في الذكرى الرابعة لاندلاع ثورة الحرية والكرامة في سوريا، تفرض مسألة حقوق الإنسان وكرامته (المهدورة) نفسها قوياً على المشهد السوري منذ عهد الأسد الأب والابن حتى الآن.
الثورة السورية عرّت ما يسمى منظمات حقوق الإنسان، وكشفت زيف أهداف هذه المنظمات، حيث سقطت آخر أوراق التوت عن عورات السياسات الدولية الراهنة والتي تدّعي التقدم والمدنية وحبّ السلام والدفاع عن الإنسان وما إلى ذلك من كلمات معسولة نراها في دساتيرهم وتوصياتهم وتصريحاتهم، فانفضح المحرك الخفي لها في أولوية تثبيت دول الاستبداد والظلم، ذلك أن حقوق الإنسان وحريته يُغض الطرف عنها إذا ما كان المقابل العبث بأمان تلك الدول وأمنها.

إن بقاء نظام الأسد إلى الآن بعد كل هذا الإجرام والوحشية والمجازر والدمار لهو وصمة عار لحقت قوانين حقوق الإنسان العالمية تلك ومؤسساتها الداعمة لها، وتَبين أن الاتفاقيات الدولية المزعومة توجه فقط لمصلحة أصحاب النفوذ ولتكريس استبدادهم وفقاً لموقف دولي داعم.  وأكبر دليل على ذلك تقديم شعب كامل على مذبحة الفيتو الروسي-الصيني!

فمهما تكلموا عن سقوط شرعية دولة الأسد فهم مازالوا يعاملونها كدولة، حتى وإن وصفوها بالدولة المارقة!

يقول أرنولد توينبي في كتابه مختصر تاريخ الحضارة: “إن ميثاق الأمم المتحدة الشهير سخيف، لأنه تضمن حق النقض الفيتو الذي تستعمله الدول الخمس الكبرى لإجهاض أي قرار لنصرة المظلوم”. (4/ 196) فمن خلال الأمم المتحدة المدعومة إعلامياً وسياسياً ومادياً من قبل القوى اللاعبة في مصير الأمم الأخرى، أُريدَ فرض ثقافة مبادئ ودساتير حقوق الإنسان من خلال عولمة فكرية في وطننا العربي والإسلامي، هذه المبادئ تُطرح كقيم مطلقة وكأنها الأقرب للإنسانية من أي قيم أخرى حتى أصبح التدين بها واجب بدل أية ديانة أخرى. 

هذه المبادئ والدساتير ما هي إلا أقنعة تخفي وراءها ظلماً ووحشاً وتكبراً “يصارع على السيادة الإلهية، هذا الظلم ظلم مزدوج لأنه: ظلم غيبي حين يتطاول على سيادة الخالق، وظلم مرئي حين يستبعد الخلق”، كما يعبر طه عبد الرحمن عن ذلك بحق. ذلك أن أي حكم أو قانون أو دستور إذا لم يُعلِ السيادة لله وحده فلا يعوّل عليه.

ومنذ تلك الفضائح وأنا أسأل نفسي من نصّب تلك المنظمات والقوانين الدولية شرطياً علينا؟ وجعلها معيار العالمين أجمعين؟ أليسوا هم حكام الاستبداد ورجالات الغرب المحتل والمستشرق والجاسوس والمحتل المباشر والمحتل بالوكالة؟! ألم يتكشف لنا أنها مزدوجة المعايير؟ كيف نثق بها بعد اليوم؟

ولماذا نتبنى ونلهث للحاق بمذهبهم الإنساني الذي يفرق بالأصل بيننا وبينهم؟ وقد ثبت أن لإنسانهم معايير وقيم لا تتطابق مع إنساننا، هذه المعايير التي لا تخلو من رائحة الاستشراق المقيتة في فصلهم وزعمهم بين إنسان الغرب الذي يتميز بالفحولة العقلية والجسدية! وإنسان الشرق الأنثى السبية المستباحة. فإن كان الإنسانان غير متساويين فكيف ينادي من ينادي معهم لنصرة قوانينهم تلك دون الوقوف وقفة ضمير حيّ مع ما يجري حولنا من نفاق دولي واستراتيجية الكيل بمكيالين!

وفي بعض الأمثلة الحيّة التي تحمل إدانتهم من أفواههم هم من خلال الآراء والاقتباسات حول مواقف المجتمع الدولي إزاء الوضع في سوريا خير دليل حيث تفضح فشله وازدواجية معاييره، ولستُ هنا في عرضي هذا أدعو إلى أي نوع من أنواع التدخل العسكري الغربي على سوريا بل هو مجرد محاولة لرمي حصاة حقيرة في منظومة فكرية هائلة راكدة استكانت لقوى وشعارات ومبادئ غربية غريبة بعيدة عن ثقافتنا العربية والإسلامية.

كتبت Marika Alpini في 23 تشرين الثاني 2011 مقالة تحليلية تقول فيها: “إن ردود المجتمع الدولي ومن ثم منظمات حقوق الإنسان التابعة لها، حول انتهاكات حقوق الإنسان الممارسة من قبل الدولة السورية اتجهت طريقاً خاصاً وفريداً ومخزياً ومعيباً في الوقت نفسه… في مرحلة ما بعد الحرب الباردة دخل مصطلحان بقوة إلى معجم القانون الدولي هما “التدخل الإنساني” و”مسؤولية الحماية”، حيث تُرجم هذان المصطلحان باستخدام القوة العسكرية ضد دولة تُنتهك فيها حقوق الإنسان، كما حدث في كوسوفو عام 1999 وكذلك في ليبيا عام 2011. وباعتبار أن الأمم المتحدة لازالت الهيئة الوحيدة الممثلة دولياً، والتي تقودها الولايات المتحدة فقد أثبتت أنها انتقائية بامتياز. 
وإذا كان الهدف النهائي هو حماية المدنيين من العنف الذي تمارسه الدولة بشكل دائم، لابد من الاعتراف بأن التدخلات الإنسانية وتدابير مسؤولية الحماية قد تكون ذات نطاق ضيق جداً. ما دامت المصالح الوطنية والسياسية والاقتصادية غالبة على الأهداف الحقيقية لـ “أمن الإنسان”، فإن مبادئ النزعة الإنسانية في السياسة الدولية ستكون في خطر بشكل جدي”.

اليوم، صكت المعاناة السورية وجه المجتمع الدولي كاشفة معها المصالح الاقتصادية الضخمة لأعضاء مجلس الأمن والمتمثلة في تجارتهم بالأسلحة مع حلفائهم. فبات معروفاً أن الولايات المتحدة تنشر “السلام” عن طريق صفقات تسليح مليارية، وأصبحت الأسلحة “الرابط الخفي والجامع النفعي بين الدول العربية والولايات المتحدة وإيران وروسيا والصين وإسرائيل والمعارضة السورية المسلحة ونظام الأسد وتنظيم “الدولة الإسلامية” والحركات الانفصالية في الدول الإفريقية وعصابات شرق أوروبا والاتحاد الأوروبي”. ( تجارة الأسلحة وأمراء الحروب: حقائق وأرقام)

ويلفت Hugh White في مقالته النظر A Syrian intervention must beweighed against the costs إلى أن ما يُعرف بـ”مسؤولية الحماية” هذه تحت غطاء التدخل العسكري المباشر أو عبر الإمداد بالأسلحة بشكل غير مباشر، لأية دولة إنما يرتبط باتفاقيات إعادة إعمار تلك الدولة، وهذا ما لم يتكشف بعد في الحالة السورية كون أن الغرب لا يملك بعد رؤىً لمرحلة ما بعد الأسد. 

كما افترض آخر Nikolaos van Dam  What next for Syria أن مساعدة دول الغرب للأغلبية السنية في الوصول إلى السلطة قد يؤدي إلى انتقام دموي تجاه الطائفة العلوية ما سيؤدي إلى حرب أهلية، وستجد تلك الدول نفسها أمام مأزق جديد في إمكانية انحيازها إلى الطائفة العلوية لحمايتها! (انتهت الأمثلة) وهناك الكثير من الأمثلة والتحليلات والفضائح منتشرة على صفحات الإنترنت لمن سعى إلى منطق الحكمة في الحكم على الأمور.

أما عن بنود كراسات أممهم المتحدة فمن خلال هذين البندين يظهر جلياً ازدواجية ما يسمونه بحقوق الإنسان، الذي تبين أنه معنيّ فقط بإنسانهم هم:
فـ”إبادة الجنس البشري”، والذي يعني كل عمل يُسهم أو يُقدم على القضاء على جماعة بشرية، مادياً أو معنوياً (كالقضاء على لغة وهوية وثقافة شعب ما)، أو بالاعتداء على الأنفس والأعراض جزئياً كان أم كلياً. ولبشاعة هذه الجرائم والتي حدثت في تاريخ الإنسانية مراراً وتكراراً كجرائم النازية وغيرها أقرت الأمم المتحدة اتفاقية مكافحة جريمة إبادة الجنس البشري في التاسع من ديسمبر/ أيلول 1948 بموجب قرار رقم 260.
والسؤال هنا أين هذا القرار الأممي وأين تحالف الدول والأمم من المجازر الوحشية والإبادة العنصرية المادية والمعنوية التي تُمارس ضد الشعب السوري؟ وأين منها كراسات وبنود واتفاقيات قرارات الأمم المتحدة؟
 

ثم البند التاسع عشر للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يقول بحرية التعبير، فمن البدهي أن حرية التعبير هي التعبير عن الحرية بكافة أدوات وأساليب التعبير، وعليه يمكن أن نقيس أن اختيار المرأة المسلمة للباس الشرعي هو إحدى أدوات التعبير تلك؛ أي هي أداة تعبير عن الحرية في اختيار اللباس، ومن حق المرأة ارتداء الحجاب والذي يندرج ضمن هذا البند من حقوق الإنسان.
بينما نجد أن هذا ما لا يحدث في أكثر الدول الغربية المنادية بحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، ففرنسا مثلاً والتي انتفضت مؤخراً عن بكرة أبيها وانتفض ما حولها، وتابعو حولها، من الحكام العرب للدفاع عن ما زعموه أنه حقاً من حقوق الإنسان وحريته في التعبير عندما نشرت مجلة شارلي إيبدو رسوماً مسيئة، تنال من رموز الإسلام ومعتقداته. فرنسا هذه نفسها المنتفضة لحرية التعبير تمنع حق المواطنة المسلمة من ممارسة حقها في التعبير وتمنع الحجاب في مؤسساتها العامة والحكومية ومؤسسات التعليم والجامعات والمدارس! فعن أي حقوق إنسان وعن أية حرية ينادون ويضحكون بتلك الشعارات على الشعوب؟

لا زلنا وبعد أربعة أعوام من الثورة السورية، وثورات الربيع العربي أجمع، نسبح في عمق الصورة النمطية لمجالات الحياة من سياسية واجتماعية وغيرها. فالوقت حان لمواجهة حقيقية لذواتنا والاعتراف بأن الثورات العربية أتت بتحولات وتغيرات على الأصعدة كافة؛ سياسية واقتصادية واجتماعية وجغرافية وفكرية… وأن ثورتنا لن تكون ثورة كاملة إن لم تلقِ بظلالها على المفاهيم والقيم والنظريات الفكرية المستندة إلى الأيديولوجيات البائدة أو النفعية ومزدوجة المعايير. ثورة تعود بنا إلى أصالة حضارتنا العربية الإسلامية تماماً كما عادت الثورة الفرنسية إلى الفكرين اليوناني والروماني لتستوحي منهما نظريات القيم الديمقراطية والعقلية والقانونية!

هم فشلوا سياسياً وها هم يفشلون إنسانياَ. فالشعارات التي رفعتها دول غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ظاهرها إنساني وباطنها مصالح شخصية مقيتة. تريد فرضها على العالم تحت مسوغ الشرعية الدولية وهيئة الأمم المتحدة وجمعياتها، إنها إعلاء للمصالح السياسية الدولية على أية اعتبارات إنسانية/أخلاقية.

لن يكون الخلاص إلا إذا ما تم استبدال هذه الفلسفة السياسية التي تكشفت بشكل فاضح وجلي مع الثورة السورية – والتي كانت مكشوفة أصلاً لمن كان له عقل وضمير في ظل ممارساتها في نشر جيوشها في أنحاء العالم وارتكاب انتهاكات ضد الإنسانية. ومع الثورات أثبتت تلك الفلسفة أيضاً خطأ المسلمات الفلسفية القائلة بوجوب تأسيس الأخلاق على القوانين الوضعية العقلية البعيدة عن النصوص المقدسة، فقوانين حقوق الإنسان المزعومة تلك أفشت عن انتهاك فاضح لحقوق الإنسان وبرهنت على لا أخلاقية تلك القوانين.

إن كان في أصل استراتيجية الغرب نحو الشرق لا تخلو من مبدأ الاستعمار بأشكاله الفكري/المعنوي والمادي وبالوكالة، فإن تلك المنظمات “الظالمة” زائلة لا محالة، (ولا أستثني المنظمات الإقليمية –كجامعة الدول العربية-التي سقطت بدورها إنسانياً وأخلاقياً، مع أنه لم يكن لوجودها أية قيمة مضافة للشعوب العربية)، ولن تظل لدولة أو حكومة أو مؤسسة أو منظمة قامت على الظلم والنفاق قائمة ولو بعد حين، فالظلم مؤذنٌ بخراب العمران كما أخبرنا ابن خلدون، وإنها من سنن الله في الكون.

**************

قلنا في الجزء الأول من مقالنا هذا إننا لا زلنا وبعد أربعة أعوام من الثورات العربية التي هزت المنطقة عربياً وإقليمياً ودولياً، نسبح في عمق الصورة النمطية لمجالات الحياة كافة؛ سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية… وألمحنا إلى أن ثورتنا لن تكون ثورة كاملة إن لم تلقِ ظلال التنقية والتطهير على المفاهيم والقيم والنظريات الفكرية المستندة إلى الأيديولوجيات البائدة أو النفعية أو مزدوجة المعايير.

فمازالت “نخبة” العالم العربي من أصحاب الأقوال الرنانة دون الأفعال من سياسيين ومثقفين ومنظرين…، يرفعون شعارات ومبادئ تلك المنظمات الدولية الأممية، ويتبنون بياناتها ويستميتون للدفاع عنها بعد كل هذه الانتهاكات وردود الفعل المخزية إنسانياً وأخلاقياً، بل تنتهز تلك النخبة كل لحظة لتذكيرنا بحقوق الإنسان على المقياس الدولي، بعيدة تماماً عن الواقع وحراكه الاجتماعي وعن ثقافة الشعوب، بطيئة الفهم واللحاق عما يطرأ من تغييرات على القيم البالية في زمن الثورات، فيظلون في برجهم العاجي؛ هم في واد والشعوب في واد ثان، إلى أن تجلى الانقسام العميق بين ثقافة الأمة وثقافة النخبة، كما عبر عن ذلك بوضوح د. محمد عادل شريح.

ونجدهم هم أنفسهم لا يملون الحديث مطولاً ولا صرف المداد والأقلام على وصف نبي الرحمة دون أدنى إشارة إلى نبي الملحمة، يقدمون بذلك قرابين الغزل والتشبيب لتلك المنظمات والدول كي ينالوا رضاهم ومباركتهم، وهم لم يدروا أنهم يتوددون إلى “الظالمين” من أصحاب حقوق إنسانهم لا إنساننا، حتى انسلخوا عن إنسانيتهم سعياً -عبثاً -لتمثل إنسانية الغرب مزدوجة المعايير والقيم. كيف لا وقد رضوا أن يحيون كمغلوبين، والمغلوب “مولع أبداً للاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، كما قال ابن خلدون منذ عقود وكأنه يحيا بينهم فوصفهم بأدق تصوير! لكن استلابهم المعرفي والنفسي غدا عارياً تماماً أمام الشعوب، حين تعاموا عن مقومات السكوت العالمي عن نظام الإجرام في سوريا وحقيقته.

ويحضرني هنا تودد تقليدي غالباً ما يطرحه أولئك في خطبهم ومنابرهم وصالوناتهم الأدبية حين يستشهدون بالآية القرآنية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى* وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا * إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ * إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13) بشكل مجتزأ من السياق وعن الشروط، للدلالة على رسالة الإسلام في تقبل الآخر وقبول المختلف الأقلوي والاثني والقومي والعقدي والعدو والمنافق والكافر… وكل ما هنالك من شعارات وثرثرات لا متناهية يطلقها إنسان الغرب (ويرددها من بعده ببغاوات الشرق) مُنظّراً متفلسفاً على الإنسانية، إنسانيتنا –وتاريخ إنسانيته نفسه (إنسان الغرب) ملطخ بدماء الإنسان المخالف له في أرجاء الأرض. ببساطة، لسنا بحاجة لمن هو خارج ثقافتنا أن يملي علينا أساليب التعامل والحوار والتعايش، فلسنا في غفلة أو جهل عن سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وسلوكه في التعامل مع المختلف والمعارض والآخر، وخير مثال موقفه من ذي الخويصرة التميمي، ولنا كذلك في خُلق علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) تجاه معارضيه والخارجين عليه سياسياً أنموذجاً يُحتذى… والسيرة النبوية مفتوحة للجميع لمن أراد التسلح بالبراهين والأدلة.

ما هو أكثر طرافة أنهم يسارعون لإبراز الدليل على هذا التعايش الوردي؛ بتحليل الإسلام زواج المسلم بغير مسلمة أو مشركة! وهؤلاء كما يصفون أنفسهم: “أنصار حقوق المرأة”، ينادون بضرورة إلغاء الظلم الواقع عليها من خلال إعادة قراءة النصوص المقدسة لصالحها، بل والحاجة إلى تفسير النصوص الدينية بعيداً عن المنطق الذكوري وأقرب إلى القراءة النسوية، لكنهم سقطوا هنا (وليست أول السقطات ولا آخرها) حين غفلوا عن حقها على حساب التودد للغرب ومنظمات حقوق الإنسان المزعومة في إثبات الإسلام كديانة تَقبل الآخر وتتودد إليه مهما كان لونه وصبغته!

أليس من أولويات المرأة وحقوقها التركيز على معضلة اجتماعية خطيرة، وستتضح آثارها الخطيرة مع الوقت، خلفتها ثورة الحرية والعدل ضد الاستبداد والظلم في السعي لتوعية ما تبقى من شبابنا إلى خطورة الزواج بغير مسلمة؟ لعمري إنها قسمة ضيزى، مَنْ لبناتنا إن كان ربع الشباب استشهد والربع الآخر في المعتقلات وربع ضائع تائه ينتظر مصيره والأخير تهجر وهاجر. هذا الأخير، كأسلافه، سيتبنى أقوال المنظرين والنخب والفقهاء ليثبت للعالم أننا كمسلمين نقبل الآخر بشكل منقطع النظير في زواجه من غير المسلمات أو من الغربيات، وعندها سيفرح أولئك المنظرون من أصحاب حقوق الإنسان والتعايش مع المختلف لهذا الإنجاز! ألم يحن الأوان كي يراجعوا قيمهم ويعودوا إلى رشدهم ويتخلصوا من أزمة الهوية التي يسبحون فيها، ويلحقوا ولو ببضع خطوات الواقع الاجتماعي المتغير؟

ثم أين منهم من النصوص الصريحة في النهي الجازم، يقول تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ (الآية)} (البقرة: 221) وفي رواية ابن عطية عن زواج حذيفة بن اليمان بكتابية، أراد عمر أن يفرق بينهما لاحتمال عدم العفاف، ولخوفه أن يتخلوا عن الزواج بالمسلمات، ويقول (صلى الله عليه وسلم): “تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك” (البخاري ومسلم والترمذي). (راجع الحكم الشرعي لزواج المسلم بغير مسلمة للشيخ القرضاوي

ختاماً، إن معركتنا معركة وجود لا متناهية، تحيط بها دوائر أربع. الأولى وهي الأقرب منا تحيط بنا مباشرة، هي معركتنا مع ذواتنا في إعادة تقييم مستمرة لقيمنا الثقافية والعودة إلى أصول هويتنا العربية الإسلامية التي شُوهت وحُوربت بكل الوسائل والأدوات مع وجود المستبد والظالم والمحتل والمنحل أخلاقياً والمُغرّب هوياتياً، واستقر التشويه إلى أن رسخ في وجداننا الجمعي، وستظل حربنا ما دمنا أحياء، فللحق صولة ورحم الله قوماً لا تؤاخذهم في الله لومة لائم.

والدائرة الثانية بعد الأولى مباشرة هي معركتنا ضد الأنظمة المستبدة من حكام ظلمة وحكومات فاسدة ومؤسسات جائرة … والتي ظلت طويلاً جاثمة على أنفاس شعوب مقهورة مستضعفة، وهذا ما تدفع ثمنه اليوم الشعوب العربية والمسلمة منذ أربع سنين.

والثالثة معركة ضد القوى الإقليمية الطامعة وهي ما نشهده جلياً زمن ثوراتنا العربية، تلك القوى ذات المشاريع الأيديولوجية المدمرة لوجودنا فكرياً ومادياً، بصورة عنيفة أو ناعمة، وخير مثال الغول الإيراني وأذرعه فيما يسمى بـ”حزب الله” في لبنان وسوريا، والميليشيات الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن والسيسي في مصر!

الدائرة الأخيرة كبيرة القطر كالأخطبوط؛ أقل تأثيراً بشكل مباشر وأكثر فتكاً على المستوى البعيد والتدريجي. هو ذلك المحتل الاستعبادي المتغلغل المنبث في وجودنا فكرياً واقتصادياً وعسكرياً وحتى عقدياً، هو المسيّر والقائد لمعاركنا في دوائرها الثلاث، هو مواجهتنا الكبرى والحاسمة لنا نحن الشعوب، إن لم نصل إلى تفكيكه ومعرفة القوى الأصيلة والوكيلة له المعتدية على وجودنا وحضارتنا وقيمنا فإننا لن نرَ نصراً ولا تقوم لنا قائمة في دوائرنا الثلاث الأولى.

وأحسب أننا لا نملك العدة ولا العتاد بعد لمثل هذه المعركة الرباعية الأركان، لكن على الأقل وعلى حد تعبير فرانز فانون (صاحب كتاب معذبو الأرض) بما أن “الاستعمار وضع أرجله على أراضينا، فينبغي أن نجرحها باستمرار إلى أن تسحبها”. وهذا يعني أننا لا بد أن نظل في حالة ثورة دائمة، بدأناها بثورات الربيع العربي ولن ننهيها إلا بالوعي التام بأن واقعنا الإسلامي سيظل في تدنٍ إذا لم يلجأ القيّمون الأكفاء إلى سنّ تشريعات صارمة وقوانين حاسمة لتطبيق المُثُل الأخلاقية للسنة النبوية على أفراد المجتمعات الإسلامية كافة، برؤسائها ومرؤوسيها، تشريعات تدعو إلى الجهاد والاجتهاد بوصفهما مقياسا نهوض الأمة واستقلالها وخلاصها من مستنقع الخمول والخنوع اللذين أصابا الأمة عقوداً إلى أن أماتها وهي حيّة تسعى!

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *