ثمة جوانب كثيرة تتداخل فيها مسائل الدين والمجتمع والسياسة في حياتنا ترتبط في علاقات معقدة مضطربة. ومن العبث الفكري الولوج فهمًا إلى الجانب السياسي من شؤون حياتنا لتفكيكه وتحليله دون بلوغ النظرية الفلسفية وراءه؛ كون الفعل السياسي (العملي/ التطبيقي) مُؤسسًا على الفلسفي (النظري/ التنظيري). إن الولوج إلى عمق البنية الثقافية والقيمية لعالمنا العربي والإسلامي، خاصة بعد انتفاضات شعوب دول الربيع، لا يقل أهمية وأولوية على الأحداث الجارية فيها وما لحقها من تداعيات إنسانية؛ بدءًا من قضية اللاجئين والتشريد والقتل، مرورًا بالدمار والحرب، وانتهاءً بموت ضمائر وإنسانية المجتمع الدولي ومنظماته. وعليه؛ فقد ارتأيت تسليط الضوء في ورقتي الفقيرة هذه على جانب مُهمل من ثقافة عالمنا العربي والإسلامي، والذي لطالما تساهلنا فيه -قصدًا أو جهلًا- ودفنّا رؤوسنا بالرمال هروبًا وخنوعًا إلى أن جاءت هذه الحرب بصيغتها التطبيقية فاقتلعتنا بوحشية من عقر دارنا كما حدث في سوريا، ومورس علينا أبشع مجازر الإبادة بدم بارد وعلى مرأى العالم ومسمعه. وأعني بهذا الجانب الفلسفي النظري والذي سأتناوله في ورقتي هذه: التصوف الفلسفي ونظرياته الذي أثّر وتأثر بالمصادر الشيعية ومناهجها في عملية تفاعلية تبادلية على مر التاريخ.
فمن خلال الاستقراء التاريخي، ومقارنة نصوص التصوف الفلسفي الباطني (الذي غالبه شيعي الهوى) بنصوص الشيعة الإمامية؛ نستشف أنهما يشتركان من خلال روابط عقدية كثيرة أبرزها مذهب الإمامية/ الولاية.
أما عن الروابط العقدية بينهما فنجد أن عقيدة العصمة للإمام عند الشيعة كعقيدة الحفظ للولي عند الصوفية، والتأويل الباطني عند الشيعة كالباطنية والتأويل الباطني أو الرمزي أو الإشاري عند الصوفية، وتقسيم الدين إلى شريعة وحقيقة عند الصوفية كتقسيم الدين إلى تنزيل وتأويل عند الشيعة. إلا أن الظاهر للبيب الحكيم أنه بينما يظل الولي الصوفي منسحبًا من الحياة العامة والانخراط بهموم الأمة، يبرز ولي الفقيه كمسؤول عن السلطة والسياسة والدنيا والدين أجمعين.
إن نظام الولاية الصوفي ملهم لنظام الولاية الشيعي، أو العكس صحيح، أو يمكن القول إنهما نهلا من بعضهما بعضًا وطورا بعضهما بعضًا في عملية تلاقح ثقافي أيديولوجي نفعي؛ أي إن النظامين متواطئان منسجمان باطنيًا، منفصلان في تمثيلاتهما ظاهريًا، في كليهما تأسيس للدنيوي/ السلطوي على الشرعي/ الروحي المستمد قدسيًا من الإلهي؛ فكان أن “أشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم” كما يقول ابن خلدون في مقدمته. وأصبح لهما هدف مشترك يتمثل في أن للإنسان موضع قدم في الإلهية وفي تصريف شؤون الدين والدنيا بقدرة ميتافيزيقية وأمر مقدس، فنازعوا على السيادة الإلهية، ليصلوا إلى غاياتهم السياسية والاجتماعية في التحكم بمصائر شعوب بأكملها، أدواتهم تخدير العقول واستلاب الإرادات والكرامة الإنسانية، إلى أن وصلنا إلى تغريب ثقافي وتشويه عقدي. وقد لعبا دورًا كبيرًا بنشر أفكارهما في الوسط الصوفي الأول حتى بتنا لا نسمع عن أهل التصوف بمساره النقي من الشوائب والتشويه إلا فيما ندر.
لقد نجح ترويج فكر التشيع في الأوساط السنية بالفعل. وتتجلى خطورة التيار الخفي من “التشيع” المستتر بـ”التصوف” في بُعده العقدي والأمني والسياسي والاجتماعي؛ فتكتيك هزم الخصم إن لم يحقق النصر ميدانيًا يلجأ إلى المجال الفكري والعقدي لبث الانحرافات وخلق البلبلة الفكرية وزرع التشوهات والترهات. ومن هنا؛ تسللت الفارسية التي تتخذ من “التشيع” وسيلة لخدمة أهدافها السياسية، وإقامة إمبراطوريتها، وإعادة مملكتها البائدة. وقد استطاعت التسلل إلى المجتمعات الإسلامية عبر التصوف والصوفية المتشيعة؛ نظرًا لكثرة المتصوفة والفرق الصوفية وانتشارها الواسع، وعلو مكانة بعض شيوخها لدى بعض أصحاب القرار في بعض الدول العربية والإسلامية.
إلى أن وجدنا صداها لدى المستشرقين ولدى مراكز القرارات الاستراتيجية الغربية، بل وحتى مراكز الـthink tanks كمركز راند (Rand) الذي يعمل لصالح وزارة الدفاع الأمريكية! فقد كان تقرير راند المشهور الصادر في عام 2004 كرد تنظيري وتأسيسي لسياسات وتوصيات (اُتخذت فيما بعد في عين الاعتبار) على انتشار ما أطلقوا عليه “الإرهاب” (الكلمة المفتاحية لكل ذريعة يتخذها الغرب للتدخل في العالم العربي والإسلامي)، هذا التقرير يوصي بدعم الحركات الصوفية والتصوف ماديًا ومعنويًا وبكافة الوسائل وعلى الصعيدين العربي والعالمي. التصوف “المدعوم” هذا الذي اتخذ من الزهد منهجًا له، وأخص بالذكر الزهد السياسي لقي الدعم والترويج في مواجهة خصمهم الذي أطلقوا عليه “الإسلام السياسي”، “السني” وحسب، وعدوه أُسّ الحركات المعادية للديمقراطية على حسب زعمهم. في الجهة المقابلة، نجد أن هؤلاء المحذرين من آفة الإسلام السياسي “السني” يغضون الطرف عن التشيع السياسي ودمج السياسة بالدين فيما يسمى ولاية الفقيه وجمهوريته الإسلامية!
وكلنا شاهدنا مع تحولات المشهد في المشرق العربي الإسلامي البراغماتية السياسية الوقحة بين أمريكا وإيران، ولم تقتصر هذه البراغماتية على كيفية تعاملها مع القضية السورية وقضية الملف النووي الإيراني على حساب تورط إيران ومرتزقتها في قتل الثوار والمدنيين السوريين، فتاريخها طويل ومفضوح لكل حكيم.
ومن جانب آخر، فإن ذلك يحيلنا إلى التساؤل عمن مكّن للنظم الشمولية الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية على مدى عقود. فكان أن وصلت الشعوب الإسلامية إلى حالة من استمراء التخاذل والاستكانة إلى الظلم والفساد والبطش والاستبداد، أليست بعض الحركات الصوفية التي أثرت بشكل أو بآخر في عملية زواج بين السلطة الدينية الناعمة وبين السلطة السياسية؟ فواقع الأمر، في غالبه، الذي لا يمكن إنكاره أن السلطة السياسية كانت ولا زالت موالية للأولياء، حامية مناصرة لهم، وشيئًا فشيئًا اتخذ الكثير مِمَن ادعوا الولاية وظيفة الوساطة بين العباد ورب العباد؛ فأملوا الأوامر وخدروا العقول بالاتفاق مع ولاة الأمور.
ما عُرض أعلاه سيكون محور ما سأحاول كشف اللثام عنه بين فقرات ورقتي المتواضعة هذه، والتي تتألف من كلمة البدء، وأربع نقاط، وخاتمة. وقفت النقطة الأولى على علاقة الحركات الصوفية والتصوف الفلسفي بالتشيع تاريخيًا، والنقطة الثانية أتت على المشتركات بين مفهوم الولاية في التصوف الفلسفي ونظيره عند الشيعة الإمامية وما يعتري هذا المفهوم من إشكاليات وشطحات عند الطرفين. والثالثة تناولت ثمرة التزاوج بين الولاية الصوفية وولاية الفقيه، أما الرابعة والأخيرة فتطرقت إلى علاقة الصوفية المعاصرة وولاية الفقيه بأمريكا ومراكز الأبحاث الغربية.
وإلى من سيرميني بسهام الافتراء كاتخاذي التعميم منهجًا، ردّ عليك سهامك واقرأ بعين حكيمة، لتضع الأمور في مواضعها؛ فليس مغزى البحث هذا تناول بعض الأفراد من حزب ما أو ثلة من جماعة أخرى فتنتفض فيك حمية الجاهلية وتسعى مع الساعين من الأنصار والمريدين لتبرئتهم من دم يوسف. بل إن بحثي هذا هو عينٌ ترصد ما هو أبعد من ضيق عيون الأحزاب والمجموعات، بل أعمقها محيطًا؛ عينٌ تنظر إلى ماضٍ أثقله فرط التخاذل والخنوع أفواجًا أفواجًا، عينٌ شهدت أجيالًا وقممًا دخلت التاريخ لتخرج منه خالية خاوية، لا هي سجلت موقفًا كريمًا ولا دخلت تأريخًا؛ تأريخٌ لحقبة تعلن عن نهاية عصر الطواغيت، والظالمين، والفاسدين، والمنافقين من علماء السلاطين مهما اختلفت مشاربهم أو طائفتهم، سواء أكانوا من أصحاب طرق صوفية أم ممن تسمت أحزابهم بالسلفية!
فالكلام في حضرة الأمة يُذيب الحركات أو تلك الأحزاب، بل قل الأفراد!
إليكم البحث على الرابط: الخرقة والعِمامة.