عززت هذا النوع من العلاقات من جهة، ومن جهة أخرى بسبب طبيعة المجتمع الدمشقي خاصة، والذي يعتمد على الأعمال والتجارة في معاملاته وعلاقاته وتدبير شؤونه الحياتية وإدارتها، بالتالي فمن المنطقي انتقال بنية هذه العلاقات وشكلها إلى فئات المجتمع ومجالاته كافة بما فيها الجماعات الدينية كونها تمثل جزءاً من تركيبة هذا المجتمع المديني.
ربما مثلت الجماعة في ذلك الوقت اتجاهاً موازياً للحركات النسائية النهضوية التحررية التي سعت لرسم صورة المرأة العربية وتحديد أدوارها في المجتمع والتي اختلطت أفكارها بالعديد من الأفكار الاشتراكية والبعثية والشيوعية… ما أدى إلى انتشار السفور وكثرة الاختلاط بين الجنسين بالتوازي مع أصوات طالبت بخروج المرأة من بيتها لتشارك الرجل في الحضور الثقافي والسياسي والاجتماعي، وهو ما كان محل إشكال بالنسبة للمحافظين والمتدينين من الكثير من السوريين.
إنما يمكن القول إن ماهية الجماعة تعود إلى طبيعة المجتمع العربي الإسلامي الذي كان نظام التعليم فيه خاصاً ظل متوارثاً وفاعلاً عبر العصور رغم وجود المدارس والمعاهد والجامعات، فوجود مدرسات وفقيهات وعالمات دين يدرسنّ الفتيات والفتيان في المنازل مقبولاً في مجتمعنا إلى يومنا هذا.
لدى فتيات الجماعة قناعة وإيمان بأن مظاهر التدين والإسلام بشكل عام لم يكن ليوجد لولا الجماعة، فمنذ ظهور الجماعة مروراً بالمحطات الكثيرة التي مرت على سورية؛ إما في محاربة مظاهر التدين أو في صعودها (منذ 2000 إلى 2011)، كان للجماعة الفضل في المحافظة على القيم والأخلاق الإسلامية في المجتمع السوري المحافظ، من خلال الحض على الحجاب، وحفظ القرآن والتعليم الروحي… وفي الواقع للآنسات القبيسيات الفضل في تعريف البنات بأمور دينهن التي قد تتحرج الأمهات من الخوض فيها، ففي ظل غياب دور الأم التربوي والتنشئة الدينية المحافظة وانعدام التعليم المدرسي الديني لأصول الدين والشريعة، فإن الجماعة تقوم بهذا الدور في تأسيس الفتيات دينياً وأخلاقياً. كما حققت للفتيات شعوراً بالانتماء في جو اجتماعي بين حلقات الآنسات والمريدات أو بين المريدات فيما بينهن، وعن طريق المدارس الخاصة حاولن خلق حدٍ مقبول من الالتزام الديني. وفي نظر علماء الدين والمشايخ فإن وسائلهنّ ومناهجهن التعليمية الدينية أفضل من الوسائل التعليمية الحكومية، على الرغم من أنه لا وجود أية خطوة أو حركة تتم خارج الاتفاق مع وزارات نظام الأسد الثقافية والتعليمية.
دراسة الجماعات الدينية في مجتمع الرجال والنساء السوري ترسم صورة دقيقة عن واقع التعليم الديني ومظاهره واتجاهاته ومواقفه بأن “سياسات تأميم الأوقاف الإسلامية، هو ما أدى إلى سحب الاستقلالية الاقتصادية لجميع المؤسسات الدينية لصالح الأنظمة السياسية المستقلة حديثاً في الدول العربية، وكانت هذه التدابير مقصودةً لوضع التمثلات المؤسسية للإسلام السني تحت سيطرة الدولة” [9].
تعامل النظام السوري مع المشهد الديني وفق آليات ضبط متجسدة بأجهزة تنفيذية كالوزارات ودوائر الاستخبارات وأشكال أخرى من المؤسسات التي تسعى للتحكم في المجال الواسع للأنشطة الإسلامية؛ فالمساجد مسجلة في وزارة الأوقاف، والجمعيات الخيرية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والتعليم الإسلامي في وزارة التعليم، والعديد من الكليات الشرعية على اتصال بوزارة التعليم العالي. وفي الوقت نفسه، يقع المجتمع تحت رقابة مستمرة من جهاز المخابرات السوري[10].
بعد توقيع مصر على معاهدة كامب ديفيد حصلت قطيعة بينها وبين سورية ما أثر في حال طلاب العلم الشرعي في سورية خاصة مجمع أبي النور، حيث كان يتم قبول المتخرجين من معهد أبي النور في السنة الثانية في جامعة الأزهر، وأخذ الشيخ كفتارو يبحث عن البديل ووجده لدى معمر القذافي، ففي زيارة الشيخ “عام 1981م التقى الزعيم معمر القذافي وتمكن من عقد اتفاق مع جمعية الدعوة الإسلامية بشأن إحداث فرع لكلية الدعوة الإسلامية بدمشق، وقد وجه الزعيم الليبـي القذافي معاونيه بتقديم كل ما يلزم لنجاح عمل هذا الفرع.
استمرار الشيخ كفتارو على رأس الإفتاء مدة 40 سنة، يعني في رأي عبدالرحمن الحاج[11] أن ذلك يمثل توجهاً سياسياً ما وارتباطاً وثيقاً بالسلطة الحاكمة في تبادل المصالح للحصول على وظائف ومناصب حكومية في المؤسسات الرسمية؛ مؤسسة الإفتاء ووزارة الأوقاف[12] ووزارة التعليم في إطار يجمع بين نفعية دنيوية مفرطة وبين صوفية نقشبندية غالية، في خلط واضح بين مجال السياسي ومجال الشيخ، وغدت جميع المناصب العليا لإدارة الجماعة الكفتارية تحت ملكية عائلة الشيخ، حيث تمثل هذه النخبة حجر زاوية أفكار الجماعة، وهي التي زوّدها بمقومات التضامن، فهي تُسيطر على المصادر الاقتصادية والسياسية والدينية للجماعة الصوفية وتُنفذ أجندة الشيخ. “كان الشيخ حليفاً مثالياً للنظام، وكان لجماعته الصوفية المتمددة الفضل في تزويد النظام بالبنية المؤسسية والتنظيمية الجيدة والموثوقة الكفيلة بتطبيق الإسلام الرسمي، فعن طريق هذه الشبكة، رأى الإسلام السني الرسمي السوري النور على الصعيدين المحلي والعالمي”[13].
هذا التيار مع المدرسة الأم (مدرسة كفتارو) وغيرها من المدارس الصوفية والمدارس التقليدية لعبت دوراً كبيراً في تكريس الطقوسية و”علمنة” الإسلام في اقتصارها على الحياة الفردية والشأن الخاص وبعدها عن الحياة السياسية.
وقد يكون توماس بيرييه في كتابه “البعث والإسلام” محقاً من أن الدولة السورية نجحت في جعل المشايخ والقائمين على المساجد والمعاهد الدينية مجرد موظفين في الدولة (النظام)، وعليه لم يكن بإمكان هؤلاء المشايخ احتكار المعرفة الدينية وإنتاجها بشكل مستقل عن الدولة.
مع ذلك، فقد استطاعت جماعة زيد أن تسيطر على مساجد جديدة وأن تغير القائمين عليها، وهي خطوة لا يمكن تنفيذها إلا بمساعدة السلطات. ونذكر من أفراد جماعة زيد الذين تمكنوا من الوصول إلى مناصب إدارية متوسطة المستوى هيثم الإدلبي، المدير العام لمعاهد الأسد لتحفيظ القرآن، وزياد موصلي، الذي تم تعيينه في عام 2008 مديراً للأوقاف في محافظة ريف دمشق[14].
على أعقاب موجة التدابير التي اتخذها النظام في آب عام 2008، بالتعاون مع وزارة الأوقاف وبأمر من محمد عبد الستار السيد، وزير الأوقاف ظهرت مجدداً مخالب النظام وقبضته الأمنية على مظاهر التعليم الديني في سورية، شملت هذه التدابير نشاطات خيرية؛ كمنع موائد الرحمن الرمضانية، وإقالة عدد من المشايخ من بينهم الأخوين الرفاعي من مجالس إدارة الجمعيات الخيرية، بالإضافة إلى فرض وصاية الأوقاف على المعاهد الشرعية.
ولم يقتصر المعهد على تعليم الذكور، بل تم افتتاح فرع للإناث عام 1965 لتعليمهن العلوم الشرعية وإعدادهن للدعوة والتي عُدت المبادرة الأولى للنهوض بالفتيات في دمشق. ينال الخريج (إجازة في العلوم الشرعية والعربية) مصادقاً عليها من وزارة الأوقاف، تؤهله للخطابة والإمامة والتدريس الديني، ولمتابعة دراسته الجامعية بمعهد الشام العالي في سورية[15].
ظل معهد الفتح الإسلامي على هذه الحال ترعاه وتشرف عليه جميعة الفتح الإسلامي، إلى أن قررت الجهات الرسمية فصل المعاهد الشرعية عن الجمعيات الخيرية وذلك عام 2008م. فأصدر وزير الأوقاف بتاريخ 12/ 11/ 2008م قراراً ينص على تأليف لجنة تشرف على مسيرته العلمية وجمع التبرعات لتمويل معهد الفتح الإسلامي.
وقد لقي المعهد ومؤسسه الشيخ فرفور دعماً من نظام البعث السوري وعُد من المدارس الدينية الرسمية، ولا أدل على ذلك من هامش الحركة الكبير الذي أُتيح للمعهد زمن الأسد الأب، فحسب ما جاء في كتاب عن مؤسس المعهد، “كانت للشيخ فرفور نشاطات أخرى في مجال التعليم والإرشاد، فعقد حلقات علمية في بيته تضم تلامذته ومعارفه ومحبيه، وعقد حلقات للتجار في حوانيتهم وبيوتهم، كما كان يتردَّد على السجون ويعقد فيها الدروس الوعظيَّة يذكر أهلها بالتوبة والإنابة، واهتم أيضاً باللاجئين الفلسطينيين، فأرسل عدداً من طلابه إلى مُخيماتهم لتعليمهم وتفقيههم، كما أرسل كثيراً من الطلاب إلى القرى والأرياف وأماكن البدو، لتعليمهم وتفقيههم وفتح المساجد المغلقة”[16].
خاتمة:
تراوحت ملامح وآثار المدارس الدينية السنية في سورية منذ الاستقلال وحتى بداية ثورة 2011 بين مستويات كبرى ثلاثة:
1. دعوي اجتماعي؛ حيث اتخذ العلماء والمشايخ من المؤسسات الدينية التقليدية (الرسمية وغير الرسمية) منصات للوعظ والإرشاد الديني وللحفاظ على الهوية الدينية السنية والتأكيد على الخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمع السوري.
2. فكري تأليفي توثيقي تأصيلي؛ تبنى أتباعه مناهج فكرية وبرامج عمل تدعو إلى الصحوة الإسلامية ونادوا بالإصلاح والتجديد الديني، وانخرط البعض بالسياسة ومحافلها، وأنشأوا أو شاركوا في الجمعيات الاجتماعية المدنية التي تُعنى بقضايا الأمة.
3. جهادي مسلح اتخذ أنصاره العقيدة الجهادية القتالية منهجاً لهم، وسعوا للتركيز على الإعداد النفسي التربوي والبدني للشباب المسلم.
وعرفت توجهات المدارس في سورية من حيث موقفها من النظام الحاكم امتداداً لمواقف مماثلة في تاريخنا العربي والإسلامي، ويمكن أن تُدرج في إحدى تلك المواقف: 1. تماهي مع النظام وتوافق مع سياسات السلطة الحاكمة (مدرسة كفتارو والمدرسة الصوفية بشكل عام)؛ 2. مناصحة وحيادية مع أغلب سياسات النظام (المدرسة الدينية ذات التوجه الاجتماعي)؛ 3. معارضة ومطالبة بالتغيير بشكل سلمي وعبر التراكم الثقافي الفكري التوعوي (المدرسة الحركية والمفكرون المستقلون والمدارس الفكرية الأخرى)؛ 4. معارضة وصدام مع النظام والإيمان بالتغيير عبر السلاح (الطليعة المقاتلة والسلفية الجهادية).
مراجع
- إبراهيم حميدي، يرتدين الحجاب الكحلي ويملكن شبكة تدريس ونفوذ واسعة، “الآنسات القبيسيات” يباشرن في سورية انخراط النساء في “الدعوة الإسلامية” … بموافقة السلطات.
- أنابيله بوتشر الإسلام الرسمي، الشبكات الإسلامية العابرة للحدود، والسياسات المحلية: سوريا أنموذجاً.
- باتريك هايني، إسلام السوق.
- باولو بينتو، علاقات حرجة: التصوف والدولة في سوريا.
- تاجي دونكر، في مواجهة الغموض: ديناميات العلاقة بين المجتمع السني والنظام السوري.
- توماس بيريه و كيتيل سيلفيك، حدود “التحديث السلطوي” في سوريا: الضمان الاجتماعي الخاص، الجمعيات الخيرية الإسلامية، وصعود جماعة زيد.
- جودت سعيد، الإسلام السياسي.
- الدولة والجماعة، التطلعات السياسية للجماعات الدينية في سورية، 2000- 2010.
- صلاح كفتارو، رد من صلاح الدين كفتارو على تحقيق القبيسيات.
- محمد حبش، القبيسيات … الملف المجهول.
- عبد الرحمن الحاج، “الأخوات القبيسيات“… قصة انبعاث أول حركة نسوية للإحياء الديني.
- ——– “اتجاهات الإسلام السياسي في سورية”، ضمن كتاب التحول الديموقراطي في سورية والخبرة الإسبانية.
- ——– “التمدن الإسلامي” والسلفية الإصلاحية الشامية.
- محمد حبش، الشيخ أحمد كفتارو ومنهجه في التجديد.
[1] قُدم البحث في المؤتمر السنوي:
European Academy of Religion – Annual Conference 2019, 04 March 2019 – 07 March 2019, Bologna, Italia.
[2] ومن الجدير بالذكر تأثر المطاعم الكبرى في سوريا بموجة التدين التي اجتاحت البلاد، مثل المطاعم الموجودة على مشارف العاصمة كبوابة دمشق والتي امتنعت عن بيع الكحول بالإضافة إلى وجود مصليات داخل تلك المطاعم، ومطعم ديك الجن في حمص الذي استشعر صاحبه “أن ثمة موجة تديّن تكاد تقترب من المدينة، فحاول أن يستجيب بمرونة”. انظر: حياة وموت مطعم اسمه ديك الجن.
[3] “من تحجيم مادة الدين في سوريا إلى إلغائها… مناهج تربوية لخدمة النظام“, السورية نت، آب/ أغسطس 2016.
[4]من المعلوم ارتباط مرج الزهور بالذاكرة الشعبية بالقرية الواقعة جنوب لبنان التي أُبعد إليها 415 ناشطاً إسلامياً فلسطينياً من الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين. تم هذا الإبعاد في 17 كانون الأول/ديسمبر من عام1992، وينتمي المبعدون إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
[5] توماس بيريه و كيتيل سلفيك، “حدود التحديث السلطوي في سوريا: الضمان الاجتماعي الخاص، الجمعيات الخيرية الإسلامية، وصعود جماعة زيد“، ترجمة أحمد نظير الأتاسي، 16 تشربن الأول/ أكتوبر 2016.
[6] تأسست الجمعية عام 1933، وأصدرت مجلتها عام 1935م، والتي حملت ملامح السلفية الإصلاحية مع حفاظها على علاقات جيدة مع الاتجاهات الفكرية والعقدية الأخرى، كما ويوحي اسم الجمعية بحد ذاته بتأطير الحداثة وفق القالب والنسق الإسلامي، ما يدل على أن طرحها مغاير للتدين النمطي. أُغلقت على أعقاب هجوم النظام السوري على الإخوان المسلمين وتصفيتهم.
[7] المنتدى الإسلامي العالمي للحوار.
[8] سلام إسماعيل، جماعة الأخوات القبيسيات، مرجع سابق.
[9] باولو بينتو، علاقات حرجة: التصوف والدولة في سوريا، ترجمة: حمزة ياسين، معهد العالم للدراسات، 02 تشرين2/ نوفمبر 2016.
عملية التأميم هذه اتبعها “البرابرة أو المتوحشون الجدد” وهم الذين يعملون على ألا يبقى شيء خارج سيطرتهم، كما أطلق عليهم ميشيل سورا في كتابه: سورية، الدولة المتوحشة، ترجمة أمل سارة، مارك بيالو، بيرت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017، ص 40.
[10] تاجي دونكر، في مواجهة الغموض: ديناميات العلاقة بين المجتمع السني والنظام السوري، ترجمة: حمزة ياسين، 01كانون1/ ديسمبر 2016.
[11] الدولة والجماعة، التطلعات السياسية للجماعات الدينية في سورية، 2000- 2010، مركز التواصل والأبحاث الاستراتيجية، ص 29 + ص 54.
[12]من المثير مراجعة أرشيف أقوال الرئيس ومقولاته ومقابلاته حول المسألة الدينية في سورية على موقع وزارة الأوقاف السورية.
[13] أنابيله بوتشر الإسلام الرسمي، الشبكات الإسلامية العابرة للحدود، والسياسات المحلية: سوريا أنموذجاً، معهد العالم للدراسات،18 أيلول/ سبتمبر 2016.
[14] حدود “التحديث السلطوي” في سوريا، مرجع سابق.
[15] http://awqaf-damas.com/?page=category&category_id=79
[16] العلامـة المربـي الكبيـر الشيـخ محمـد صالـح الفرفـور، مؤسس جمعية الفتح الإسلامي ونهضتها العلمية، بقلم الشيخ عمر بن موفق النشوقاتي، 2000، دار الفرفور، اختصار وتحرير: مجد مكي، رابطة العلماء السوريين.