لا شك أن في فَقْدِ الوالِدَيْن شُرودٌ للذهن وحَيرةٌ للنفس وغُصَّةٌ للروح وذُبولٌ للقلب، إلا أن هذا الفقد ما زحزح من يقيني لحظةً بأن الموتَ حق، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، ورُحت اتتبع في كتاب الله وسنة نبيه المصطفى رحلة روحَيْن آلمني فراقهما بعد أن أغرقا وجودي  حباً ورحمةً، قَصْد الفهم والوصل والسلوان.  

فما مِنْ روحٍ على وَجهِ الأرض إلا ومكتوبٌ لها شُهود عوالم ثلاث، عالم الذّر، عالم الدنيا بطوريه عالم الرحم والأرض، وتستقر  في العالم الآخر والأخير، عالم القرار.

صوّر الله عزّ وجلّ الأرواح قبل الأجساد، قبل دخول النطف في الأرحام منذ زمن قديم قِدم أبينا آدم عليه السلام، في عالم الذر، “لمَّا خلقَ اللَّهُ آدمَ مسحَ ظَهرَه فسقطَ من ظَهرِه كلُّ نسمةٍ هوَ خالقُها من ذرِّيَّتِه إلى يومِ القيامةِ…” (رواه أبي هريرة، حديث صحيح، صححه ابن منده في “الرد على الجهمية”، وابن العربي في “أحكام القرآن”، والألباني في “صحيح سنن الترمذي”)، والنَّسمةُ: كلُّ ذي رُوحٍ، وهي القوى المدركة في بني آدم. وفي صحيح الحاكم “عن أبي بن كعب في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، أنه تعالى جمعهم له يومئذ جميعاً ما هو كائن إلى يوم القيامة”. فجعلهم أرواحاً ثم صوّرهم، واستنطَقَهم، فتكلموا، “وأخذ عليهم العهد والميثاق: قال: فإني أُشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأُشهد عليكم أباكم آدم: {أنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيامَةِ إنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ} فلا تشركوا بي شيئاً فإني أُرسل إليكم رُسُلي يذكرونكم عهديّ وميثاقيّ وأُنْزل عليكم كُتبي، فقالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك”، (السمرقندي 373ه في تفسيره، كذلك تفسير ابن القيم 751ه).

في هذا المشْهَد أَخَذ اللهُ تعالى مِن الأرواح العهدَ والميثاق بتوحيدِه وعبادتِه، فآمنوا وصدّقوا وعَرَفوا وأقروا. “وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال  إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان- وهو واد إلى جنب عرفة- يوم عرفة” . وسواء كان هذا المشهد حصل على الحقيقة أو كان أسلوباً تمثيليلاً كما يقول ابن عاشور (1393ه) من أن الكَلام هنا “تمثيل حالٍ من أحوال الغيب، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكُنْه، لأنها وراء المعتاد المألوف، فيراد تقريبها بهذا التمثيل”، (التحرير والتنوير)، فإن الإشهاد تَضَمن تحديد ماهية الخلق وهي فطرة التوحيد (ابن كثير عن السلف والخلف) القارّة في كلّ نفسٍ بشرية، “كُلُّ مَولُود يُولد على الفِطرة فأَبَواهُ يُهوّدانِه ويُنصّرانِه ويُمَجّسَانِه …”، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَالَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].

وعُرضت الأمانة على الخلق أجمعين وما حملها إلا الإنسان، {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]. هذه الأمانة هي صورة ذلك الميثاق -الذي أَخذَهُ الله على بني آدم يوم الإشهاد في عالم الذر- تحقيقاً لها في عالم الأرض على أن تكون خلافة الإنسان على صورته، وعلاقته بالأرض علاقة انسجام بين التوحيد وقانون الكون. وهو اليوم نفسه الذي كانت فيه بداية النظام الفلكي الكمي المتعلق بالإنسان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الزمانَ قد اسْتَدار كهيئَتِه يوم خلَق اللهُ السماوات والأرض…” (متفق عليه) أي دار على النظام نفسه الذي اختاره الله تعالى ووضعه يوم خلق السماوات والأرض، وبدأ الزمان بسيرته الأولى. قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]. فحُكم عدة الشهور عند الله ثابتٌ “محكومٌ به من أول ما خُلق العالم”، (تفسير الرازي 606ه). 

وكان ذلك كلّه في حجة الوداع والرسول صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعَرَفة يومَ أعلن فيه اكتِماَل الدين كما جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه، “أنَّ أُناساً، من اليهود قالوا: لو نزلَتْ هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، فقال عُمَر: أيّةَ آيةٍ؟ فقالوا: {اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فقال عُمر: إني لأعلم أيَّ مكان أُنْزلت، أُنْزِلَتْ ورسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم واقِفٌ بعَرَفَة”. (أخرجه البخاري ومسلم باختلاف يسير).

في هذا المشهد العظيم، بِدْء الزمان واكتماله المصاحب لاكتمال الدين، ما يؤكد على ضرورة انسجام الدين مع حركة الكون ومع مَقصِد خَلْق الإنسان وخلافته على الأرض نلمح لطيفةً أخرى من لطائف هذا المشهد. 

ففي عالم الذر وبعد أَخْذ العهد، سَرَحت الأرواحُ وجَالَت فمنها ما تعارف فائتلف، مَثْنى وجماعات، ومنها ما تناكر وتنافر فاختلف وفارق، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “الأرواحُ جُنُودٌ مُجَندة فما تَعَارف منها ائتلَف وما تَنَاكر منها اختلف”. (صحيح مسلم، وأخرجه البخاري باختلاف يسير). وقال العلماء (النووي وغيره) وأما تعارفها فيعني “إنها موافقة صفاتها التي جعلها الله عليها وتناسبها في شيمها. وقيل لأنها خُلقت مجتمعة ثم فُرقت في أجسادها فمن وافق بشيمه ألفه ومن باعده نافره وخالفه”. “فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت واختلفت بحسب ما خُلقت عليه فيميل الأخيار إلى الأخيار والأشرار إلى الأشرار. فالتشاكل بينها في الخير والشر والصلاح والفساد”. قاله الخطابي وغيره.

وكخلق أمنا حواء من أبينا آدم عليهما السلام، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] وتعارفهما على التقوى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، تعارفت روحان حملتا في فطرتهما وحدانية الله وشهدتا وأقرتا، ثم صارت بينهما ألفة فصار تعارفهما في الدنيا على ما سبق من عهدهما القديم، في عالم الذّر، وتعاهدتا على أن تعبدا الله وحده لا شريك له وأن تجعلا توحيده تعالى منهجاً في ارتباطهما، وعلى أن تكون المودة والرحمة سكناً لنفسيهما، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

ثم وفي عالم الدنيا بطوره في عالم الرحم ينتقل كل إنسان من طور إلى طور {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [النجم: 46] إلى أن يصبح كائناً كاملاً، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون 12-14]. فمن سلالة من طين إلى نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظام تُكسى لحماً، ثم يُنشأ خلقاً آخر. {فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة:38] أي: خَلَق الأجساد، وسَوّى الأفهام. وقيِل: أيّ خَلَق الإنسان وهيّأَه للتكليف. ثم يَنفخ الله فيه من روحه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر : 29]. 

 ثم تأتي لحظة تخبرها كلَّ أمٍ على هذه الأرض كما خبرتها مريم عليها السلام، خاطَبَها الله فيها أنَّ في قلب معاناتك وآلامك الجسدية تسري رحمةٌ ونعمةٌ لا يستوي معها حزنٌ ولا كمد، {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 23-24] بل وراء هذه المحنة منحة عظيمة، فمن روحين في بدنين تتشكل مُهجةٌ في بدن، مُوحدة مخلوقة على الفطرة، ثم تصير المُهجة نفسها في بدنين، وفي كل بدن مهجة من مهج الوالدين، يقول الشاعر:

نَحنُ كُنّا مُهجَةً في بَدَنٍ

ثُمَّ صِرنا مُهجَةً في بَدَنَين

ثُمَّ عُدنا مُهجَةً في بَدَنٍ

ثم يكون الإنسانُ في عالم الأرض ضعيفاً، يؤوساً كفوراً، فرحاً فخوراً، ظلوماً، جهولاً، عجولاً،خصيماً، قتوراً، كنوداً جاحداً، كادحاً، يريد الفجور، كثير الجدل، خُلق في كبد، وهو في خُسر، وفي طغيان، هلوعاً جزوعاً منوعاً.. كما وصفه الله تعالى في كتابه العزيز. إلا المؤمنون والمؤمنات، الموحدون، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، الحاملون لأمانة التكليف والعاملون بما جاء في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، العارفون بأن الحياة الدنيا دار لهو ولعب وأن حظَّ النفس فيها في جهاد ومجاهدة دائبين، حيث تتوالى فيها الابتلاءات والامتحانات، والبشرى للصابرين، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]. 

وأن الفوز في الدار الفانية الناقصة مرتبطٌ بِمَن وَفّى بعهدِه وتَناغَم مع فطرته وعَمِل في عالم الشهادة بما عَلِم وأقر في عالم الغيب، وأن ما سيكون عليه في دار القرار هو ما كان عليه في دار العبور، وما كان من الغافلين. 

فيـــــا رب ارحم برحمتك التي وَسِعت كلَّ شيء أرواحاً شهدت في عالم الإشهاد بأنه لا إله إلا أنت، رحمة كمثل تلك الرحمة التي صاحبت تربيتي وتعطفهما عليّ في صغري، {رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّیَانِي صَغِیرًا}. 

وإنّي، كما شَهِدا، أَشهدُ أَنّي على عهدك ووعدك ما استطعت، وأني على ملة أبينا إبراهيم أَدْعو بدعائه {رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} وعلى دِين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعبُدك حتى يأتيني اليقين، ويأتي اليوم الذي يتجدد فيه صحبة والدايّ في دار الكمال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]. 

والحمد لله رب العالمين

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *