وَهَب بعض المفكرين والباحثين في تاريخ الفكر الإنساني حياتهم للوقوف على تفسير الدوافع النفسية والاجتماعية والسياسية وراء الدمار والخراب الذي لحق بكوكبنا؛ علاوة على تحليل خواص النفوس المتعطشة إلى الحروب الدموية والنزاعات المسلحة على السلطة والمال، والمتماهية مع صراعات توازن القوى الناعمة والمتوحشة والمتفقة على انتشار صفقات أسلحة الدمار الشامل -علناً وسراً- والغافلة عن انعدام أخلاقيات العلم والفكر والمجتمع.
من بين هؤلاء الباحثين أولئك الذين تبنوا الدراسات والأبحاث الجندرية النسوية وأدبيات المدافعين عن حقوق المرأة والتي تقوم فلسفتها على فكرة جوهرية مفادها أن ما وصل إليه عالمنا من أفكار مدمرة وتطبيقاتها على الأرض، ثم انعكساتها على النفوس إنما يعود إلى الرجل الحامل للمسؤولية عما يحدث ويكون.

الرجل هو المسؤول الأول والمحاسب الأخير عن ما وصل إليه كوكب الأرض المسكين؛ بل إن “المرأة نفسها ضحية لوجود الرجل نفسه”، وعليه ألحت تلك الدراسات والأبحاث على مشاركة المرأة الرجل في قراءة الوجود وإعادة تمثيله ضمن رؤيتها وحضورها الأنثوي! (راجع على سبيل المثال، أنثوية العلم: العلم من منظور الفلسفة النسوية، ليندا جين شيفرد).
فما أن يُتاح للأنثى/المرأة القبض على زمام الأمور –زعموا- حتى تنقلب مفاهيم البشرية جمعاء، ويتحول الكون إلى صورة أشبه ما تكون بما يسمى “المدينة الفاضلة”، الأفلاطونية إن أردت أو الفارابية على حد سواء، ذات الثوابت الأخلاقية والإنسانية، كونها ذلك الكائن الطافي بمشاعر: الحب، والتعاطف، والدفئ، والتراحم، والإحسان… وهي المرجع للتحكيم القيمي الأخلاقي للأشياء، ومصدر الرؤية الجمالية والعادلة للكون…، حسب تقسيم عالم النفس كارل يونغ للنفس البشرية التي تحمل جانباً أنثوياً (الأنيما) وآخر ذكورياً (الأنيموس)، وكلما طغى وغلب جانب على جانب كلما تحدد نوع تلك النفس بشكل أوضح؛ فالأنثى/المرأة هي من طغت أنوثتها على الجانب الذكوري فيها، والذكر/الرجل هو من طغت ذكوريته على الجانب الأنثوي فيه. 

أنوثة ضد الأنيما 

ثم مع ثورات العالم العربي، أتت المفاجأة الفارقة، قَلبت هذه النظرية العلمية رأساً على عقب، والتي سيقف على إثرها بعض أولئك الباحثين والمفكرين وعلماء النفس والاجتماع مشلوليّ الفكر عصيي الفهم أمام ظاهرة لم يشهدها التاريخ الإنساني ولا حتى الميتا-تاريخي؛ تلك الظاهرة التي سجلتها المرأة وحدها وبامتياز. 

المرأة المقصودة هنا ليست تلك التي طغى عليها “الأنيموس السالب/الذكوري”، وما يمثله من الخشونة وحب التسلط والسلطة والدمار… وحسب، بل التي تطورت لتُخرج طفرة تفردت بها حين ظهرت على شكل كائن يحمل نفساً نراها الأكثر وحشية والأكبر حقداً والأفظع شروراً؛ فشاركت الذكر/الوحش الوجود بأبشع صوره وتمثلاته، وتطرفت في أفكارها وكيفية تطبيق تلك الأفكار إلى أقصاها، فسفحت أنوثتها وحيائها وأخلاقها تحت قدم سيدها حتى الموت، وليست مذيعات العار على جنس الإناث ومسميات الإنسانية كافة اللاتي تنافسنّ على الوقوف على أطلال الدمار والجثث وتسابقنّ لالتقاط الصور التذكارية مع روائح الدم والموت والبؤس والتشرد ببعيدات عن نموذج المرأة تلك، ولا تصريح تلك الشاعرة أو الأديبة الداعم للمجرم الطغمة ولا مجندات شاركنّ في اغتصاب الأعراض والأنفس… ولا أية صورة للأنثى وقفت على الطرف الآخر من ثورة القيم ببريئة من تلوث مفهوم الأنوثة وتشوهه، تشوه استطار في وجهها شر استطارة. 

مساواة بنكهة العبودية

كيف للمرأة المخدوعة بشعارات حقوق المرأة المستوردة أن تنادي بمساواتها مع الرجل ونيل حقوقها في مجتمع شُوهت قيمه واختلط فيه الخير والشر والحسن والقبيح؟ 

تريد المرأة المساواة مع رجل من مجتمعها وثقافتها ودينها وفلسفتها، لأن صفات مثل الضعف والنقص والتبعية لحقت بها وتريد إثبات أنها في تساويها مع الرجل هي قوية وكاملة ومتبوعة ومستقلة…، لكن في واقع الأمر إن كان نموذجها الرجل العربي “الراهن” فلن نحصل إلا على؛ امرأة خاضعة ذليلة مستكينة متخاذلة فوق خضوعها واستكانتها كامرأة؛ كائن على شكل امرأة يأخذ ركناً من هرمية نظام العبودية فتزيد على عبوديته درجة من العبودية. 

ألم يحن الوقت كي ندرك أن أكذوبة المساواة مع الرجل انكشف سترها وافتضح أمرها، وأنها ليست إلا ألعوبة جديدة بيد مهندسي الخطاب الاستخرابي والاستشراقي والاستغرابي. 

ثم إن بحثنا في لفظة الأنثى كما جاءت في لسان العرب ومعاجم اللغة العربية، نجدها أنها “كل ما هو خلاف الذكر من كل شيء… ‏وخالف الشَّيءُ الشَّيءَ: أي غايَرَه، باينه. وسميت أنثى من البلد الأنيث؛ لأن المرأة ألين من الرجل وسميت أنثى للينها، والحديد إذا أَنُثَ: لاَنَ .والمرأة الأنثى هي من كملت أنوثتها، ولن تكون كاملة الأنوثة إلا إن كانت عكس الذكر وغيره من كل شيء”، فإن كانت الأنثى لغوياً، ولغوياً فقط، -ولم نأت على ما هو فطري وطبيعي ونفسي ووجداني واجتماعي- مغايرة للذكر من كل شيء، فكيف تطلب المساواة معه في كل شيء! 

إن كان لها بد من نشدان حقها في المساواة، فالأولى أن تتخذ من بنات جنسها نماذج يحتذى بهن، وتنادي بالمساواة فيما بلغنه.

تمكين سياسي أم تكريس للإذلال؟

بلغ الحديث عن “التمكين السياسي” للمرأة حدّ الابتذال والتغييب عن الواقع والمنطق والفطرة، وهو موضوع في حقيقته لا يتجاوز ترفاً فكرياً يُتداول في الصالونات والمنتديات المغرقة في الرفاهية والدّعة، لصرف الاهتمام عن المصيبة الكبرى التي تعترينا وهي تمكين المرأة دينياً وأخلاقياً وقيمياً، فأيّ منطق ذاك الذي ينادي بحق المرأة في ممارسة السياسة وآلاف النساء معتقلات ومغتصبات ومشردات؟ هل وصلنا إلى مجتمع خالٍ من العنف ضد المرأة في ظل حكومات الاستبداد والتوحش حتى نأخذ بيدها ونزجها في عالم متوحش فاقد للمنطقية والأخلاقية وإلى أدنى حد من القيم الإنسانية، والذي يسمى عالم السياسة؟ 

وللمفارقة، نجد أن اللواتي مارسن الكتابة ضد الفحولية والمجتمع الذكوري ووقفن ضد ذكور المجتمع وطالبن بتفعيل الدور السياسي للمرأة، وقعنّ بالفخ من حيث لا يحسبن؛ حيث تباهين اليوم بوجودهن مع “فطاحل” السياسة ويتلقين الإرشادات والتوجيهات والتعليمات منهم عن الحياة السياسية بكل سرور ورضا، فنجدهن يأخذن بالأمر وضده؛ إما المساواة معهم، أو ازدراءهم ومحاربتهم، وهنّ في واقع الأمر لم يخرجنّ عن تكريس العبودية والتبعية التي لطالما قاومنها.

ثم ابتداءً وقبل كل شيء: هل الرجل العربي ممكّن سياسياً ويمكن أن نطلق عليه صفة “السياسي”؟ وعن أية سياسة نتحدث بالضبط؟ هل ما يمارس اليوم يُعد ضرباً من السياسة؟ لعلنا لا نبالغ إن قلنا إن أغلب سياسي العالم اليوم يستخدمون دلالة السياسي من حيث الترويض والتأديب والتذليل والإيذاء، تماماً كما تُستخدم هذه المصطلحات على الحيوانات لا على بني آدم لما تحتويه من عنف واعتداء على الحقوق والكرامة الإنسانية. ويسقط من دلالات سياسي اليوم؛ الرياسة والتدبير والرعية والإصلاح. وكما يقول المهدي المنجرة في حديثه عن هيمنة الشمال المذلة والمتوحشة على الجنوب، فالمهانة “غدت شكلاً للحكم ونمطاً لتدبير المجتمعات وطنياً وعالمياً”. (الإهانة في عهد الميغا-إمبريالية).

وعليه، أتريد المرأة تمكيناً سياسياً كتمكين أخيها الرجل في الفضاء المذل نفسه، والذي لا يخرج عن كونه أحد الرجلين، إما أن يُمارس عليه الترويض والتذليل والإيذاء من قبل أسياد العالم، أو أن يكون هو المُروِض والمُذِل والمُؤذي، فتحل محله في الـ”إما” أو الـ”أو”، أهذا ما تريده من التمكين؟

أخيراً،

لم تعد الأنوثة الكامنة فينا تترجم هذا الجانب المشرق من الإنسانية ولا باتت مرآة مجلوة للأخلاق والقيم، كما سلّم طويلاً علماء النفس والباحثين الاجتماعيين والجندريين. 

ولن تأتي المرأة بمفاتيح سحرية لحل مشكلة العنف والاستبداد والإذلال الممارس عليها وعلى الرجل في آن، في مجتمع بلغت منه الأمراض وغياب القيم الإنسانية مبلغ الثمالة. فلنطالب أولاً بإعادة تحديد دقيق للمصطلحات والمفاهيم السياسية والاجتماعية والفلسفية ولنبعث قيم الكرامة والحرية والعدل لنجدد دورة حضارتنا التي طال موتها الأصغر.

المرأة ستحقق ذاتها وستنال حقوقها تلقائياً إن أصبح الرجل العربي والمسلم حاملاً لفكر نقي لا تشوبه شوائب الخطاب الاستشراقي ولا يمسه بقايا النظام الجبري من خنوع واستكانة وذل وضعف، قوياً يملك هويته ويفرض شروط وجوده على العالم. 

(ملاحظة: أُرسلت هذه المقالة إلى مدونات الجزيرة -مع أني لست من أنصارها- ولم تُنشر -والحمدلله- بعد محاولات تحت ذريعة أن الصور الشخصية لكاتبة المقالة غير ملائمة لمدونات الجزيرة كما نوّه “مسؤول النشر العشريني”، فالمعيار كما قال أن يظهر الوجه بشكل واضح، ومن يراجع صور المدونين سيلحظ أن منها من لم تكن واضحة المعالم، ومنها ما كانت بنصف وجه، وأخرى ظهرت بالبرقع… المعيار إذن لم يكن للكلمة وقوتها وأثرها، بل الصورة، صورة المدون وأثرها… هذا هو إعلام العصر).  

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *