في الملاحظات الإحدى عشرة لعلماني سوري (11 ملاحظة لعلماني سوري على الإسلاميين) التي جاءت في الورقة المخصصة لندوة “الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين في سورية” نظمه مركز جسور (17-18/ مايو 2017) يظهر جلياً الخلل في مفهوم الحوار عند العلماني السوري أو لنقل سوء فهم إن أحسنا الظن- لماهية الحوار المجرد بشكل عام، وهو هنا حوار بين إسلاميين وعلمانيين.

فبدلاً من أن يطرح تصوراً فكرياً سياسياً من منظوره العلماني للحوار كلقاء إعلان نوايا ومبادئ، تصوراً يبحث عن أرضية مشتركة يمكن البناء عليها أو إيجاد نقاط تقاطع يمكن تقريب وجهات النظر من خلالها، راح ينقد التيار الإسلامي من أقصى يمينه إلى أقصى يساره بأدوات علمانية ويشترط اشتراطات ويطلق اتهامات ليس الغرض منها بدء حوار بقدر ما هي إلغاء مبادئ الآخر الإسلامي، وكيْل التهم له (كثير منها مغلوطة ومضخمة ومؤدلجة) تمهيداً لتصويب المسار الإسلامي على الجملة، وقولبته ضمن قالب يناسب العلمانية التي يشتهيها العلماني السوري قبل البدء بالحوار!
فإن كان العلماني يعطي لنفسه الحق كعلماني أن يُفصّل مبادئ محاوره الإسلامي على قياسه هو، فليس أقل من أن يكون للإسلامي الحق نفسه مع محاوره العلماني، فيقول له مثلاً يجب عليك التخلي عن مبدأ “فصل الدين عن الدولة”، وبعدها “لا ينبغي أن يحول حائل بين حزب أو أحزاب علمانية وبين العمل السياسي إن كانت تقبل بميثاق وطني (لا) يفصل بين الدين والسيادة”. (منقول بتصرف من 11 ملاحظة لعلماني سوري).

11 استدراك لإسلامي سوري على 11 ملاحظة لعلماني سوري:
1. إن الحديث عن أنواع العلمانية ما بين حسن وقبيح صريح ومقنع لا يخرج عن التنظير في المؤتمرات والجلسات العامة التي تسودها عادة المجاملات…
ونحن نتفق مع العلماني بوجود فرق ونحل ومذاهب وفصائل مختلفة متناقضة متعارضة للعلمانية. وعليه نسأله ما هو الخيط الرفيع والحد الفاصل الذي يميز خبيث العلمانية التسلطية عن طيب العلمانية التحررية في حال تسمت العلمانية أية علمانية كانت هرم السلطة؟ خصوصاً أنه وباعترافه يقر أن العلمانية متغيرة مع الزمن ولا يمكن اشتقاق مواقف للمنسوبين إليها من عنوانها المجرد، إذ قال: “ليس العلمانيون ولا الإسلاميون مجموعتين متجانستين. في داخلهما تباينات وخصومات، وكل منهما يتغير مع الزمن، ولا تُشتق مواقف أي منسوبين إلى هذه أو تلك من العنوان العلماني أو الإسلامي”. إن باعثنا على التساؤل هو تجربتنا القريبة والبعيدة مع العلمانية التي لا تؤكد إلا على وعود في الحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية في مرحلة النضال ثم استبداد وسجون ومجازر ومنافي بعد الوصول إلى الحكم، البعث بشقيه العراقي والسوري مثالاً، عبدالناصر والقذافي وهواري بومدين مثال آخر. وهكذا نجد أن المأخذ نفسه الذي يأخذه العلمانيون على الإسلاميين من أنهم إذا ما وصلوا إلى السلطة استبدوا بها يؤخذ عليهم.

2. مازال العلمانيون العرب يتخبطون في التوافق على تعريف موحد لمبدأهم العلماني الذي تنبني عليه إيديولوجيتهم، فهل العلمانية هي فصل الدين عن الدولة أم السياسة أم السلطة أم التشريع أم الجيش أم ماذا؟… {كل حزب بما لديهم فرحون}. نحن كمسلمين نتفهم هذا التخبط المفاهيمي عند العلمانيين العرب حيث إننا واضحون وصادقون مع أنفسنا أكثر منهم في تعريف العلمانية كما عرفها مبتدعوها الأصليين؛ ألا وهي”فصل الدين عن الدولة”، ونحن أيضاً كمسلمين نعرف باليقين أن الدين المقصود في حالتنا ليسا اليهودية أو المسيحية بكل تأكيد, بل هو الإسلام تحديداً, ولأن الإسلام هو العامل الأوحد في تكوين شخصية شعبنا السوري دينياً وسياسياً وتاريخياً وثقافياً، هذه المسلمة التي لا يختلف عليها اثنان، وضعت العلمانيين العرب في مأزق من طرح شعارهم على حقيقته فصل الإسلام عن الدولة، فراحوا يستولدون تعاريف ومصطلحات، ويبنون على تعاريفهم فلسفات لا يحل طلاسمها حتى فيما بينهم. وهو ما يظهر جلياً في التعريف الهجين الذي أتى به العلماني السوري للعلمانية “فصل الدين عن السيادة”.
في هذا التعريف لا يرسم العلماني مساراً عاماً للسياسة والتشريع والعسكرة والأمن بمعزل عن الإسلام فحسب، بل يتعداها إلى وضع خريطة طريق لما أسماها السلطة الدينية (غير الموجودة في الإسلام) على شكل سلطة مجزوءة وطوعية وغير مكره عليها على من يرتضونها من المؤمنين.
وهذا هو شكل ما أسماه ميثاقاً وطنياً الذي يفصل الدين عن السيادة، والذي لابد للإسلاميين من قبوله حتى لا يحول حائل بينهم وبين العمل السياسي. نعم قد يقبل الإسلاميون بمبدأ العلماني السوري كميثاق وطني يفصل الإسلام عن السيادة في حال حقق شرطي الميثاقية التي تعني التوافق، والوطنية التي تعني الإجماع، وإلى أن يتم هذا الأمر نأمل أن لا يستجد لديه أو لدى غيره تعريف جديد للعلمانية فنعود جميعاً إلى نقطة البداية لا أرضاً قطعنا ولا ظهراً أبقينا.

3. يحاول العلماني السوري التمويه والتشويش على أهل السنة وتقزيم حجمهم السكاني وتأثيرهم الثقافي وتجذرهم التاريخي، باعتبارهم كتلة غير مُسيّسة وغير منسجمة وذات اتجاهات وأطياف متعددة ليخلص إلى نتيجة أن أهل السنة طائفة كبيرة بين مجموعة طوائف أقل حجماً وأنهم ليسوا الأمة! نحيطه علماً أن السنة ليسوا مجرد كتلة سكانية كبيرة في البلد وليسوا طائفة، وأن السنة أمة. هذا ما يقوله التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع. وكون السنة غير مسيسين أو مؤدلجين في نمط سياسي موحد لا يعني تجزئتهم كما يموه, بل هو يعلم تماماً أن من طبيعة الأكثرية أية أكثرية أن تكون ذات اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة أو حيادية في كتلتها الأكبر! ولكنها مع ذلك تبقى أكثرية تشكل السمة العامة للفضاء الجغرافي الممتدة فيه ثقافياً وتاريخياً. أما التقوقع والاستقطاب والاتجاه الواحد فلا يكون إلا للأقليات التي لا تفتأ تضخم حجمها ومطالبها ومظلوميتها على حساب الأكثرية، وهذا أمر مفهوم بالنسبة لنا كإسلاميين، أما الأحجية التي لم نستطع فك لغزها فتكمن في اتهامه الإسلاميين واختراعه لهم أسماءً جديدة كـ”الإسلامية الحربية” وأنهم على قطيعة مع تنظيمات العالم المعاصر وعلومه الإنسانية، هذا العلماني الذي يجب بالضرورة أن يكون تنويرياً عابراً للطوائف والإثنيات يصطف وجماعته مع أشد الطوائف الدينية انغلاقاً وانعزالية كالدروز والإسماعيلية والعلوية في حديثه عن حقوق الأقليات ونية الإسلاميين اجتثاثهم. وكان الأجدر به أن يصنف نفسه مع حزب سياسي أو اتجاه فكري بدل الاصطفاف مع طائفة دينية أو عرقية، وهو العلماني المحايد تجاه جميع الأديان كما يقدم نفسه.
أما بالعودة لقضية مَن يجتث مَن فنحن كإسلاميين سوريين نطالب العلمانيين السوريين بتقديم ضمانات كافية أن لا يقوموا بانقلاب على السلطة أو في أحسن الأحوال أن لا يقفوا متواطئين متفرجين مع الانقلابيين في حال وصل إسلامي إلى سدة الحكم من خلال صناديق الاقتراع، فقد تعلمنا كإسلاميين من تجربة مصر والجزائر الشيء الكثير، والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين.

4. إن من أكبر المفارقات في التفكير السياسي، بشكل عام والعلماني بشكل خاص، هو اتهام الإسلاميين أنهم لا يقبلون المساواة الحقوقية والسياسية. إذ من غير المعقول ولا العادل أن يتغافل العلماني السوري عن تجربة الإخوان المسلمين في مصر التي لازلنا نعيش آثارها اليوم وقبلها التجربة الجزائرية، حيث قبل الإسلاميون بشروط اللعبة الديمقراطية والدولة العميقة “العلمانية” فوصلوا للحكم عبر صناديق الاقتراع في عملية ديمقراطية حقيقية شهد بها القريب والبعيد. فكانت فترة الرئيس محمد مرسي الإخواني فترة ذهبية سُمح فيها لجميع الأطياف السياسية والفكرية والإعلامية في مصر بممارسة نشاطاتهم بكل أريحية وحرية وبحماية الدولة وبشكل متساو للجميع, فماذا كانت النتيجة؟ عملت الأبواق الليبرالية والعلمانية على تهييج الجماهير ضد الرئيس مرسي، ممهدة الرأي العام لقبول انقلاب 30 حزيران/ يونيو، انقلاب السيسي، فأصبح الإسلاميون تحديداً وهم فقط ما بين قتيل وسجين ومنفي… وأُغلقت جميع قنواتهم الإعلامية. لقد جانب العلماني الصواب والموضوعية في اتهامه للإسلاميين بعدم قبول المساواة الحقوقية والسياسية وادعائه أن ما يريدونه أن تكون “السلطة لهم”، أو الحصول على أفضلية كبيرة سياسية ورمزية وحقوقية في السلطة العامة والمجال العام، وجانبه مرة أخرى إذ ادعى أن الإسلاميين لا يعدون الآخر إلا أن يكونوا في “ذمتـهم”، وأنهم لا يحترمون ألم غيرهم، فتجربة مصر المذكورة أعلاه أكبر دليل على قبول الإسلاميين بجميع أطياف الآخر المغاير وإفساح العمل لهم في المجال العام، في حين أن العلماني لا ينكر أن الخصم الرئيس للإسلاميين إن لم يكن الأوحد هم العلمانيون الذين يتربعون على كراسي الحكم في الدول الوطنية العربية منذ مرحلة الاستقلال إلى اليوم، فهل أعطوا للإسلاميين من الحقوق والمساواة والسلطة عُشر ما يطالب به العلماني الإسلاميين إعطاءه لخصومهم السياسيين؟

5. لازال العلماني السوري يمارس أسلوب التقرير والاشتراط المسبق والحكم على الآخر من منظوره هو لا من زاوية متجردة، فيطلق تقريرات نهائية من نوع أن الدولة الحديثة ليس لها دين، وضمناً يقرر أن الدولة الدينية تُكره الناس على دين معين وتمنعهم من ترك دين آخر، ويدعي أن تقريراته تلك منطقية ومفهومة وللمفارقة- غير مؤدلجة. ونحن بدورنا كإسلاميين ننصحه بأن ينأى بنفسه عن أسلوب طرح المفاهيم والتعريفات وكأنها مسلمات نهائية متوافق عليها من الجميع، فإن الحوار بين الخصوم يكون بصيغة مقاربات وتوافقات, لا بطريقة الفرض من فوق! فإن كان لابد من الاشتراط والتقرير المسبق على الآخر فإننا ننصح كل العلمانيين، سوريين وغير سوريين، أن يسلموا بحقيقة أوضح من الشمس في كبد النهار فيريحوا ويستريحوا: أن الإسلام الذي يريدون فصله عن الدولة أو السياسة أو السيادة أو أية دينامية جمعية تفاعلية هو المكون الأوحد لشخصية العربي والمسلم بشكل عام، وليس غيره من الإيديولوجيات الوافدة أو الطارئة أو الأقلوية أو النخبوية، لكن ماذا نفعل كإسلاميين إن كانت هذه المسلمة التي يغفل عنها العلمانيون قصداً أو سهواً تلزمهم من تقريرها الحسي والمنطقي والمفاهيمي نسف إيديولوجيتهم من أساسها.

6. على العلماني السوري أن يكف عن أسلوب التصيد بالإسلام وبالمسلمين كجماعة دينية متعددة الأعراق والثقافات ذات تأثير تاريخي وسياسي عالمي وتُقدر بمليار ونصف نسمة، ولابد للعلمانيين بشكل عام من الابتعاد عن تمييز أنفسهم بخطاب نخبوي مستعلٍ إقصائي، والذي ليس الغرض منه الاحتجاج على الظلم والاستبعاد وطلب العدالة بقدر ما هو خطاب يعطي العلمانيين شعوراً بالفوقية والنرجسية، فإن من لا يحترم معتقدات الآخرين لا يحترم الآخرون فلسفته. وننصحه بأن أسلوب استحضار داعش وحقوق المرأة لممارسة الإرهاب الفكري على الآخر الإسلامي بهذا الإسفاف أسلوب مكشوف ولا يليق به كمثقف.

7. نقدر تماماً الحالة الإنسانية لرجل اُختطفت زوجه وأصدقاؤه، لكن نأخذ على المثقف العلماني أن يختزل قضية الهيئات الشرعية بمشكلته الشخصية، وأن يشبه الهيئات الشرعية تشبيهاً بعيداً كل البعد عن الموضوعية والأمانة في النقل بالأجهزة الأمنية لنظام الأسد في مقاربة غاية في الإجحاف والتشفي، فالباعث الوحيد على مثل هذه المقاربة هو معاناة شخصية أكثر منها قضية ثورية عامة. نعم هناك اعتراضات على الهيئات الشرعية، ولكن هذا لا ينفي دورها المركزي في ملء الفراغ القانوني في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

8. هناك أزمة حقوقية وتشريعية في الفكر العلماني ككل، تتجسد بأنه يعرف (ما لا يريد) بدقة في حين لا يستطيع أن يدلنا على (ما يريد) بنفس تلك الدقةـ فها هو العلماني يلغي بجرة قلم بعض النصوص القرآنية القطعية ونقصد هنا الأحكام المتعلقة بالمرأة والمواريث، ويعدها غير عادلة وغير إنسانية وأنها مجرد أعباء أخلاقية وحقوقية. ونسأل هنا: بأي حق وعلى أي مبدأ يطالب العلماني بإلغاء الأحكام القرآنية وما هو البديل حقوقياً وثقافياً وشعبياً عما اعتبره أحكاماً تاريخية لاغية اليوم؟ومن الذي ألغاها ومتى؟ خصوصاً أنه يتحدث عنها بصيغة أنها أُلغيت وانتهى الأمر.

9. نحن أيضاً كإسلاميين لدينا وجهة نظر تاريخية مفادها أن القوى اليسارية والليبرالية والعلمانية التي لم تجد لها موطئ قدم في ميدان ثورات الربيع العربي، سياسياً أو عسكرياً أو شعبياً أو تعبوياً، لا تملك إلا خيارين اثنين؛ إما القبول بواقع أنها نظريات وتجارب مستغربة مستوردة نخبوية أقلوية وبالتالي التسليم بحجمها على الأرض وفي عالم الفكر والسياسة أو الاندثار الحتمي بمرور الزمن.

10. النخبوية التي تمارسها العلمانية في خطابها مع الآخر بأسلوب وصائي يذكرنا على الدوام بالمستبدين وخطاباتهم الخشبية وأجهزة إعلامهم التعبوية، لابد للعلمانية من وقفة حقيقة مع الذات والخروج بخطاب مع الآخر الإسلامي بواقعية أكبر وتواضع واحترام، وعدم التماهي بين خطابي العلمانية التحريرية والعلمانية التسلطية.
ولابد للعلماني أن يعلم أن للإسلاميين بالتحديد تجربة مريرة في هذا العالم الذي تعلم منه الكثير حقوقياً وأخلاقياً وسياسياً وروحياً وجمالياً؛ لقد تعلمنا الكثير من هذا العالم الذي بقي قابعاً متفرجاً على مآساة الشعوب العراقية والسورية والأفغانية وقبلها الفلسطينية، هذا العالم المتوحش الأناني غير الموجود إلا في أخيلة اليساريين الذين يتحولون اليوم إلى نيوليبراليين، ولا نعلم على أي لون سيصبحون غداً.

11. على العلماني السوري أن يفهم أن العلمانيين، ليسوا مشكلة الإسلاميين وأن وجودهم ليس عقبة وزوالهم ليس فرجاً! إن مشكلة الإسلاميين ومازالت هي مع المستبدين المحليين والمتسلطيين الدوليين الذين لا يكونون إلا علمانيين، وإن مشكلتنا مع هؤلاء أنهم مستبدون يفرضون عقائدهم على الآخرين باستخدام السلطة، وأن لا مشكلة للإسلاميين مع أولئك البائسين من العلمانيين الحالمين المثاليين من أمثال نبيل فياض ونوال السعداوي وسعيد ناشد وغيرهم كثر من الذين حُرموا من الوصول إلى السلطة لسبب قدري لا نملك ولا يملكون تفسيره فصاروا مناضلين حقوقين بدلاً من علمانيين تسلطيين!

في الأدب العالمي شخصيات تذكرنا بالعلماني العربي بشكل عام والسوري بشكل أخص كرمز تدل على من أضاع البوصلة فتجاوزه الزمن والقطار، وكما قال الشاعر:

جاء المغول و”دون كيشوت” منتفضاً … ما زال يضرب أعناق الطواحين!

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *