في “لسان العرب” لابن منظور تأتي لفظة “هَزَلَ، يَهْزِلُ” بمعنى: يلهو، يلعب، يضحك ويعبث. والهَزْل: الكلام غير المعقول الذي يغلب فيه التمني والمبالغة ومخالفة المألوف والمتوقع، والذي ينكره الآخر فيضحك من تناقضه وغرابته، وهو كل كلام لا تحصيل له، أو هو الذي لا يُراد باللفظ معناه، لا الحقيقي ولا المجازي، كما عند الجرجاني في “التعريفات”. واستعمل الأَخفش “المَهْزول” في الشعر فقال: “الرَّمَل كل شِعر مَهْزُول ليس بمؤتلف البناء”.

الهزل ضد الجدّ. يُقال: “جَدَّ الرجُل في عَينِي” أي: عَظُم. وهَزَل الرجلُ في الأمرإِذا لم يجدَّ. وكل ضُرٍّ هُزال، والهَزْل: الفَقْر، سواء المادي أم المعنوي. والمَهْزَلَة كناية عن السُّخرية والاحتقار.

وفي القرآن الكريم: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14-15] أي: ليس بِهَذَيان، ولا هو باللَّعِب.

أما في الحديث الشريف: “كان تحت الهَيْزَلةِ”؛ قيل: هي الرَّايةُ لأَن الريحَ تَلْعَب بها كأَنها تَهْزِل معها.

والخلاصة أن الهَزْل واللَّعب من وادٍ واحد أي الاضطراب والخفة والفقر، والجدّ من وادي الرزانة والتماسك والغنى.

الجاحظ (776- 868م) وهو أول أديب عربي ساخر كتب رسالة “في فلسفة الجد والهزل” الغالب عليها أسلوب التهكم والهزل، بيد أنها تحمل وراءها رسائلاً وحكماً وإشارات لا تخلو من الجد الموجه للوزراء والملوك في كيفية إدارة الدولة أخلاقياً وسياسياً. هذا الأسلوب مثّل نموذجاً لكتابات الأدباء المتقدمين الساخرين.

في الكتابات الحديثة والمعاصرة غالباً ما يتم تناول الهزل بوصفه رديفاً للمزح والضحك والترويح عن النفس للهروب من واقع محمل بالآلام والانتكاسات على الصعد كافة. وقد عبّر محمد كرد علي (1876- 1950م) في وصف مصر عن هذا المعنى في قوله: “وفيها الهزل في غاية الإتقان” في مقالته “هزل مصر والشام” التي نُشرت في مذكراته، يصف فيها حال النخبة الفكرية عند انصرافهم إلى جلسات الترويح والخوض في لهو الحديث على حد تعبيره.

هنري برغسون الفيلسوف الفرنسي (1859- 1941م) صاحب كتاب “الضحك” يحلل ظاهرة الهزل في المسرحيات الكوميدية والتراجيدية ويقدم فلسفة للهزل المحيط بالإنسان، حيث يُرجع الضحك ‑الفعل المنعكس عن الهزل‑ إلى معنىً ومدلولٍ اجتماعي. فالهزل يعبر عن نوعٍ من اللاتكيف في الشخص تجاه المجتمع المحيط به. وتُعد بيئة الهزل الطبيعية خُلق “اللامبالاة” مع ما تحمله هذه اللفظة من أبعادٍ نفسية واجتماعية وخُلقية؛ اللامبالاة والتبلد الشعوري والسلوكي تجاه الحياة وحوادثها. يقول: “الهزل يقتضي لكي يُحدث كلَّ أثره، شيئاً ما يشبه التخدير المؤقت للقلب، ويتوجه إلى الذكاء الخالص”. فكل ما ارتبط بالقلب من وجدان وضمير وقيم وأخلاق، تتخدر ويُصيبها الشلل، والذكاء وحده بمعنى “الدهاء” آلة الهزل.

ويستطرد في التحليل بقوله إن الهزل أيضاً يتجلى في طغيان الشكل على العمق، وفيه الحرف يخاصم الفكر والوعي ويعاندهما. ولتقريب الفكرة فإن الهزل هنا على سبيل المثال يحمي القاضي والسياسي وعلماء السلاطين وأكاديميه للدفاع عن أشخاص في حضرة قدسية المهنة. أما ما هو جوهر وقيمة كالعدالة والحق والقوة والعزة فهي أشياءٌ ثانوية، إنها أمورٌ شكلية. وكأن الأساس هو وجود سياسيين وعلماء وقضاة… من حولنا حتى ولو كان وجودهم شكلياً فقط لتجسيد هذه المهن؛ أيّ “أن تكون الأشياء الخارجية في المهنة محترمة بدقة. وهكذا حلّت الوسيلة على الغاية، ولم تعد المهنة تُصنع من أجل الجمهور بل الجمهور من أجل المهنة”. فالمهم هنا أن تكون المهن محققة وفق الأصول. والأصول التي يقصد بها برغسون هي الالتزام بالشكل والقوانين أو القواعد الإجرائية المفروضة على الناس.

من هذا الباب نقول إنه حتى الموت بات محققاً وفق الأصول أي وفق مواثيق القوانين الدولية المنحازة لشعوب والمهملة الهازئة بشعوب أخرى؛ موت بالقصف، بالبراميل، بالأسلحة المُراد تجريبها، وبأساليب التعذيب في المعتقلات، وموت ببلاد الشتات والتهجير… كلها أشكال لموتٍ وفق الأصول. أما ذاك الموت بالأسلحة الكيماوية أو النووية أو ما يحلو للمجتمعات الدولية الوقوف عليه فهو محرمٌ، وإن كانت المواقف ‑في بعض الأحيان‑ لا تتجاوز مجرد بيانات لمنظمات حقوق الإنسان أو خطب سياسية وتواقيع مناهضة. فالموتُ وفق الأصول أفضل من النجاة مع مخالفة الأصول كما يقول برغسون، ومهما حصل فإن “الإنسان الميت ليس إلا إنساناً ميتاً، ولكن الأصول المهملة تُضر ضرراً أكيداً بكل الجسم الطبي”.

في السياق نفسه، سياق جدلية الشكل والجوهر، نستحضر ظاهرة عالمية تدّعي الحياد، ونتساءل أيُّ هزل ندور معه حين يهلل جماهير التواصل الاجتماعي ويبارك لنيل أحدهم جائزة نوبل للسلام مع الظهور بكامل التزامهم من أجل الحفاظ على شكل هذه الجائزة دون الالتفات إلى عمقها؟ هي المفارقة الهزلية التي لا تفتأ تذكرنا بأن البشر يستطيعون ارتكاب الشر وتخليده خيّراً وجميلاً حتى ولو كان خلوداً شكلياً. “إنني أَغفر لنوبل أنه اخترع الديناميت لكنني لا أغفر له أنه اخترع جائزة نوبل”، هذا ما قاله برنارد شو عندما رفض الجائزة عام 1925.

ربما خاف نوبل أن يُلطخ اسمه بصانع الحروب فاخترع هزلية “نوبل للسلام”، لكن ما عملَ البشر من بعده عملهم الأبديّ، يشعلون الحروب ليجربوا أسلحتهم وينشطون تجارتها ويقتلون ويعيثون في الأرض زهواً وفساداً ثم وبخفة أياديهم الهزيلة يحلو لهم اختيار من يستحق “جائزة السلام”! هي قصة هزلية من بين قصص طوال تضعنا وجهاً لوجه أمام الواقع الهزلي للحياة السياسية في المنظومة العالمية.

وما يسمى بعيد المرأة العالمي منا ببعيد، فبأية امرأة يحتفلون؟ وكيف نحتفل معهم بيوم المرأة وهي لازالت في القرن الحادي والعشرين تُستخدم كأداة للحرب للنيل من كرامة أنوثتها وشرف إنسانيتها، وهي المفجوعة في زوجها وولدها وأخيها وأبيها والقابعة في سجون الطواغيت، وهم يتفرجون. وهي المُستهلكة والمُستعبدة من منظومة قيم أبعد ما تكون حافظة لأنوثتها وحامية لإنسانيتها! أم أن المهم الاحتفال بيومٍ للتذكير بالمرأة وننساها أو نغض الطرف عن حقوقها باقي الأيام، ما لكم كيف تحكمون.

نعود لكتاب “الضحك”، فإذا كانت غاية الكتاب إثبات أن للضحك والهزل وظيفة اجتماعية ما، وأنه “شيءٌ من التآمر/ التواطؤ الخفيف، وشيءٌ من الاعتدائية الخاصة على الحياة الاجتماعية”؛ فربما يحق لنا القول في هذا المعنى إننا حتى بهزلنا لا نهزل على طريقة الهزل البرغسوني، أي لا نسمو بهزلنا نحو مجتمعنا تأثراً وانعكاساً، فالمجتمع لا يردّ على ذلك الهزل “بحركة تبدو وكأنها ردّ فعل دفاعية تخيف قليلاً، حتى ولو بدا أن المجتمع مجبرٌ على التظاهر”. بل لا يعدو هزلنا إلا لهو الأحاديث وخوض في المجالس ولعبها. وربما مواقع التواصل الاجتماعي وما يُتداول فيها للقضايا المصيرية في أمتنا خير انعكاس لهذا اللهو. وإن شئتم القول فإنها تخاييل كاذبة منافقة؛ كالمشعوذ تماماً الذي يتحايل بحركات هُزَيْلى، كلها هَزْل في هزل لا جِدَّ فيها ولا انعكاس سمو، وتنتهي بانقضاء العرض وذهاب الموقف. وللرافعي عبارة بليغة تصف الهزل الممارس اجتماعياً وسياسياً في مجتمعاتنا، فهو: “الذي يمارسه اليوم أغلبنا في تهوين كل ما هو صعب بأن نختصر هذا الصعب، فإذا هزؤوا بالعدو في كلمة فكأنما هزموه في معركة… فاللهو واللعب والهزل قد خفّ بنا حتى ثقلت علينا حياة الجد”.

فأيّ هزل كهزلنا ونحن الذين خبرنا سياسات الاستعماريين ووكلائهم مائة عام ونيف، ولقينا من كذبِهم ووحشيتهم وتكالبهم على مصالحهم ما لا يغفل عن آثارها إلاَّ المغفلون الغافلون؟

وها هو الهزل في أبرز صوره المقيتة تجسدت في احتفال قادة العالم “الكبار” في باريس منذ شهور بمئوية انتهاء الحرب العالمية الأولى ولما ينهوها في بلادنا بعد، بلادنا التي لازالت منذ انتهاء حروبهم على أراضيهم في خضم حروبهم الاستعمارية والاحتلالية بالأصل وبالوكالة على أرضنا وعواصف التمزق والتفرق والتجهيل لم تستثن نفساً ولا حجراً بسببها.

سُئل رجل لماذا لا يبكي عند سماع موعظة يبكي فيها الناس؟ فقال: “لستُ من هذه الأبرشية”. لا بد أن نكون من الأبرشية نفسها حتى تتألم المجتمعات الأخرى على هزل مجتمعاتنا!

وأيّ هزل من عدم أخذنا للطغاة وعلمائهم وأسيادهم عقوداً على محمل الجدّ! كل ما كان من مظاهر الحياة التي خبرناها وانعكاساتها على حياتنا اليومية من إذلال واستكانة وظلم وتجهيل ليست إلا الجد في معناه العميق لا هزل فيها، بينما لم نقابلها إلا بالهزل والتهكم.

وها هو يحكم حلقاته من جديد على مشاهد حياتنا وقد انصرف كلٌ منا إلى تفاصيل شؤونه الخاصة، دافناً وراءه ثمان سنين من ثورات وتضحيات ودماء معللاً إما بضعفه أو بلامبالاته أو بتبنيه الشعار “لم يكن في الإمكان أفضل مما كان”!

أرَانَا على حُبِّ الحَياةِ وطُولِها * يُجَدُّ بِنا في كلِّ يَومٍ وَنهزِل (الكميت بن زيد)

الهزل في ميزان الإسلام

إن شئنا الوقوف على دلالة الهزل في ميزان الإسلام، وجدنا أن هناك تلازماً بين الكذب والهزل. الهزل فيه نوع من تزييف الحقيقة والتمادي في التخيل حدّ الكذب، وكل كاذب هازل، “إن شر الروايا روايا الكذب، ولا يصلح من الكذب جد ولا هزل…”، كما جاء في رواية عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حتى المزاح والدعابة واللهو لا تكون إلا بالحق والجد اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، عنأبي هريرة قال:قالوا: “يا رسول الله إنك تداعبنا”، قال:“إني لا أقول إلا حقاً” (سنن الترمذي 1990 وأحمد 8366). وأمة لا تتحرى الصدق والجد في كلامها وأفعالها ومواقفها وإن كان في سياق اللهو، لن تخرج من دائرة الهزل.

في القرآن المجيد قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ*وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ *إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا*وَأَكِيدُ كَيْدًا *فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 11-17]، انظر أين أتى سياق آية وصف القرآن “وما هو بالهزل”، بين قسم بالسماء والأرض، وبين كيد الله سبحانه يوم الحق والجد للكافرين الذين لم يتوانوا عن كيدهم سعياً لإطفاء دين الله.

إن القرآن الحكيم كله جدٌّ وحق. وخلق الكون لم يكن بالعبث ولا باللهو {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 16-17]، السماء والأرض وما بينهما خلقهم الله تعالى على حق وجد لا على باطل وهزل، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27] أترانا نلمح في الكون شيئاً من الهزل واللعب؟ ألا نتدبر ماذا أراد الله جلّ وعلا من هذه الآيات في الآفاق؟

وكذا في خلق الإنسان لا هزل فيه ولا لهو، قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].الكَبَد مصطلح لم يرد في القرآن سوى مرة واحدة، ومن بين الروايات عن معنى هذه الآية أن الإنسان “يكابد الشكر على السَّرَّاء، والصبر على الضَّرَّاء، لأنه لا يخلو من أحدهما، ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة”، وهو ما اختاره ابن جرير الطبري أي: لقد خلقنا ابن آدم في شدة ونصب وعناء من مكابدة الدنيا وأهوال الأخرى.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، أيّ: إنك أيها الإنسان جاهدٌ جهاداً شديداً في عملك إلى لقاء ربك يوم الحساب، والكدح فيه من المشقة والتعب والنصب ما يعبر عن ماهية الحياة الدنيا التي كُلفنا للسعي فيها حتى نقيم دين القيمة ليس إلا.

المؤمن هو الذي يعيش في حذر ويقظة من أن يحيد عن جادة الحق، أما الذي يعيش حياة غفلة وتغافل يملأه الغرور والاعتداد بنفسه وطول الأمل كأنه خالد مخلد، ما هو إلا إنسان هازل بامتياز. {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ *مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 1-2].

وقيل إن الإمام أَبو حنيفة رحمه الله استعمل الهَزْل في الجَراد فقال: “يجيء في الشتاء أَحمر هَزْلاً لا يَدَع رطْباً ولا يابساً إِلاَّ أَكله”؛ وما أبلغه من وصفٍ للجراد حين أتانا هزلاً لم يدع لنا رطباً ولا يابساً. ففي أيّ هزل هزليّ نحن خائضون وبأي طول الأمل مستمسكون!

فالرسالة التي أوكلها الله سبحانه للإنسان في هذا الكون أبتْ السماوات والأرض والجبال حملها. إقامة دين الله تعالى وتوحيده والاستخلاف في الأرض يشي بضخامة هذه الرسالة التي لا تشوبها أية ذرة من اللهو والهزل والتراخي والفتور، بل والجدية كلها في حفظ الأمانات وأدائها على تمامها سواء في حق الله أم في حقوق العباد، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

وقد جاء في الصحيح ما رواه أحمد في “المسند” (رقم 12215)، من حديث أنس رضي الله عنه قال: “وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، جَدَّ فِينَا”. وفي لفظ ابن حبان في “صحيحه” (رقم 744): “عُدَّ فِينَا ذَا شَأْن”.قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن عثمان ابن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلموا القرآن والعلم والعمل. (فتاوى ابن تيمية/ 13).

تعلم القرآن وفهمه يحوّل المسلم إلى مصحف شريف متحرك، حافظ، فاهم، عامل بجد وعزة وقوة كقوة وحزم خطاب القرآن للإنسان. حتى الأمثال والقصص القرآنية ما كانت للفكاهة والتندر والتهكم إنما هي عبرٌ وحكمٌ ودعوةٌ لأخذها على محمل التفكر والتأمل الجادين، وهذا ما كان عليه نهج الأنبياء جميعاً، قال الله تعالى مخاطباً يحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة} [مريم: 12] أي: تعلم الكتاب بجدّ وحرص واجتهاد.

نحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، إلى قتل الهزل لنُحيي العزة والصرامة فينا ونبعث الجدّ والاجتهاد في أمور حياتنا، وعلى قدر عظمة هذا الكون المخلوق على قدر عظم وظيفة الإنسان؛ القادر وحده على حمل هذه الرسالة الجادة ومن كان من أولي الألباب/العقلاء الذين يأخذون الوجود على محمل الجد والحكمة والرشد. نحتاج إلى قلوب حيّة يقظة لا تتسرب الغفلة والتغافل إليها، تستشعر كل لحظة نفوذ الشيطان وتزيينه الذي أقسم على غواية البشر أجمعين {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82-83]. فالغفلة واللعب صفة الكافرين {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور: 12]. ما عند الله جدّ واجتهاد وعمل وما الحياة الدنيا وما فيها إلا لعب ولهو للخائضين الهازلين.

قال تعالى: {قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]. “آيات الله” في الآية الكريمة تشمل كل ما يتجلى في الكون والأنفس التي يكفر بها المنافقون والكافرون والمستهزئون، ويعملون على صرفها عن جوهر وجودها وقوامها في إقامة دين الله وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له سواء أكان الشريك نفوذاً سياسياً وسلطوياً تتكالب عليه النفوس الطاغوتية ومن لف حولهم، أم كان مالاً حراماً واغتصاباً لحقوق المستضعفين في جنوب الأرض وأقاصيها، أم تبنياً لأنماط سلوكية وحياتية مخالفة لديننا بعيدة عن مقاصده، أم كان تفريطاً وتهزيلاً في إعمار الأرض على أسس العدل والكرامة.

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *