لماذا بتنا نشهد في عالمنا العربي في نوادي القراءة ومواقع الانترنت توجهاً زخماً لإحياء الفلسفة والحث على تعليمها وتعلمها في المدارس والمعاهد والجامعات الرسمية وغير الرسمية؟
أيكون سرّ إقبال شريحة كبيرة من الشباب المسلم للبحث عن فتاوى فلسفية مستنبطة من فلسفة أفلاطون وأرسطو والفلسفات الرواقية والأبيقورية والفرويدية والنيتشوية والدريدوية… سعياً لفهمٍ أعمق للوجود ولحقيقة دوره كإنسان في عالم سقطت عنه أوراق التوت حتى بدا خالياً إلا من ظلمات بعضها فوق بعض يحكمها التوحش والتكالب على مصالح مادية صرفة؟
ما الذي يميز الإنسان إن كان مثقفاً عادياً أو كان فيلسوفاً؟ ماذا يعني أن تكون فيلسوفاً أو أن تفكر فلسفياً؟
قبل عقد من الزمن كانت صورة الفلسفة في المجتمعات العربية، إما أنها ذلك العلم الإنساني الذي تُنال درجته الجامعية للحصول على مهنة مستقبلية بهدف التكسب المادي الشحيح، أو أنها طريقة عيش نخبوية خاصة بفئة برجوازية نذرت حياتها لتأمل القضايا الميتافيزيقية الكبرى والكتابة عن أسئلة الوجود بأساليب مقعدة متعالية على الفهم الإنساني الفطري، وثلة قليلة جداً من خريجي الكليات الفلسفية كانت تمارس الفلسفة ترويجاً لمذهب معين؛ كالماركسي أو الوجودي أو الهيجلي… ونقداً لمذاهب أخرى وإعادة تأمل جدي.
وفي الوقت الذي بدأت فيه الأوساط الفكرية الغربية المابعد حداثوية التساؤل عن جدوى الفلسفة وعن دورها في إنقاذ الإنسان من بؤس الحياة المادية وانعكاساتها المجففة للروح، وعن الطريقة المُثلى لبلوغ السعادة الإنسانية، ‑السؤال عن الجدوى نفسه غالباً ما ارتبط في جوهره بالنفعية والآثار الملموسة الأقرب للمادية‑ وفي حين باتت الفلسفة متماهية مع حقول معرفية أخرى؛ كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلوم اللسانيات… حتى بدت وكأنها محتاجة إلى تلك العلوم التي ولدت من رحمها في نشأتها الأولى، وصل بالكثير من المفكرين المتفلسفين إلى إعلان نهايتها وبدء موتها كما أُعلن عن نهاية التاريخ وعن موت الإنسان وعن موت الحضارة… على التوالي.
اليوم، ومع عصر التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي التي سهلت كثيراً لانتشار كل ما هو غثّ أكثر مما هو ثمين، نشهد دخول الفلسفة عالم ما يسمى بـ “التنمية البشرية” فما إن تطبق تعاليم التنمية الفلسفية البشرية بدقة حتى تغدو فيلسوفاً بامتياز، وأقرب مثال مقال لفتوى فلسفية جاهزة يفند فيها الاسترالي Ian Ravenscroft ما لا بد منه حتى تصبح فيلسوفاً: “ماذا تأكل وتلبس وتشرب، وماذا تقرأ، وبماذا تفكر وكيف تفكر فيه. وضرورة أن تتكلم بما تفكر فيه. وأن تستمتع بالحياة وتموت على ما تؤمن به”[1].
تقول Catherine Wilson: “في الماضي كان الخوض في الفلسفة يُعرّض الفيلسوف للخطر، فسقراط أُعدم. ديكارت ولوك اضطرا إلى مغادرة بلادهما هرباً من الاضطهاد. ليبنتز اكتسب سمعة سيئة. وسبينوزا تمت إهانته بشكل كبير. كانط كُمم صوته. وجُرد رَسل من استحقاق الزمالة في كلية ترينيتي Trinity College. أما اليوم فكم أصبح المشتغلون بالفلسفة في أمان، لا أحد يلاحق من يكتب نصوصاً في الميتافيزيقا أو الابستمولوجيا أو حتى في السياسة…”[2]. إنه الأمان الذي لفّ الفلسفة ومن حولها حتى وصل بالأمر أن بدأت سياسات بعض الدول العربية تتجه إلى رفع الفلسفة إلى مصاف العلوم الضرورية كونها زاخرة بالضمانات المنهجية المانعة والمحصنة ضد تبني الأفراد لمناهج الأصوليات الدينية المختلفة ‑بزعمهم‑، كما شهدنا مؤخراً في إحداها بعدما كانت تُفتي بكفر من يشتغل بها.
يقسم الطاهر ابن عاشور العالم التونسي المشهور (ت: 1973) للعلوم حسب مقاصدها لحصول تمام الفوائد منها إلى : 1- علوم تبحث عن أشياء لذاتها مثل علوم النحو (ثمرة لفظية محضة)، و2- علوم تبحث عن أشياء لا لذاتها بل لاستنتاج نتائج عنها، مثل: علم التاريخ الباحث عن أحوال الأمم وأسباب صعودها وهبوطها، والفلسفة التي تبحث عن الدقائق الفكرية في كل عصر، فإن لها تأثيراً في إنارة العقل وتدريبه على فتح أبواب الحقائق المصفودة…[3].
فتأمل دقيق في تعريف الفلاسفة للفلسفة ووظيفة الفيلسوف والاتجاهات الفكرية التي يتبناها كل فيلسوف تُظهر أن الفلسفة ابنة بيئتها، وأن الفلاسفة هم نتائج وأسباب معاً؛ نتائج لما هو سائد في عصرهم من اتجاهات سياسية ونُظم اجتماعية، وأسباب لما يسود العصور التالية من عقائد تشكل السياسة والنظم الاجتماعية والعمرانية.
النقطة المهمة التي أريد تسجيلها هنا إذن ليست التساؤل عن إذا ما كانت الفلسفة تندرج ضمن العلوم الضرورية لأمة من الأمم، بله التأمل المنهجي الدقيق في حال الأمم ومآلاتها، تلك الأمم التي اتخذت من الفلسفة (كعلم وضعي عقلاني مقابل علوم الوحي والديانات السماوية) منطلقاً فكرياً وتأسيساً نظرياً لحضارتها.
من هنا تأتي شرعية هذا المقال الذي سيستعرض سريعاً الفلسفة: تعريفاً ونشأةً مروراً بأهم الأفكار الفلسفية عبر مراحل تطور الفكر الفلسفي لنكشف بعض دقائق هذا الفكر وتجلياته على حضارة الغرب.
ما الفلسفة إذن؟[4]
الفلسفة Philosophy مفهوم لم يكن موجوداً قبل اليونان كما تقول كتب تأريخ الفلسفة، ومع ثلة من المفكرين عُرفوا بالفلاسفة الطبيعيين ظهرت الفلسفة في جزيرة أيونية في مدينة ملطية Miletus اليونانية في القرن السابع قبل الميلاد. النظام الكوني حسب هؤلاء ليس مرتباً لأن الآلهة هي التي نظمته، بل لا بد من وجود تفسير طبيعي محسوس لما يحدث في الوجود. ومع هذه الفكرة رُفضت الثقافة السائدة آنذاك ونُقضت فكرة تعدد الآلهة ونزاعاتها بين بعضها بعضاً لمنافاتها العقل البشري، ونُقد هوميروس وهزيود اللذان كتبا الأساطير ونسبا فيها للآلهة كل الصفات البشرية المشينة كالسرقة والزنا والخداع والنفاق…
الـ”فيلوصوفياφιλοσοφία” حرفياً تعني محبة الحكمة. والإغريق القدماء حددوا “صوفيا” بالحكمة… لكن ماذا تعني الحكمة؟ لم يعرف الإغريق الفرق بين النظر والعمل، ونلمس ذلك في “جمهورية” أفلاطون التي لم يفصل فيها بين الفلسفة والسياسة، فالحكمة هي العلم والعمل معاً. ومن الحكمة الفلسفية البحث في سؤال الموت الذي شغل الفلاسفة منذ القدم، دون خوف من فناء أو مجهول، ومن الحكمة التحكم بالنفوس والحياة والطبيعة والعمل من أجل الموت بشكل جيد عبر رسم الخيارات بشكل دقيق، صحيح، وحكيم.
والحكمة عند الحكيم اليوناني الأول سقراط Socrates (ت: 399 ق.م) أخذت منحى طرح أسئلة وتحفيز الفكر لعدم قبول مسلمات أو أنساق فكرية جاهزة. والحكمة كانت حثٌ دائمٌ عبر مسيرتها لنحت مصطلحات ومفاهيم جديدة واستعمالها في تقديم تفسير للعالم تخالف الثقافة السائدة في نسقٍ منظّمٍ متكاملٍ أو غير متكامل، مثل مفاهيم التقابل الميتافيزيقي والقيِمي لعالم المثال (المعقول/ الخير) مقابل عالم المحسوس (المادي/ الشر) عند أفلاطون Plato (ت: 347 ق.م)، أو مقولات أرسطو Aristotle (ت: 322 ق.م) العشر التي تحدد ماهية الأشياء والموجودات تحديداً منطقياً، انطولوجياً[5]. وهو ما ذهب إليه دولوزDeleuze (ت: 1956م) حيث عدّ الفلسفة “إنتاجاً للمفاهيم”، وأن تاريخ الفلسفة هو استنطاق ما غفل عنه أو ما لم يستطع قوله كل فيلسوف. بينما وصفها هيجل Hegel (ت: 1831م) فيلسوف الديالكتيك بأنها “طريقة خاصة جداً في التفكير”، والتي كما يتضح أنها طريقةٌ يُقرأ بها الوجود وفق نظامٍ معرفي وقيِمي من قبل عقول ثُلّة من الرجال تُحدَّد فيه نمط حياة وطريقة عمل فكر الإنسان من المولد إلى الممات لبلوغ السعادة، فردية كانت أم مجتمعية، في الحياة الدنيا أم في حياة الخلود.
من الأسطورة إلى اكتشاف العقل
قامت منظومة الفكر الفلسفي الغربي على الإرث الفلسفي القديم لليونان والرومان والمتأثرة بالثقافات الأخرى كالثقافة الهندية والفارسية والصينية، وغالباً ما يُرجع الفلاسفة ومؤرخوها نشأة التفكير العقلاني في تاريخ الفكر الغربي مع ولادة هذه الفلسفات حيث قطعت مع الأساطير قطيعة معرفية رغم قيام هذه الفلسفات نفسها على الكثير من الأفكار الأسطورية في تفسير المبدأ الأول للوجود وعملية تولد الموجودات منه، مثل طاليس Thales (ت: 546 ق.م) الذي عدّ الماء مبدأ الوجود عنصراً وعلةً، بينما كان مبدأ أنكسيمنس Anaximenes (ت: 524 ق.م) الهواء، نَفْس الموجودات ونَفَسها… وهكذا أُنشئت المذاهب الفلسفية على مرّ تاريخ الفكر الإنساني على هذه الفلسفات القديمة إما متابعة وتقليداً أو نقداً وهدماً أو بناءً على الهدمِ والنقض.
ثم كانت هناك المعركة الفكرية بين الواقعية (أفلاطون) والاسمية (أرسطو) التي أثرت تأثيراً كبيراً في انقسام تاريخ الفلسفة إلى مذهبين أساسيين: الواقعية تقول بأن الكليات أشياء ولها وجود خارجي وأنها سابقة في وجودها على الجزيئات، (ما كان يُعرف بنظرية المُثُل الأفلاطونية)، والتي ألهمت أصحاب المذاهب الشمولية؛ وحدة الوجود؛ وحدة الخالق والمخلوق؛ وانعكاساتها؛ وحدة الأديان؛ وحدة الحقيقة… كما عند سبينوزا الهولندي Spinoza (ت: 1677م) على سبيل المثال الذي عدّ الوجود واحداً، من وجه هو الطبيعة الطابعة (الإله) ومن الوجه الآخر هو الطبيعة المطبوعة (الكون).
أما الاسمية (المذهب التصوري)، فترى بأن الكليات أو الماهيات ليست إلا أسماء أو تجريدات ذهنية، والوجود الحقيقي هو للأفراد الداخلة تحت الأنواع والأجناس.
هذا التقسيم الوجودي في المذهب الاسمي لم يحمل عبر التاريخ إشكالاً منطقياً وحسب، بل امتد إلى الميدان الميتافيزيقي من حيث ترتيب الموجودات، فالإنسانية مثلاً ليس لها وجود حقيقي إنما الوجود هو ما تجسده الإنسانية من أفراد، وكل جزء حقيقته بذاته، كزيد وعمر وهند… وهو ما طُبق على اللاهوت المسيحي، فأتباع التقسيم الاسمي للوجود الذين عدّوا مفهوم الإنسانية غير متحقق في الواقع، طبقوه على مفهوم الإله نفسه، فليس هناك وحدة لجوهر واحد في الإله، بل كل اقنوم جوهر مستقل، وعليه لا توجد ثلاثة أقانيم من طبيعة واحدة بل ثلاثة جواهر وكل جوهر متقوم بذاته مستقل عن الآخر. الإله إذن مفهوم مجرد ذهني وما يحققه على صعيد الوجود هو الثالوث/ الأقانيم الثلاثة.
ما بين القرن الرابع الميلادي والثالث عشر الميلادي تراوحت مواقف فلاسفة العصر المسيحي بين توظيف الفلسفة ومنهجها العقلي وأدلتها البرهانية المنطقية لإثبات الذات والعالم والله ورسم العلاقة بينها، أو بين عدّ الفلسفة حقلاً منفصلاً عن حقل الدين، بما أن الوحي والحقائق المرتبطة به متعالية خارجة عن نطاق العقل البشري.
وبدأ ظهور التقسيم الثنائي الصلب؛ بين أفكار متولدة من الفلسفة، ‑وهي صائبة دوماً كونها تحتكم إلى العقل الإنساني على الرغم من أن رحلة العقل هذه في أعمال الفلاسفة تشي باختلافهم الشديد في تحديد الحق والباطل، الحقيقة والوهم[6]‑ في مقابل المنظومة المعرفية الآتية من الكنيسة التي احتكرت المعرفة والحقيقة قروناً في أوربا حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي تقريباً.
إعلاء الحقيقة العلمية ونبذ الحقيقة الدينية
في القرن الرابع عشر ازداد الاعتماد على المشاهدة والتجربة. وحدث انفصالٌ تام بين الفلسفة/ العقل والدين/ الوحي، بحيث لم تعُد المشكلة الفلسفية التوفيق بين العقل والنقل، ممهدةً بذلك لعصر ما يُسمى بالنهضة الأوربية حيث فقدت الكنيسة مع بداية القرن السادس عشر تقريباً سيطرتها، ولم يعد ميدان الإيمان ميداناً للفكر.
أما ما يُعرف بعصر التنوير ومن أبرز ممثليه لوك Locke (ت: 1704) وروسو Rousseau (ت: 1778) فقد طبع فلاسفة هذا العصر بالمنهج التجريبي المحض؛ حيث آمنوا بالحواس كمصدرٍ أساس للمعرفة، ‑على الرغم من أن معطيات الحس تُحلل وتُفسر وتُنقد من قبل العقل‑، وما كان خارج نطاق الحواس هو خارج مجال الاهتمام. ومنذ ذلك العصر نبذ الفلاسفة الكنيسة والدولة على السواء، وقيل في بعض الدراسات الغربية إن منطق عقلانية هذا العصر قبع خلفه منطق هيمنة واضطهاد، وأن التلهف إلى السيطرة على الطبيعة جلب معه نقمة السيطرة على البشر.
حيث بدأ الفكر المدرسي المسيحي بالانهيار (والذي اتسم بالتعددية وبمركزية الإله)، أصبحت فلسفة القرن التاسع عشر متداخلة مع العلم، وبدأت اكتشافات علمية جديدة، وغدا علماء الفيزياء بين عالم الطبيعة النيوتوني (ذرات متدفقة) وحتمية لابلاس، وبين النسبية ونظرية الكم. واحتلّ العلم مكانةً كبيرة بما أنه المجال المعرفي غير المحدود ولا القاصر.
أما على صعيد المذاهب الفلسفية فقد طغى على أوربا آنذاك المذهب الميكانيكي المادي، الذاتي المستقل عن الإله واُستبعدت المماثلة التناظرية النظرية والمنهجية بين الإنسان والعالم، من حيث الولادة، والتكيف، والفناء. واتسم الفكر بالواحدية، واُتخذ من التركيب منهجاً، وبتأثير نظرية النسبية ونظرية الكم أصبحت القيم غير ثابتة والحقيقة نسبية وغير يقينية.
ثم جاء المذهب المادي الجدلي، الذي ادّعى خلود المادة وأنها في تطوّرٍ وتحولٍ مستمر. من المادة تتكون موجودات أكثر تعقيداً: ذرات، جزيئات، خلايا، نباتات…، والتطور أعمى وخطي لا دائري. وعليه غدا الفكر غير ثابت؛ فكل شيءٍ يموت وينشأ من جديد، وصُيّر الوعي والعقل وفق حاجات الإنسان الاقتصادية.
أما الحقيقة فلا تتجلى إلا في العالم المادي حيث لا وجود حقيقي خارج هذا العالم المحسوس، والواقع يحمل عناصره الموضوعية. لا قوانين خالدة ولا حقيقة مطلقة. والدين إنما هو أفكار خاطئة وأوهام؛ ينشأ من الخوف، من ضعف الإنسان تجاه الطبيعة، هو مجرد تعزية ومواساة للإنسان بوجود عالم آخر بعد الموت. وعلى صعيد المجتمع أصبح لكل طبقة اجتماعية اقتصادها الخاص، ولكل منها نظامها الأخلاقي والقيمي والجمالي، وحُكمنا على الأشياء الجميلة أو الخيرة مبنيٌّ على موضوعة الأشياء.
الشك في الحقيقة العلمية وحدود العقل
في بداية القرن العشرين وعصر ما يسمى بالحداثة رُفضت في الأوساط الفلسفية نظريات علم الفيزياء وعلم الطبيعة لعدم ثباتها ويقينيتها، فبُعث التفكير التحليلي، الذي لا يقبل أية نظرية دون إخضاعها إلى منهج تحليلي صارم. ومن هنا درج المنهج الفينومنولوجي القائل بتحليل جوهر الظواهر وماهياتها، ومعرفة الشيء مقتصرة على إظهار ووصف ما هو معطى؛ فالظاهرة “ع” كما هي ظاهرة أمامي أحدد ماهيتها وهي هي حقيقتها. وغدت السمة العامة لهذا القرن سمة التجريد الفكري وتداخل بشكل واضح الفلسفي والسياسي، ونشأت فلسفات الحياة والفلسفات الوجودية وعادت الفلسفات الميتافيزيقية للظهور.
انهار مع ما بعد الحداثة، وهي الفترة الممتدة مع الحداثة وباتجاهات مضادة لها وناقدة، الإيمان بالمطلقات، لعدم وجود ضمان لفاعلية العقل وصدقيّة أحكامه. وغدت المفاهيم نسبية والحقيقة في ذاتها غير متطابقة مع فهمنا، بالتالي تزعزعت الثقة بوجودها لأن الواقع أصبح عصيّاً على الفهم. والعلمُ نفسُه أصبح محدوداً، فهو مجرد أبحاث لا متناهية في تغير ونسبية دائمين. واعترف الفلاسفة بحدود العقل وإمكاناته البسيطة. وأن الإنسان لا يملك إلا قدرات محددة لفهم العالم والقدرة على تغييره أو التحكم به.
المذاهب الفلسفية في ما بعد الحداثة اتسمت بممارسات جمالية لغوية منغمسة في الذات واللغة. ما بعد الحداثة تُوصف بأنها “جمالية”، بوصفها تُعلي مقولة الجمال والجسد والرغبة على العقلانية والفكر، وتَنشد الصيرورة والاختلاف على قوانين الهوية وعدم التناقض. الظاهرة هنا لم تعد شيئاً أصلاً حتى أسميها أو أحدد ماهيتها. أو كما على طريقة الواقعية النقدية يمكن أن أحددها كما أراها فقط، فلا يمكن أبداً فهم الواقع على ما هو عليه، بالتالي انتفت الحقيقة.
فلسفة ما بعد الحداثة حاولت تحويل كل ما هو مبتذل وسطحي وتافه إلى أشياء ذات قيمة أو تدعي أنها تحمل بعداً جمالياً، وهذا التوجه ما هو إلا شكلٌ من أشكال محاولة التغلب على الموت والفناء[7].
نيتشه Nietzsche (ت: 1900) الفيلسوف الألماني (الذي يلمع نجمه هذه الأيام على صفحات الانترنت)، يُعد مؤسس الحداثة بامتياز، من حيث إفراغ العالم من أيّ مفهوم للحقيقة، كونها ليست سوى وجهات نظر متغيرة ونسبية كما يُظهر ذلك تاريخ الفكر الإنساني. وأصبحنا ندرك لماذا عالم دريدا Derrida (ت: 2004) التفكيكي مكوّن من نصوصٍ دائرية مختلطة مما جعل الوصول إلى حقيقة يقينية ثابتة مستحيلاً.
وطالما أن العالم لم يعد موحداً والحقيقة متشظية وكل شيء في سيلان وصيرورة، حل القانون المرتبط بالتغير والنسبي بدل ثبات الأخلاق وتغيرت مفاهيم الخير والشر وشُوهت الفضائل الإنسانية.
من العقلانية إلى الفناء
كان التفلسف طريقةً في التفكير، في كيفية العيش بسعادةٍ، بينما كان الوجه المقابل له في الحقيقة كيفية السيطرة على الإنسان والكون بهدف استقبال الموت إما إلى دار خالدة، انتقال الروح من مكان إلى آخر، أو إلى فناء، بالتالي لا عواقب للموت.
في رحلة العقل الغربي عانى الإنسان سلسلة من الإهانات كما يطلق عليها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricœur (ت: 2005)، والتحليل النفسي عند فرويد Freud(ت: 1939) كان آخر هذه الإهانات الشنيعة؛ الإهانة الكونيّة التي عاقبه بها كوبرنيكوسCopernicus (ت: 1543) في مركزية الشمس ودوران الأرض حولها؛ ثم كانت الإهانة البيولوجية، عندما وضع داروينDarwin (ت: 1882) نهايةً لادعاء الإنسان بأنه كائنٌ مقطوع عن مملكة الحيوان، وأخيراً؛ جاءت الإهانة النفسانية (فرويد)، فالإنسان الذي كان يعلم من قبل بأنه ليس سيّد الكون، ولا سيّد الأحياء، قد اكتشف أنه ليس سيّداً حتى على نفسه[8].
هذه المعاناة لم تكن فلسفية تنظيرية مقتصرة على معاناة حفنة من الفلاسفة مع الواقع، بل إن الفرد (والمجتمع الغربي بشكل عام) عانى من ذوبان وجوده في صيرورة حياتية استهلاكية سريعة الإيقاع نحو العدمية، وتهمشت هويته وضاعت معاني الحياة والغاية السامية الذي يحيا من أجلها، وسط هذا الكم الهائل من التهميش والنبذ والإذلال والفقر والتجهيل لفئةٍ واسعةٍ من المجتمعات، ومع سيطرة كبار النفوذ السياسي والمادي والإعلامي على فرض نمط ونظام حياتي قيِمي محدد على العالم كله[9]، حتى كدنا نسمع المقولة الفلسفية ما بعد الحداثوية “أتمنى أن يكون لموتي معنى وقيمة أكثر مما كانت عليه حياتي”، شائعة على لسان كل فرد وعلى خطى بطل فِلم “Joker” (2019)، الذي انتهت به هذه الحياة المأساوية إلى العنف والانتقام ممن تسببوا في تعاسته وموته سريرياً وهو على قيد الوجود.
إن آراء الفلاسفة ونظرياتهم عن الموت والحياة وعن الكيفية التي مات عليها أولئك أي عن طريقة عيشهم التي أنتجت هذه الفلسفات، تعلمنا أن طريقة الموت التي نموت عليها هي نفسها منهج الحياة الذي ارتضيناه عيشاً لنا، فهو تاريخ يعجّ بمعاركٍ حقيقيةٍ مع الحياة وأخرى دون كيشوتية ربما، إنه تدريب لنا على الموت كما يقول Critchley: “إنه تاريخٌ طويلٌ جداً من البشر الذين واجهوا اللحظات الأخيرة من حياتهم إما بكرامةٍ أو بهذيان؛ بنبلٍ أو بـ ‘تعرق ليلي‘”[10].
أطروحة النهايات والميتات حضرت بقوة في النصف الثاني من القرن العشرين في خطاب الفلاسفة؛ هيدجر Heidegger (ت: 1976) يؤسس مشروعه الفلسفي على نهاية الميتافيزيقا، وبارت Barthes (ت: 1980) يقول بموت المؤلف، وفوكوياما Fukuyama يعلن نهاية التاريخ، وفوكو Foucault (ت: 1984) يقنعنا بموت الإنسان، والمعماريون الناقدون لمدن ما بعد الحداثة يعلنون موت المدن… سلسلة الميتات هذه التي حمل لوائها رجال من تلك الحضارة تُنبئنا بموت الحضارة، الموت الذي صنعوه بأنفسهم أو تنبؤوا به حين فشى فيها الفساد والإفساد في الأرض، والتعدي السافر على حقوق الآخرين واحتلالهم فكرياً وجغرافياً، والتخبط في الركون إلى الأهواء وما تمليه عليه عقولهم، كما أشار ابن خلدون ‑رحمه الله‑ قبل قرون.
الثقافة العالمية الجديدة تضع كل الثقافات الأخرى المختلفة ذات الخصوصية في خانة الهرطقات، كما يعبر بودريار Baudrilard (ت: 2007)، بل إن “وضع النظام العالمي هو نتيجة غَيْرة ضارة؛ غيرة ثقافة لا مبالية وذات مستوى وضيع إزاء الثقافات ذات المستوى الرفيع”[11]، والدليل أن النظام العالمي لا يوفر فرصة يحارب فيها أية ثقافة مغايرة بدعوى نشره لمشاعل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، حتى ولو استخدم القوة والعنف لحمل الشعوب الأخرى على تبني شعاراته. هذا الاتجاه نحو اللاخصوصية الثقافية ونحو تصدير العنف يُبشر بفقدان كل القيم وتلاشيها، وهو نفسه “موتٌ عنيف” لهذه الحضارة على حد تعبير بودريار[12].
ومنذ أن نصبت فلسفة القوى الغربية نفسها الحاكم المطلق/ الإله على الكون وأرادت السيادة على الطبيعة وعلى عالم المستضعفين ظنت أنها بذلك تستبعد مقولة الموت من أفقها بمقولة الخلود. لكن ما هو ملاحظ أنها كلما أنكرت فكرة الموت كلما آذَتْ نفسها، حيث أُسقطت القيم الإنسانية من الإنسان لما أُلحق بعالم الماديات المستهلَكة، ودخل النظام العالمي برجليه دائرة الموت والإفناء، إلى عالم أناني منغلق على ذاته يرفض التنوع والتبادل الثقافي والقيمي مع شعوب الأمم الأخرى ذات المستوى الرفيع من القيم والثقافة، فزعاً من انصهار ثقافته الضحلة وزواله. وما تصريحات السياسيين والإعلاميين والمفكرين الغربيين من الشعوبيين أو اليمنيين أو غيرهم من الفئات الأخرى ضد المهاجرين واللاجئين أو ضد الحجاب الإسلامي إلا شكلاً من أشكال هذا الفزع.
وقد نفهم بهذا السياق كيف لـ”حضارة” نصّبت نفسها النموذج المعرفي الأوحد، عنوانها “حقوق إنسان” زيفاً، والمشتبكة بتقديس العقل وتمجيد الحقيقة العلمية الوضعية كحقيقة مطلقة منفصلة عن القيم والدين، وكل من يخالفها أشهرت الحرب ضده… كيف تصمت أمام المجازر الوحشية ضد المدنيين وتطرش مع صرخات المعتقلين في سجون طغاة بلاد الشرق، وتطلق تحليلاً وضعياً مفاده أن الحرارة التي تحدثها القنابل والقذائف والصواريخ تؤدي إلى “حقيقة” أن الأطفال والنساء والشيوخ يتمددون بالحرارة! وهذه مقولة علمية صرفة ومقبولة، أما الاستجابة لها فهي استجابة لا علمية، كما يعبر عن ذلك المسيري ‑رحمه الله‑ خير تعبير.
كهف الفلاسفة
بتعديل بسيط يمكن تشبيه تاريخ الفلسفة بلوحة “كهف أفلاطون” التي أراد أفلاطون التمثيل بها لإقناع الجمهور بنظريته عن عالم المُثل/ عالم المعقولات والحقائق. في هذا الكهف المظلم قُيدت أيدي وأرجل أناس ووجوههم مقابل الجدار الداخلي للكهف أما ظهورهم فكانت في مقابل واجهة باب الكهف. عند مدخل الكهف هناك نار تعكس الحقائق والظواهر الخارجية على جدار الكهف الداخلي على شكل ظلال وأشباح. لم يعرف السجناء الواقع إلا من خلال ما ينعكس على الجدار . وبينما يتناوب الواحد تلو الآخر الخروج من الكهف ليُبصر الواقع والموجودات عينياً ويختبر حواسه من خلال النور خارج الكهف، يظل قومه مشدوهين للجدار متأملين الظلال ظناً أنها حقائق الأشياء. وعندما يعود أحدهم ممن أبصروا النور الخارجي ليُحدّث أهل الكهف عن الوهم الذي استحكم بهم، وأنهم لم يعرفوا ولا نالوا سعادة اكتشاف الوجود على حقيقته، صدّقه وتبعه البعض ورفضه البعض الآخر وخالفه، ثم يخرج آخر ويعاين الواقع ليخبر الآخرين فيُتّبع أو يُنقد ويُنبذ…
لا الذين في الكهف عرفوا الحقيقة ووصلوا لنور الحق، ولا أولئك الذين خرجوا من عالم الأوهام والظلال وأعلوا من قيمة الحواس والتجربة والعقل مصادر معرفية وأدوات للسيطرة على الطبيعة، بلغوا جزءاً من مداد كلمات ربي،
{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109].
فلنتأمل لِمَ الفلسفة؟
وإنَّ من الحكمة الفلسفية التنبه أن ما يجب عليه أن يكون موتنا يتأتى من خياراتنا ومقصِد وجودنا في هذا الكون.
[1] How To Be A Philosopher, philosophizes about philosophizing.
[2] Philosophy as a vocation, the philosopher, vol. 107, no. 1, winter 2019.
[3]
أليس الصبح بقريب، التعليم العربي الإسلامي، دراسة تاريخية وآراء إصلاحية، القاهرة: دار السلام، ط1، 2006، ص 150- 151
[4] تتبع تاريخ الأفكار الفلسفية من كتاب برتراند رَسل، حكمة الغرب ( 1، 2)، عالم المعرفة، 1983. ورسل Russell (ت: 1970) نفسه كان أفلاطونياً وعدّ منهج الفلسفة استنباطياً ثم تحول إلى الوضعية ذات المنهج التجريبي. كذلك يُنصح بكتاب: الفلسفة المعاصرة في أوربا، إ. م. بوشنسكي، ترجمة: عزت قرني، عالم المعرفة، 1992.
[5] وهي كما شرحها الجرجاني في الشعر التالي: “قمرٌ غزيرُ الحُسنِ ألطف مِصرُه * لو قام يكشف غُمَّتي لمَّا انثنى”، القمر: للجوهر. الغزير: للكم. الحسن: للكيف. ألطف: للإضافة. مصره: للأين. قام: للوضع. يكشف: للفعل. غمتي: للملك. لما: للمتى. انثنى: للانفعال. كتاب التعريفات.
[6] مما يُشكّك في مقولة استقلال العقل وعدّه مصدراً مطلقاً للمعرفة يؤدي بنا دوماً إلى الحقيقة بمعزل عن أية مصادر معرفية أخرى.
بدر الدين مصطفى، دروب ما بعد الحداثة، مؤسسة هنداوي، ص 224، (عن جان بودريار في كتابه مؤامرة الفن).[7]
صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، ت: منذر عياشي، م: جورج زيناتي، بيروت: دار الكتاب الجديد، 2005، ص 195.[8]
[9] ويحضرني هنا مقولة فِلمFahrenheit 451 “وراء كل كتاب وفكر ما هناك إنسان أو مجموعة من البشر”، الذي جاء ربما كانعكاس نقدي لثقافة الحداثة وما بعدها ضد الرأسمالية المعولمة الساعية بخطى حثيثة للقضاء على الثقافات المتنوعة وإعلان موت الإنسان حينما أرادت تنميطه في قوالب خاصة صممها النظام العولمي الحاكم. تعرفت على الفِلم من خلال إشارة الفيلسوف روجيه غارودي إليه في كتابه “البنيوية فلسفة موت الإنسان”، ت: جورج طرابيشي، بيروت: دار الطليعة، 1979، ص11.
[10] Simon Critchley, The book of Dead Philosophers, New York: Vintage books, 2009, Introduction.
يذكر على سبيل المثال أن أرسطو فيلسوف العقل واضع علم المنطق انتحر بتناول نبات سام. وبيكون Bacon (ت: 1626) مؤسس العلم التجريبي مات وهو يجرب تأثير التجميد على الدجاج. وديكارت Descartes (ت: 1650) الشكّاك مات متأثراً بمرضه ذات الرئة بعدما تأثر بصقيع صباحات السويد حينما طلبت منه الملكة كريستينا تدريسها الفلسفة في الخامسة صباحاً. ونيتشه فيلسوف إرادة القوة مات نصف مجنون. وألتوسير (ت: 1990) المنظّر الماركسي بميول بنيوية توفي في سجن باريس (أو مصح عقلي) لقتله زوجته خنقاً. ودولوز (ت: 1995) الفرنسي صاحب نظرية الإبداع الفلسفي مات منتحراً ملقياً نفسه من نافذة شقته في باريس للتخلص من آلام مرض انتفاخ الرئة…
[11] جان بودريار، روح الإرهاب، ترجمة: بدر الدين عمر زكي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة، 2020، ص 77.
[12] روح الإرهاب، ص 71. تأمل مثلاً الأبحاث العلمية وما يُصرف عليها من مبالغ خيالية كيف تدور كلها حول فرض نفوذ وسلطة القوي على الضعيف من أجل البقاء والخلود، وهماً، في فرض الاحتلال الثقافي والمد في عمره إما بالمال (شراء العقول والنفوس) أو بالعنف وتجارة الأسلحة.