بسم الله الرحمن الرحيم

الخرقة الصوفية[1]… عَوْدٌ على بَدْء

“فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان، فإذا تبين له من العلم ما كان خافياً عليه اتبعه وليس هذا مذبذباً، بل هذا مهتد زاده الله هدى، وقد قال تعالى: {وقل رب زدني علماً}. (مجموع الفتاوى/ ابن تيمية)

في خضم الأزمة السياسية والاقتصادية والقيمية التي تعاني منها أمة الإسلام، نقع أمام مشكلة يتمحور أُسها في مجال التفكير الديني الذي لم يحدث فيه أي نوعٍ من التغيير ولا مراجعة مناهج التفكير المتبعة تمحيصاً وتدقيقاً وغربلةً ولا حتى محاسبة النفس المأمورين بالوقوف لسؤالها عما اقترفت يداها. وهنا تكمن الطامة. ذلك أن مع ما حدث من أهوال أخيرة في أوطاننا ومع كل من تعرى وانفرط عقد هيبته، فإن الغالبية مازالت في مكانها تُراوح، حيث نقلت تفكيرها ومنهجيته مع ما فيه من علل وسوءات من المجال الفكري للنظام إلى الثورة. ربما هذا ما يُسمى بمرونة الفكر الديني (الصوفي الطرقي)، حين تَنَّقل من منظومة في غاية الفجور والركود إلى مجال ثوري متحرك مع الاحتفاظ بالمنهجية والأتباع والمريدين أنفسهم، إلى أن أدركنا أنفسنا (نحن من كنا لسنا منهم ولا كانوا منا) نسأل عن الخروج من مأزق انهيار الكثير من الخطب الدينية في الثورات العربية والبحث في تجارب التاريخ وخطبه عن ماهية البديل الأنجح والأكثر ملاءمة لإنزاله على الواقع!

مع دخول المسلمين في ما يسمى العصر الحديث والدولة الحديثة، لم يمكّن للعديد من التيارات الدينية ذات الانتشار الواسع والقبول المجتمعي الكبير ممارسة نشاطاتها دون اعتراف رسمي من السلطة الحاكمة في البلاد العربية، والعكس صحيح؛ فلم يكن بإمكان السلطة الطغمة “الخارجية”[2] التمكن والرسوخ في البلاد دون مباركة تلك التيارات وربما على أقل تقدير نأت بنفسها عن التورط في أعمال السياسة وانسحبت إلى غرفها الخاصة، إلا أن المهم هنا الإشارة إلى وجود نوع من العلاقة المتواطئة تارة تميل إلى المداهنة وتارة إلى الممالأة وتارات أُخَر نراها متماهية متناغمة مع السلطة الحاكمة.

اليوم، بعد الثورات العربية، تطالب بعض الأصوات بأن يتحلى السياسيون بأخلاق الصوفية؛ ففساد السياسيين، كما يُقال، مرده إلى افتقار رجالات السياسة إلى تجربة صوفية حقيقية، وامتناعهم عن ترويض النفس ومجاهدتها حتى لا تقع في أمراض السياسة، وتسقط في المفسدات الكبرى للسياسة وعلى رأسها حب الجاه والتسلط؛ وما إن يعود هؤلاء المتصوفة/السياسيون أو السياسيون/المتصوفة إلى أخلاق التصوف حتى تُنتشل الأمة -بأيديهم وعمامتهم- من فساد أخلاقها وتخرج من تيهها الهوياتي وتعود قوية معافاة على الصُعُد كافة. أبرز ممثلي هذا الرأي د. طه عبد الرحمن ود. إيريك جوفوري.

إن سلمنا جدلاً أن الفساد يعود إلى بُعد السياسيين عن التجربة الصوفية، فدعونا نسأل أولاً عن رجالات الصوفية، فإن كان هناك نماذج قد انخرطت في السياسة وأثبتت أنها على قدر من المسؤولية، فإننا سنسلم تالياً بأن الحل والمخرج من هذه الفوضى القيمية والأخلاقية في عالم السياسة يكمن في تخلّق السياسيين بأخلاق المتصوفين.

واقع الحال في مجمله يفصح عن أن غالبية الصوفية في العصر الحديث، انسحبوا من المجتمع إلى زواياهم وفضاءاتهم الخاصة، وهربوا من هموم الأمة الإسلامية وأمر صلاحها وإصلاح شؤونها، لما كانوا على رأس مهامهم ومؤسساتهم في دول الاستبداد العربية. ونتساءل هل إن استلموا مقاليد السلطة يستطيعون تقديم نموذج الدولة العادلة، أم أنهم سرعان ما سينجرفون إلى وحل مستنقعات السياسة الدولية ويتمرغون في واقعيات تكالب القوى الكبرى؟

أما ما بعد الثورات، وأخص مساحة النظر هنا الثورة السورية، فإن الواقع يشي بأن انخراط العديد من الصوفية وأصحاب الطرق الصوفية في السياسة لم ينشل السياسة من وحلها، ولا أنقذت “سياسييهم” من المفسدات الكبرى، بل جرّت هؤلاء إلى شرور قواعد اللعبة السياسية القائمة قبل الثورات وغرقوا في أسنها؛ على رأس قائمة هذه القواعد الخضوع تحت ذل المنظومة الدولية الفاسدة. الحل السحري إذن ليس في أن يتحلى السياسيون بأخلاق التصوف طالما ظلوا في فلك منظومة القيم العالمية الفاسدة المفسدة، وهذا أصبح أمراً بدهياً لكل ذي لب.

حول هذا الموضوع انطلقت دراسة[3] من مسلمة أن التيار الصوفي كأي تيار فكري ديني أو إيديولوجي عابر للحدود، يملك قوة إيجابية ووجودية في معظم البلاد التي ينتشر فيها الصوفية، وتنتهي إلى نتيجة مفادها أنه من الضرورة بمكان إعادة تفعيل الطرق الصوفية بعد ثورات العالم العربي وضرورة انخراطها في الحياة السياسية والعمل على تحولها من دور التابع إلى دور الفاعل السياسي ليقطع الطريق على أصحاب المشاريع الأخرى كالسلفية الجهادية. وهذا ما حدث بطبيعة الحال، فبعض رجالات الطرق الصوفية في سورية، انخرطوا في العمل السياسي والعسكري والإغاثي في محاولة لتطوير أنفسهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفق ما تتطلبه زخم المرحلة وفظاعة الأحداث التي اتخذت بعداً عالمياً، (والتي لم تأت ولن تأتي على المنطقة إلا كل مئة سنة)، بعدما كانوا لعقود يعملون تحت جناح نظام متوحش فاسد، ما أنتجوا كائناً هجيناً. فلا على الصعيد الفكري استطاعوا تقديم طرح إسلامي متكامل في المجال العسكري، ما أدى إلى انتكاسات عسكرية حادة، ولا إغاثياً استطاعوا تحقيق الأهداف لفرط ما وقعوا في سوء توزيع الإعانات وإعلاء المحسوبيات وبروز الشللية، بله الاعتماد بالكلية على التمويل الخارجي الذي ولا بد يحمل أجندات مسيسة، تماماً كما كان الوضع قبل الثورة.

ثم إن القول المكرور من أنه لا بدّ للمسلمين من الانفتاح على العالم وتقديم الإسلام بصورة متحضرة، هو المنهج نفسه الذي اتبعه الأولون من أتباع التيار الصوفي في تقديمهم للصوفية إلى المصاف الأُوُل من التمثيل المؤسساتي للدول العربية، فهل أتت الثمار أُكُلها قبلاً حتى نعيد التجربة؟[4]
تُظهر الدراسة الآنفة الذكر تناقضاً عجيباً، كما هو الحال في الواقع، والذي يشف عن وجود مأزق كبير يواجهه أصحاب الطرق الصوفية إذا ما حاولوا الانخراط في السياسة، حيث يجزم الكاتب قائلاً: “وقد كشف الربيع العربي عن هامشية الدور السياسي المستقل الذي تلعبه الطرق الصوفية في الإقليم العربي في السنوات الأخيرة؛ بسبب أزمة الفكر الصوفي وانزلاقه في الممارسات الشعبية، وتحول غالبية الطرق من دور الاستقلال، الذي مارسته أثناء الاستعمار في معظم الدول، إلى التبعية شبه المطلقة لسياسة الدولة؛ حيث أصبحت الطرق الصوفية مُنفِّذاً لتعليمات الحكام بدلاً من أن تكون فاعلاً مستقلاً في محيطها الاجتماعي، سواء في الدول العربية التي شهدت الثورات العربية أو التي لم تشهدها. فقد استخدمت الأنظمة الحاكمة الطرق الصوفية [والغرب كبديل عن الإسلام السياسي] كلما احتاجت إليها، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي؛ لضبط التوازنات الاجتماعية والحركات السياسية”[5].

إن “التربية الصوفية” أو “أخلاق التصوف” المرتكزة إلى أخلاق القرآن وقيمه ليست حكراً أبداً على أتباع التيار الصوفي، بل هناك آلاف الكتب والمؤلفات لأصحابها من أتباع تيار السلف على سبيل المثال. كذلك مسائل العقيدة ونواقض الإسلام والفقه ليست من اختصاص فقهاء السلفية وحَسْب، فإن كل العلماء على اختلاف مرجعياتهم يتوجب عليهم الجمع بين العقيدة والفقه والأخلاق، فموضوعات الدين لا تتجزأ.

ثم أسأل هنا القارئ اللبيب لماذا الغرب في مؤسساته العلمية ومراكزه البحثية أخذ على عاتقه دعم التيارات والطرق الصوفية، والترويج لها بوصفها النموذج الأمثل لصورة الإسلام والمسلمين، أجيب باقتباس: لأنه ببداهة “هذا الرهان على التصوف، باعتباره عنصراً منفساً للطلب الشعبي المتزايد على التدين المفرغ من حمولاته السياسية والتدين الشعبي المقتصر على الطقوسية، لم يقتصر فقط على بعض الأنظمة العربية، بل امتد ليشكل جزءاً مهماً من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية المتعلقة بالعالم الإسلامي بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، في إطار محاربتها للإرهاب والتطرف الإسلامي، وحتى بالنسبة لروسيا في إطار احتوائها لمطالب الاستقلال الشيشانية، وفي سياسة الدول الغربية عموماً من أجل احتواء المد الإسلامي وتدجينه كما هو الحال مع الطريقة النقشبندية التي تحظى بدعم كبير من طرف عدد من الحكومات الغربية كالمملكة المتحدة وقبرص، حيث يقيم شيخ الطريقة التي تعتبر اليوم من أكثر الطرائق اتباعاً في أوروبا والعالم الإسلامي”.[6]

والخبر ليس كالمعاينة، فهاك “مؤتمر أهل السنة والجماعة” الذي عُقد مؤخراً في غروزني عاصمة جمهورية الشيشان (25- 27 أغسطس 2016) جمع ما يُسمى علماء العالم وفقهاءه، ليحددوا أهل الإسلام الحق! فكان الجواب كما جاء في الفقرة الأولى من بيانهم الختامي: “أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علماً وأخلاقاً وتزكية”، و”روسيا الاتحادية التي تستضيف هذا المؤتمر لتوحيد أهل السُّنة هي التي تنطلق طائراتها من إيران ومن أماكن أخرى لتضرب حلب وحماة وغوطة دمشق فتخلّف هذه البقاع السُّنِّيَة أثراً بعد عين، كما فعلت سابقاً في جروزني، حيث يجتمع المؤتمرون، الذين لا يَخْفَاهم: أن الرئيس الشيشاني الذي يستقبلهم ويرحب بهم كان هو ووالده أحمد قاديروف من أكبر المتعاونين مع الروس لتمكينهم من الانتصار على الحكومة الشيشانية المستقلة، ذلك النصر الذي جاء على أنقاض مدينة جروزني التي اعتبرتها الأمم المتحدة عام ٢٠٠١ أعظم المدن دماراً في العالم، وأكبر من استفاد من هذا الدمار هو أحمد قاديروف الذي وقَّع الرئيس بوتين على تعيينه رئيساً للشيشان بعد إعادتها للاتحاد الروسي. وبعد قتله عام ٢٠٠٤ تَدَرَّج ولده ليصبح الرئيسَ الحالي للشيشان، والمؤيد لبشار السفّاح القاتل لأهل السنة في سوريا، ومن العجائب أن نجد من يُصَدِّق أن من يؤيد بشار الأسد يمكن أن يسعى لجمع كلمة أهل السنة”[7].

ثم أتساءل، لماذا أصحاب بعض التيارات السلفية، على سبيل المثال، ما برحوا مغيبين في السجون أو في المقابر طيلة حكم نظام البعث؟ بينما ظلت التيارات الصوفية على عرش التيار الديني متربعة وحدها وفي عيشها تنعم؟ هل سمعنا عن صوفي سُجن من قبل دولته لأنه ينتمي إلى هذا التيار الصوفي أو كان على دين تلك الطريقة الصوفية؟

عندما اندلعت ثورة سورية عام 2011 كان هناك بعض الأفراد من الطرق الصوفية وقفوا ضد النظام، وأيدوا ثورة الشباب إلا أن ذلك كان بوصفهم أفراداً لا بصفتهم أصحاب طرق، ثم كان موقفهم بعد أن اندلعت الثورة ونزل الشباب بدافع الخروج على النظام الفاجر لا بوصفهم مضطهدين بسبب انتمائهم الديني، أو لأنهم فعلاً يعتبرون أن هذا النظام فاسد ومفسد! ففي بداية الأمر كما هو معلوم وموثق انجرّ رجال الدين بعد تردد ملحوظ إلى الشوارع ليلحقوا بركب الشباب لا العكس.

مقامي هذا سيركز على الفترة التي نأى الصوفية بأنفسهم عن المشاركة في الحياة العامة ومن ضمنها السياسة، وأماتوا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي نسيناها ونسينا معها قول كلمة الحق الواجبة عيناً على كل فرد كلٌ بحسب استطاعته امتثالاً للحديث الشريف: “من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”. (رواه مسلم).

سورية والتدين الوديع الخامل

“ما بين خلع ثوب الذل وارتداء ثوب الحرية تظهر عورات الكثيرين” سيد قطب

لن أخوض في تفاصيل المناهج، ودقائق المذاهب، ومجرى التيارات، بل أكتفي بالاستقراء التاريخي ووصف واقع من كانوا يملكون بعض زمام أمرهم وأمر المسلمين في سورية؛ لكنهم أبوا إلا حياة الرضوخ والتبعية، واستعملوا فقه الاستضعاف، وسكنوا لعيش خال من الكرامة تحت ظل الفاسد، الطاغية، إلى حدٍ فقدنا معه القدرة على الفصل بين منظومة الأخلاق والقيم الفاسدة في ذاك الزمان وبين منظومتهم الخاصة، كونهم رضوا التحرك والسكن والسكنى في فلكه، واستوطئوا العجز والوهن ضمن تلك المنظومة، وفساد القيم من فساد العقيدة.

وأكتفي هنا بمحاولة فقه واقعهم وموقفهم قبل الثورة وأثناء تصالحهم مع النظام الحاكم وتماهيهم معه.

وللتنبيه، فإن مبدأي الجوهري الذي أغزل عليه خيوط حروفي هذه، هو كيف سُلمت البلاد والعباد إلى أيدي الظلمة الفجرة الذين خانوا قضية الأمة، وبواسطة سلطة دينية (متماهية مع سلطة الحكم) سواء دانت بالصوفية أو بالسلفية أو أياً كان مشربها[8]. ولو كان هناك تيارات فيما تسمى “سلفية” سُمح لها بالعمل الدعوي وممارسة نشاطاتها الدينية في سورية في ظل ذاك النظام لأتيت على ذكرها وتفنيدها ونقدها.

مقياسي هو سؤال ما برح يراودني طوال سنيّ الثورة السورية التي عاينتُ فيها، وعن قرب، أغلب أطوارها السياسية والاجتماعية والفكرية: لماذا استكان ورضي هذا التيار الديني أو ذاك بنظام سياسي فاجر ظلم العباد واستباح الأعراض ونهب البلاد وعمل جاهداً على تهديم قيمها وتشويه هويتها طوال تلك العقود؟ وما الذي دعاه اليوم للخروج على هذا النظام نفسه، بل وتكفيره[9]، طالما كان هو هو قبل ثورة 2011 وما بعدها؟

إن كان العالم كله قد انكشفت عوراته وانفضحت زيف قيمه ولا أخلاقياته وازدواجية معاييره في تعاطيه مع القضية السورية، فمن باب أولى العودة إلى بيتنا الداخلي لنقف -ولو على عجالة- مع أولئك الذين صمتوا دهراً وأخرسونا بفتاويهم وتكييفاتهم الفقهية المضللة في عدّ الطغم حكاماً شرعيين!

تاريخ سورية-على حد زعمهم- تاريخ المحبة والعيش المشترك والتآلف فيما بين أطياف سورية وعقائدهم ودياناتهم كافة، وأننا في أمس الحاجة إلى إعلاء المصلحة العامة ووحدة الصف لا شقه، كما كان يردد دوماً أصحاب التدين الوديع الغافل، وإن أردنا نشر أفكار لتصويب ما هو قائم فلا بد أن يتم بالتدريج وفي وقت السلم لا في الحرب… هذه الحجج الواهية والشعارات الزائفة رددوها نفسها عندما نادوا بإعلاء المصالح لدرء المفاسد، أو بتبنيهم منهج درء الفتن عندما كانوا تحت ظل حكم البعث طيلة 40 سنة أو يزيد، وهل بينوا فجور نظام البعث في حال السلم والعيش الرغيد وهم في حضن النظام ولو بالتدريج؟

الأنكى أنهم كانوا يعترفون قبل الثورة بفقدان النظام العالمي للأخلاق والمثل والقيم الفاضلة؛ بدوله وجمعياته ومنظماته الأممية في سعيه لفرض ديمقراطية مزيفة وعلمانية مبطنة، وأنهم في حرب مفتوحة معه في فرض هذه المنظومة على العالم العربي والإسلامي وسورية بخاصة، بكافة الوسائل والأدوات والأشكال ما جعلهم يزدلفون إلى النظام الحاكم والاعتراف بدوره المركزي في “محور المقاومة” المزعوم، فعقدوا لذلك المؤتمرات وسيّروا المسيرات إلى السفارات، وراحوا يمجدون معاهد الأسد لتحفيظ القرآن ومراكزه الدعوية[10]. والمفاجأة اليوم أنهم فطنوا بعد الثورة أن النظام الحاكم جزءٌ لا يتجزأ من هذا النظام العالمي الفاقد للقيم والأخلاق، والذي دعمه عسكرياً ولوجستياً وسياسياً وقيمياً؛ فتكالبت علينا الأمم في حرب لم يشهد التاريخ وما وراء التاريخ مثيلاً لها. مع ذلك وللمفارقة الفجة تجدهم لا يجرؤن على الخروج على هذه المنظومة إلى يومنا هذا، بل يدورون في فلكها ويفاوضون ويروحون ويجيئون ليقدموا الولاءات والتفاهمات والتنازلات لإسقاط النظام ومحاولة تقديم البديل عنه، الذي في عمقه إن أعملنا العقول وأيقظنا الحكمة ليس إلا اجتراراً لخطابهم القديم، ليلتحق بالنظام العالمي الفاجر نفسه، كي يعود من جديد في دورة عمرية جديدة ليكون جزءاً وفياً له، يرتضي النواميس والقيم ذاتها.

وإن قربنا العدسة أكثر فإن ما افتقده بعض المشايخ والدعاة من أصحاب التدين الوديع لما انخرطوا في السياسة كانت الثورة الحقيقية التي ظنوا أنهم لحقوا بركبها، وهم لم يلجوا موج مدها وجذرها، تلك الثورة التي تحض على أن تكون أعلى عيناً في امتلاك القدرة -وأنت في خضم نوائب الدهر وهول الصراعات وزخم المؤامرات وزيف السياسات- للتنقل بين دوائر أربع لفهم الواقع والتاريخ إلى أن تستقر في الدائرة الأشمل والأكبر: 1. دائرة محلية متناهية الصغر؛ 2. إقليمية محيطة بالأحداث؛ 3. عالمية وموازين القوى العالمية؛ 4. متناهية الكبر، فيما يتعلق بالحضارة التاريخية والدينية. إلا أن المحللين من الثوار والدعاة والمشايخ ظلوا محبوسين ضمن الدائرة الأولى، يأبون الخروج منها، لهذا تجدهم يتهمونك في نظرتك للأحداث وتحليل ما هو قائم بالتعميم كونهم لم يصلوا بعد إلى بقية الدوائر.

ولا بأس من استطراد هنا حول التعميم، فإن كان يطلق على السمة أو النمط الشائع الذي اجتاح أغلب البلاد العربية، فهو ليس تعميماً بمعنى الكل في إهمال جزء منه، بل التعميم هنا للإشارة إلى الكثير الطاغي، كما أن الجزء هنا ليس محل الدراسة، بل له مقامه.

وإن جرى الادعاء بأن الكلام هنا يؤدي إلى الفتنة والفرقة وتشتيت الصفوف، فإنه بإقصائهم للطرح الثوري هذا وكتمهم لصوت الحق قد أعلنوا عن أنفسهم بالفرقاء والمفرقين، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103]، فجمع الصفوف يكون بالاعتصام بالقرآن والسنة اللذين هما حبل الله، والتفريق يكون بالابتعاد عنهما.[11]

وبأدنى أدوات المنطق والتحليل والتفكير السليم سيتبدى لك أن ألفاظ من مثل: التعميم، والفتنة، وشق الصف، ليست سوى مخلفات قيم دين التصفيق؛ دين الاستكانة الوديع، التي وظفوها وطوعوها لتلائم هواهم ومشربهم.

التدين الوديع والسياسة[12]

انقسمت التيارات الصوفية إلى قسمين كبيرين: تيار تابع للسلطة الحاكمة منذ العام 1975، حيث أمسك مشايخ وعلماء هذا التيار بالوظائف القيادية بوزارة الأوقاف والدعوة بالمساجد وهؤلاء منتشرون في دمشق وحلب (الطريقة النقشبندية[13])، وكذلك بعض أبناء الطرق الرفاعية والشاذلية[14]. والتيار الثاني نأى بنفسه عن السياسة ورجالاتها واكتفى بالدعوة والنشاطات الاجتماعية في حلقاته الخاصة، ولم يحاول التعرض لسياسات الدولة أو للقبضة الأمنية المتوحشة وانتشار الفساد والمحسوبيات ضمن كافة المؤسسات حتى الدينية منها والتغيير الممنهج للهوية المسلمة النقية والعقيدة الصحيحة، وإلا كان مصيره السجن أو التضييق أو النبذ والملاحقة والنفي.

و”بينما كان منهج الصوفية في الإصلاح يقوم على التربية الروحية فإن استجابتهم لتحدي البعث كان روحياً أيضاً. فقد زاد نشاط الصوفية في مساجد دمشق في الستينيات والسبعينيات تحت قيادة عبد الكريم الرفاعي (1901-1973) ومحمد عوض (ت: 2009). كان أساس هذه الاستجابة هو تقوية الهوية السُّنية للسوريين عن طريق تلقين العلوم الإسلامية والأوراد الصوفية خصوصاً”[15].

وكانت قد شهدت الساحة الدينية بداية صِدام ناعم بين الصوفيين والسلفيين (يمكن أن تعود البداية إلى ثلاثينيات القرن الماضي)، ذلك أن السلفيين صاروا أكثر اهتماماً بالنشاط الاجتماعي والسياسي المباشر بوصفه رد فعل على الاحتلال الفرنسي. لذا صار تقييمهم للآخرين جذرياً لكل جماعة لا تشاركهم الحماس نفسه أو ظهرت منها المنافسة الاجتماعية والسياسية لحركتهم. لذلك كثر هجوم السلفيين على عقيدة الصوفية وممارساتهم تحت تأثير السلفية الحنبلية، وخاصة على الرفاعية والقادرية.

إنشاء فرع الإخوان في سورية رسمياً العام 1945، برئاسة مصطفى السباعي (ت: 1964)، أثّر إيجابياً في إيجاد مصالحة ولو كانت سطحية بين السلفية والصوفية في سورية[16]. لذلك، فإن الالتباس طبع علاقة الإخوان بالصوفية بعد ظهورهم في الساحة السياسية. حيث رأى الإخوان أن الطرق الصوفية يمكن أن تكون وسيلة فعالة لجذب الجماهير، هدفهم الأول. لذلك لم يُعادِ الإخوان التصوفَ جملة، بل قبلوا جانبه الروحي السُّنِّي. ويمكن التمثيل لهذا الموقف برأي سعيد حوى (ت: 1984)، أبرز مفكري الإخوان في سورية”.[17] هذا من جهة.

ومن جهة ثانية “حينما قام الإخوان بعمليات مسلحة عام 1979، وجد البوطي نفسه أمام نقطة الحسم في اتجاهه، علاوة على مذهبه الإرجائي. فكان خياره المسالمة حيث أدان على شاشة التلفزيون عمل الإخوان العسكري وتبنته السلطة منذ ذلك الحين وصار فقيهها”[18].

“ثم تعرّضت جماعة زيد التي أسسها الشيخ عبد الكريم الرفاعي لضربة أمنيّة في ثمانينيات القرن الماضي وخرج زعيمها الشيخ أسامة الرفاعي (النجل الأكبر لعبد الكريم الرفاعي ووريثه في قيادة الجماعة) من البلاد قبل أن يعود إليها في منتصف التسعينيّات. واستطاع الزيديّون إعادة ترميم شبكتهم الدينيّة بسرعة كبيرة، بل والتوسّع والانتشار في الأوساط الشاميّة. وقد شهد العام 2002 سابقة في السياسة السوريّة عندما زار بشار الأسد شيخ الجماعة أسامة الرفاعي، بخلاف التقاليد السياسيّة السوريّة التي تقول بزيارة المشايخ الرئيس”[19]، في محاولة لمد جسور التودد والتعاون مع التيارات الدينية.

بعد محنة الثمانينيات ملأ عدد من المشايخ الصوفيّين “الفراغ الديني” الناجم عن هجرة واعتقال العلماء والمشايخ المحسوبين على الجماعة. أبرز هؤلاء العلماء هو النقشبندي أحمد كفتارو (1915-2004) مفتي الجمهوريّة السوريّة السابق (سنة 1964)، الذي نال اهتماماً واسعاً وأصبح على علاقة خاصة مع رأس النظام الحاكم، فعمل الاثنان على دعم بعضهما بعضاً؛ أدرك رأس النظام أهمية هذه الفرصة في دعم مسلك صوفي يمنحه الشرعية السياسية، وكفتارو من جهته الذي تبنى أطروحات قومية اشتراكية للدفاع عن تدين متسامح ومستنير.

واتضح خط الولاء للطاغية بعد أحداث الثمانينيات والصراع بين النظام والإسلاميين، برز في دور تلامذة المدرسة النبهانية[20]، تحت شعار نبهانيّ مفاده “إصلاح الحاكم خيرٌ من تغييره”. وكان من أبرز الأسماء من تلاميذ هذه المدرسة الشيخ صهيب الشامي مدير أوقاف حلب لثلاثين سنة تقريباً، ومفتي الجمهورية الحالي الشيخ أحمد حسون، والخطيب البارز محمود الحوت. ولم يكن التيار النبهاني وحيداً في الانسحاب من السياسة لمصلحة السلطة، فكذلك كان حال تلاميذ الطريقة الشاذلية في حلب[21].

برزت كذلك حركة نائية اتّخذت طابعاً صوفياً دعوياً وتربوياً، سُميت بـ”القبيسيّات”[22] التي أسستها منيرة القبيسي (مواليد عام 1933) في ستينيات القرن الماضي، ونشطت هذه الحركة في أوساط الطبقة المتوسطة والغنية في المدن السورية وبخاصة دمشق.

وهمّت السلطات الديكتاتورية لترسيخ هيكلية دينية منضبطة بوقع النظام الفاجر، فجرى تقديم علماء دين بعيدين عن الحياة العامة والسياسة، لا طموح لهم إلا ما قَسَمه النظام. فكانت مؤسسة الإفتاء كأي مؤسسة من مؤسسات الدولة القائمة على الفساد والمحسوبيات. ولقد جرى الإسهام في تحييد أي تيار مخالف للتيار الصوفي، وإقصاء بل ملاحقة كل من ينتسب إلى التيار المخالف، ولو لم يكن متورط بأعمال تعارض النظام الحاكم وسلطته الدينية.

واكتشفت الأنظمة العربية أن الفكر الصوفي في جوهره[23] يملك رحابة الصدر للتعايش والعيش تحت كنف هذا النظام العربي أو ذاك، كونه يقتصر على التعبد الفردي، وينشئ مملكته وخلافته الفاضلة الخاصة التي تعنى بالأفراد لا بالأمة؛ بل ويرى أن السياسة والدخول في حلبتها تفسد الناس والشباب، مستنداً في فكره إلى معجم الهزيمة الروحية كما عبر الفيلسوف أبو يعرب المرزوقي؛ فالجهاد إرهاب، والغزو تحرير، وحماية العقيدة تكفير، والتعدي عليها تنوير، ونهوض الشباب حماية للبيضة خروج، وتذلل الحكام للمحتل سياسة.

واليوم بعد ثورة 2011 وبعدما أبعدوا مريديهم وأتباعهم عن السياسة وشؤون الأمة بشكل عام لعقود، نجدهم ومن أجل الدخول في لعبة المفاعيل المؤثرة على الأرض حضّوا شبابهم على حمل السلاح، وأفتوا لهم بوجوب الجهاد ضد النظام الكافر، فأسسوا وأسهموا في تشكيل فصائل وكتائب عسكرية، كرد فعل على وجود مناطق خارجة عن سيطرة النظام ودخول السلاح والأموال، ما حملهم على الالتحاق بالعمل العسكري المسلح لا بشكل منظم ومدروس، بل على شاكلة فرض الأمر الواقع، ووجدوا أنفسهم مع أتباع التيار السلفي مضطرين لعقد مصالحة ثانية بين التيارين (الصوفي والسلفي) عن طريق الفصائل التابعة لكلا التيارين، والمدعومة كل منها خارجياً. وبنظرة معمقة فإن أصل التوجه الإسلامي عند هؤلاء لم ينسجم مع الدور التوجيهي والتعبوي للعسكر. وهو ليس طعناً في مسألة الإخلاص عندهم، بل لعله من الصحيح القول ولفرط سذاجتهم السياسية أنهم استكانوا لمحاولات الاستمالة الخارجية وغضوا الطرف عن الالتفافات المكشوفة من قبل الداعمين. في حوار أُجري في الموقع المصري “دنيا الوطن” مع قيادي من الجماعة الصوفية المجاهدة في سورية، سُئل عما إذا كان هناك خلافات بين الصوفية والسلفية في الساحة الجهادية الشامية، فكان جوابه: “لا يوجد انقسام ولكن هناك بعض التيارات تحاول إقصاء الصوفية من الانخراط بالعملية السياسية الجارية، ومن الطبيعي أن يحاول داعمي التيار السلفي تحييد من يختلفون معه مع عدم التعميم، ولكن الحق أن مشايخ وعلماء الشام جلّهم صوفية وترى تحييد واضح من القنوات الكبيرة لاستضافتهم، بالمقابل ترى دفع شديد لإظهار مشايخ لهم ارتباط كبير بالإخوان أو السلفية بشكل عام، ولكن على أرض الواقع الأمر غير ذلك لحضور الصوفية بشكل قوي في المجالس المحلية في المناطق المحررة، ونشاطاتهم الإغاثية، وحضورهم التنسيقي العالي مع المجالس العسكرية للجيش الحر”[24].

إجمالاً، بعد الثورات العربية ظهر الارتباط العميق بين التيارات الصوفية وبين الدول الوظيفية، واتضح أن الطرق الصوفية لم تتخذ موقفاً شاملاً موحداً من الأنظمة العربية الجائرة عقوداً طوال، إلا أن أفراداً من هذه الطريقة أو تلك رفضوا استبداد النظام وفجوره منذ البداية. ولأن الطرق الصوفية اتسمت بخاصية التمدد الإقليمي العابر للحدود، (والتي تم الرهان عليها كأداة لنشر التدين المتسامح) فإن الإقليمية نفسها خلقت منهم تيارات مستعملة سياسياً لخدمة مصالح الأنظمة الجائرة. واليوم أُقحمت بعض الطرق إقحاماً في الثورة السورية بسبب ارتباطها بشكل أو بآخر وتحالفها مع بعض التجار والطبقة المخملية (دمشق وحلب بخاصة) الذين بدورهم شاركوا بالدعم المادي واللوجستي للثورة، وربما بعلم النظام وتحت إشرافه المباشر! وما محاولات محمد حمشو اختراق الغوطة الشرقية عنا ببعيدة.

بعد عام 2011 كَشفت لنا الثورة الأهمية الاستراتيجية الجيوسياسية الكبيرة لسورية، وعليه كان لا بدّ أن تكون التيارات الدينية المتحركة والفاعلة فيها تحت مجهر النظام الدولي وعنايته، كما كانت من قبل لكنها سابقاً لم تكن المشاريع الإسلامية محمية بالسلاح. لذا لن ينفع في يومنا هذا اتباع نهج الثمانينيات نفسه، أي وللتكفير عن الذنب يعود البعض كما عادوا في التسعينيات إلى حضن الوطن، ونطوي الصفح عن كل ما حدث من اعتقال وقتل وتعذيب وتشريد، وإلا ونكون قد اتبعنا النهج نفسه؛ استبدال الخضوع بخضوع آخر، والرضا بالاستخذاء بآخر، وبصورة أخرى لنظام إقليمي أكثر انفتاحاً سياسياً ودعوياً إلا أنه ظل في الفضاء العالمي الراعي نفسه لهذا التيار.

ومن هذه الأرض توكّفنا هذه الثمار، إن التيارات الدينية الموجودة حالياً تحتاج إلى إعادة تقييم الذات والمنهج ولعلاقتها بالآخر المسلم المختلف قبل غير المسلم بأشواط، ولنظرتها إلى العالم، بل وإعادة فهم معنى التوحيد الحقيقي وتحديد المهمة الربانية للإنسان الذي استخلفه رب العباد وأمنّه على أرضه ودينه.

“وثيقة تاريخية”

لمّا حُبِسَ الإمام أحمد، رحِمهُ الله، قالَ لهُ السَجّان، يا أبا عبد الله، الحديث الذي يُروى في الظَّلمةِ وأعوانِهم، صحيحٌ؟ قال: نعم. فقالَ: أنَا مِنهم؟ قالَ أحمد: أعوانُهم من يأخُذُ شَعركَ، ويغسِلُ ثوبكَ، ويُصلِحُ طعامكَ، ويبيعُ ويشتري مِنكَ، فأمّا أنتَ فمِن أنفُسِهم”. 

هذه الكلمات للعودة بكم ومعكم إلى التاريخ والوقوف وقفة مسؤولة في الحاضر، علّنا ننفض عن مستقبلنا أخطاءً كانت واقعة طالما بقيتم أنتم وحدكم سدنة التيار الديني.

لم يعد يسع تاريخ سورية لأكثر من ثورتين عظيمتين: ثورة الثمانينات، وثورة آذار 2011، فلنبصر ونعقل ونتفكر ونتدبر.

لم يحسب الكثير من علماء أهل الشام أنهم سيدفعون يوماً ثمن تواطؤهم مع نظام الاستبداد في إبعادهم لكل ما ينسب نفسه إلى أي تيار مخالف لتيارهم. ولم يدروا أنه سيأتي يوم سيخضعون للحساب عن سرّ علاقتهم بالنظام الطغمة وسكوتهم عليه كل تلك السنين، وأنهم سيواجهون هم وطرقهم ومذاهبهم وفقههم النقد والتمحيص من شباب وشابات أهل الشام أنفسهم[25]، لا من أعدائهم الوهابيين التكفيريين -كما كانوا يتحاملون-!

ألم؟ وهل؟

ألم يحسبوا أن المسؤولية السياسية تطرد -وجوداً وعدماً- مع الادعاء بالبعد عن السياسة بُعْد الرجس عن الثوب النقي؟ فقد كانوا يوماً ما جزءاً من نسق سياسي لذلك النظام المتوحش، حتى ولو لم يتورط كل عين منهم بتلك الأعمال الوحشية.

– ألم يفكروا لعُشر من الثانية أن الحقيقة ستواجههم يوم قبلوا النأي بالنفس والمذهب عن السياسة، فاكتشفوا أن الحقيقة أحق أن تعلو وأنها ستُعلن نفسها رغماً عنهم وعن السياسة المدلسة الكاذبة.

– ألم يحسبوا أنهم كمشايخ وفقهاء وعلماء مسؤولون إلى يوم الدين عن آلاف المعتقلين ومئات المغتصبات والألوف المؤلفة من الشهداء وبحر من الدماء أُريقت على مذبحة صمتهم على حكم فاجر يحمل مظلومية نحلته وملته.

أين هم من الحديث الشريف “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” (رواه أبو داود والترمذي). وأن التخلي عن هذا الجهاد يُنذر بعقاب للمجتمع بأسره، وبفتنة كبرى نشهدها اليوم، للحديث الشريف: “لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم”. (رواه أبو داود).

– ألم يخطر على علمهم تكييف فقهي لضرورة القيام بثورة أو انتفاضة أو حتى رفض ما هو قائم؟ وأن التمرد على النظام القائم ليس إلا وسيلة لتغيير منكر عظيم في النظم المستكبرة الفاجرة والمستعبدة للشعوب، ولتحقيق إرادة الله في التمكين للمستضعفين: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ*وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [سورة القصص: 5-6].

-ألم يعوا التاريخ وأبعاد قصّه؛ ففي تاريخ حلب حين أراد الناصر صلاح الدين الأيوبي تنقيتها من الباطنيين استنجد واليها بالشيعة فاشترطوا عليه أن يعيد في الأذان “حيّ على خير العمل” في المساجد وأن يُنادى باسم الأئمة الاثني عشر أمام الجنائز، فقبل ونفذ، وكان ما كان.

-ألم يسمعوا أن الأسد الأب لجأ إلى زعيم صدريّ شيعي ليصدر له فتوى باطنها إعلاء مذهب اللاعنف والتدين الوديع، وجمهوره الواسع في الغرب وأصحابه من المستشرقين والمبهورين بالتصوف المسلوب وأهله، وفضاءه المتسامح الواسع القابل لكل مختلف من دراويش المجاذيب ومرتزقة من بوذي ونصراني ويهودي وهندوسي حتى وصل تسامحهم مع ذابحهم ومغتصب أرضهم وعرضهم من الحكام الطغاة!

وكان أن انسجموا مع نظام البعث في الاتفاق على مبدأ اللاعنف والتسليم المطلق، وحالما ارتفعت مسببات الانتفاضة والثورة عادوا إلى حضنه، فانتقلوا من مدرسة فكرية مثالية تنسج في مخيلتها مجسمات للمدينة الفاضلة المرادة، وانتهوا إلى تلاميذ في المدرسة الفوضوية تنادي بإسلام النصيرية وتعيدهم إلى الشيعة الجعفرية، كي يمكنوهم من الحكم.

– ألم يخبر آباؤهم وأجدادهم مجازر الثمانينات في حلب وإدلب وحماه وتحت غطاء أمريكي وغربي تام. وأن إيران (المتسربلة بثورة دموية) سكتت عن تلك المذابح والمجازر (1980-1982) على الرغم من أنها رفعت شعار تصدير الثورة الإيرانية ومناصرتها للحركات الإسلامية التي تقف في وجه الأنظمة الكافرة والظالمة مثل نظام البعث- كما زعموا.

-ألم يعقلوا أن اللعبة بدأت من حزب الشيطان، والمقاومة الكاذبة، حين توهم أهل السنة أنهم سيستعيدون القدس، بينما حرر صلاح الدين القدس من الصليبيين لما كان سقوطها في العهد العبيدي الشيعي؟ هل أدركوا الرسالة الرمزية التي أرسلها لهم حسن نصر الله عندما استقبله رأس النظام الحاكم استقبالاً غير عادي في حزيران العام 2000؛ فاستعرض أمامه رتلاً من مقاتلي حزب الشيطان بلباسهم الرسمي الأسود؛ وكأنه يقول لهم: ها هم جند الحزب جند هذا النظام نفسه! ألم يخطر ببالهم أنها كانت بوادر لتشكيل حزب الشيطان السوري بقيادة إيرانية!

-ألم يشعروا بأن النظام الحاكم اتخذ من التيار القومي البعثي غطاءً لترسيخ طائفته النصيرية في الحكم والسلطة؟ فكان أن طبع البلاد والعباد بروح البعث وبنصيرية القيم والأخلاق.

-ألم ينظروا حين كان التبشير الشيعي يُمارس دينياً وسياسياً بخطى ثابتة وبفقه التدرج؟ ألم يتسن لهم حتى قراءة فقرة في دراسة صدرت العام 2007 والتي تفتح أعينهم على واقع قادم لا محالة، حيث جاء فيها: “إن سورية ستتحول حتماً إلى كوكب يدور في فلك إيران. فالنظام يعتمد بشكل كامل على إيران في الدعم السياسي والاقتصادي واكتساب الشرعية التي طالما سعى إليها ولن تستطيع سورية الانفكاك عن حقل الجاذبية الإيرانية ما لم يحدث تغيير جذري في دمشق”. وحتى اللحظة وبعد سنين من الثورة ما زلوا عاجزين عن إحداث هذا الجذري في دمشق.

– هل باركوا مع من بارك وهلل للنشاطات الشيعية التي كانت تُقام في مختلف المراكز والمقامات والمزارات، من بينها المدرسة المحسنية واليوسفية في حي الأمين بدمشق؟ هل عقلوا يوماً لماذا شُيدت الحسينيات بأموال المرجعيات والحكومة الإيرانية وأموال المتبرعين الشيعة في الخليج ومُنحت غطاءً قانونياً من المؤسسة الأمنية ذاتها؟

-ألم ينظروا إلى دمشق وهي تغدو مرتعاً للفرس والشيعة، وكيف أن دمشق الأمويين لازالت تقف شوكة في حلوقهم، وأنها ستكتسي السواد ويعلو صوت النحيب واللطم والبكائيات من أزقتها إلى سمائها، وهم ما زالوا في مسالمتهم وتعايشهم وسلامهم نائمين وادعين؟ ألم يحسبوا أن دمشق ستغدو محرقة الأيديولوجيا الشيعية ومظلومية المشروع الإيراني.

– أليس منهم رجل بصير يقرأ التاريخ بعين ثاقبة ليدرك أن هؤلاء المتشيعين الجدد سيتحولون إلى مرتزقة وميليشيات تدافع عن النظام إن فكر أحد في الخروج عليه أو الاحتجاج ضده؟ وكما تشكلت أذرع إيران كحزب الشيطان وفيلق بدر وجيش المهدي، فإنه سيكون لها أذرع في سورية.

– هل سمعوا عن عشرات الطلبة العلويين الذين تخرجوا من جامعة الأزهر وكلية الشريعة بجامعة دمشق منذ ستينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا، وهؤلاء أنفسهم التحقوا بوظائف الدولة في مجال التعليم والتربية وغيرها، فبثوا السموم واخترقوا المجتمع بأفكار شاذة باطنية.

– هل تناهى إلى أسماعهم الاعتقالات التي طالت السلفيين العدو الشرس للشيعة لأنهم فطنوا لخطورة مشروع التشييع، فلم يخلف النظام منهم إلا معتقلاً أو مقتولاً أو منفياً أو مجرداً من مدنيته[26]!

– هل أدركوا اليوم أن “جمعية التآخي بين المذاهب الإسلامية في سورية” (تأسست عام 2006) وكل منبر بدعوى التقريب والحوار لم تكن إلا مخدراً شلّ أهل السنة فقط ليغيبوا عن واقع تجنيس الآلاف من الشيعة الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين لتغيير التركيبة الديمغرافية السنية، والمشروع اليوم قائم على قدم وساق وعلى العلن.

– ألم يعوا أنهم بمؤسساتهم لن يستطيعوا العزف خارج إيقاع النظام؟ بينما لم يستطيعوا ممارسة نشاطاتكم الدينية أو حتى الاجتماعية إلا تحت ظل وزارة الأوقاف البعثية الباطنية!

– هل آمنوا بأن عدد المعاهد الشرعية ومعاهد تحفيظ القرآن والمؤسسات الدينية التي لطالما طاروا على منابرهم فرحين بها، لم تكن إلا كماً غثاً كغثاء كثرتهم؟ كيف رضوا الدعوة أصلاً في ظل نظام فاسد مفسد (كافر كما وصفوه بعد الثورة)؟ وهل مكنهم حقاً من نشر الإسلام وأخلاقه كما يتخذونها حجة لجواز العمل الدعوي تحت ظله؟ أيعلمون أن زواجهم الثلاثي بين المخابرات عبر وسائط بعض تجار دمشق المنتفعين من هؤلاء وأولئك، والتذلل لهم (كي يُبقوا صوت الإسلام في سورية كما زعموا، والإسلام باق معهم أو بدونهم) وقيامهم ببعض التسويات تحت ذريعة الضرورات تبيح المحظورات لم يسعفهم اليوم عندما حانت لحظة الحسم؟

– هل علموا أن العلم يؤخذ عن الأشخاص، ولا تكفي الأفكار كما ادعوا مراراً، في قولهم بأن العلوم بحور في متون العلماء وليست حكراً على أحدهم! فتجاهلوا علوم وفتاوى من لم يجرِ على هواهم، وطووها وأسكنوها الرفوف تهرباً وتجاهلاً ونجاة بالأنفس، كفتاوى التحذير من النصيرية ووجوب تطهير بلاد المسلمين منهم، من قبل ابن تيمية (ت: 827ه) في مجموع الفتاوى، وابن حجر العسقلاني (ت: 852ه) في لسان الميزان 1/71، وأبي السعود العمادي (982ه) الذي نقل فتواه الكواكبي في “الفوائد السمية في شرح الفوائد السنية”، كتاب الجهاد، فصل في الجزية 2/396، ومفتي الشام علاء الدين الحصكفي (1088ه) صاحب الدر المختار، والعلامة المحقق محمد أمين بن عمر عابدين (1252ه) في حاشية ابن عابدين 3/411، وغيرهم الكثير…

– ألم يهتدوا إلى أن لا أحد سيفلت من التاريخ ورصده، ولن تبقى الأحوال والأمصار على حالها؛ فلكل مرحلة رجالها، ولكل مصر لابد آت رشيدها، وطوبى لمن سجل رجولة وحفرها في عمق التاريخ.

– هل تدبروا في معركة الأفكار التي سقطوا فيها؛ فمن تغول المد الصفوي واختراقه الفكر السني عبر التصوف خليل التشيع، إلى اختراق الأشعرية والأزهر والدعاة الجدد… ذلك الاختراق الكبير الذي تحدث عنه أبو يعرب المرزوقي مراراً في مقالاته واصفاً المختَرقين بـ”أبواق الميليشيات الخمس -الأنصاف-“.

رموا الطرف الآخر/ الكلمة الأخرى بسهام الإفراط والغلو، وهم أنفسهم إن شئنا التدقيق والدقة وقعوا في الغلو، ذلك أن الغلو هو صفة كل بدعة وخروج عن الشرع. والمشكل في فهم وتطبيق الاعتدال عند أصحاب من ينادون به وغلوهم فيه، فطبقوه على السعي إلى تطبيق العدالة، فكان اعتدالاً رذيلاً.

هناك قيم لا يستوي معها الاعتدال، بل لا بد أن تُطبق بتطرف، وإن بدت للبعض تطرفاً وما هي بتطرف، كي تعود مقومات الحياة الاجتماعية إلى اتزانها ولا نقترب ولو بميلة إلى التفريط والتمييع. أليس اعتدالهم الذين غالى في التفريط هو الذي سمح للنظام الفاشي بحكم سورية وسحق الأنفس وقلب عالي البلاد سافلها؟

ثم انظروا اليوم في التكييف الفقهي للبعض للمعركة القائمة مع النظام الحاكم في سورية، (23 يونيو/ حزيران 2015):

– يقولون إن: “التكييف الفقهي لقتالنا مع النظام هو دفاع مشروع عن النفس ودفع عدوان وجهاد ضد نظام كافر” انتهى.

بالله عليكم ألم يكن كافراً قبل الثورة؟ تراه أين كان مخبئاً هذا التكييف قبل الثورة؟ بخاصة أنه كان ما كان من انتهاك وظلم واستبداد، أم أن الأمر لأن انتهاك الحرمات والنيل من الأعراض والسطو على الأموال (أموال المسلمين)، لم تكن لتصيبهم؟

“من مات دون عرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد”. (رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي)، أخافوا أن يموتوا ميتة الشهداء قبلاً؟!

– “وأما أنه جهاد ضد نظام كافر فبيان ذلك أن المسيطر على نظام الحكم والدولة إنما هم رؤوس الطائفة النصيرية والذين يسمون أنفسهم بالعلويين، وهم طائفةٌ خارجة عن الدين باتفاق أهل العلم. بالإضافة إلى تبني هذا النظام لنحلة البعث والعلمانية وفرضها على الناس وإرغامهم على انتحالها والخضوع لها. وأنه يحالف أهل الإلحاد ويواليهم ويمكن لهم من بلادنا دعوة واقتصاداً وسياسة” انتهى.

ألم يكونوا نصيرية كفار قبل الثورة؟ ألم يمارس نظام البعث الظلم والفساد والتشريد والقتل والاعتداء على الأعراض قبلاً ومنذ قيامه وتسلطه على البلاد؟ ثم إن كانوا يرددون في تصريحاتهم أنهم سيتفاوضون مع من لم تتطلخ أيديهم بالدماء من هذا النظام الكافر، فالفيصل هنا الدماء إذن، والمفاوضون من النظام هم شركاء سياسيون، وعليه تصبح المشكلة سياسية لا عقدية، إذن كيف يستوي ذلك مع تكييفهم أعلاه؟

-“تحالف هذا النظام مع الرافضة وتمكينهم من بلاد المسلمين في نشر مذهبهم الضال وإقامة الحوزات والحسينيات حتى في الأماكن التي لا رافضة فيها وتمليكهم الأراضي وتمكينهم من زيادة نفوذهم وتحكمهم في كثير من قضايا المسلمين في بلادنا، ثمّ إن هؤلاء سطوا على حكم المسلمين بالتآمر والانقلابات والتصفيات والاغتيالات ولم يخترهم أحد من علماء المسلمين ووجهائهم وإنما استمروا بالتزوير والإكراه…” اه.

ألم يكن هذا الوضع منذ زمن سحيق؟ هل تكفي هذه العبارة “ولم يخترهم أحد من علماء المسلمين ووجهائهم”، لنفض الأيدي عن المسؤولية؟ ألم يكونوا من علماء المسلمين، أم ماذا كانوا؟

-“وهؤلاء استباحوا دماء المسلمين وأعراضهم وعملوا فيهم بالإبادة كما حصل في حماة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وقتل خيرة شباب الأمة بعد زجهم في السجون والمعتقلات وارتكاب أبشع الجرائم في حقهم كمجزرة سجن تدمر فهؤلاء لا يستأمنون على البلاد ولا العباد ولا الأنفس ولا الأموال..” اه. أين هم منذ أكثر من 50 سنة!

شخصيات صوفية مجاهدة؟

“لم أعكر صفو حياتهم، فقط أخبرتهم بالحقيقة، فرأوها جحيماً”

أقطع الكلام على من يريد تذكيري بشخصيات تاريخية مجاهدة ذات توجه صوفي حاربت الاحتلال الخارجي وعملت بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدايات نشوء الدولة القومية، فإنني على علم تماماً بحكاية المجاهد عمر المختار (ت: 1350ه) الذي حارب الاستعمار 50 سنة، والذي خرج من بيئة صوفية، والأمير عبد القادر الجزائري (ت: 1300ه) الذي اُشتهر بلقب الأمير كونه أعلن الجهاد على المحتل الفرنسي وهو كذلك خرج من بيئة صوفية وانتهى إلى اعتزال كل شيء والتفرغ لشرح كتب محيي الدين ابن العربي في منفاه في دمشق، حيث كان تلميذه ومريده الوفي، معاهداً فرنسا على أن لا يرفع السلاح ضدها مادام حياً[27].

إلا أن مقامي هنا لا يتناول مثل هؤلاء الرجال، بل أولئك الفقهاء والعلماء والمشايخ أصحاب السلطة الذين سكتوا عن فساد وظلم واستبداد الأنظمة العربية قروناً، وادعوا اليوم أنهم منخرطون بالثورة ولما تكشفت تناقضاتهم وتخبطاتهم ظهرت سذاجتهم في فهم الواقع وحركته.

وأتساءل هنا في زمن المختار أو الجزائري هل كان المحتل بشكله الحالي؛ أي الأنظمة العربية المحمية من قبل المحتل الأجنبي القديم، فغدا هذا النظام العربي محتلاً بنفسه للعباد والبلاد بالوكالة، وهل كانوا سيجاهدون تلك الأنظمة؟ أم سيكونون على فقه الاستضعاف ومذهب الرضوخ، حين رضخوا للمحتل المأجور والوكيل البديل عن المحتل بالأصالة؟ وهل كلما تطرقنا إلى مسألة مقاومة الظلم والاستبداد والفجور وضرورة جهاد المستبدين من طغاة العرب، نراهم يأتون بأمثلة عن رجال حاربت الاحتلال الأجنبي؟ أين هم من محاربة المحتل العربي بالوكالة؟

إن مقاومة الاحتلال الأجنبي كان من قِبل التيارات الدينية وغير الدينية كافة، التي شاركت مع فئات الشعب الجهاد ضده، فقد كان ذلك موروثاً دينياً وكان يمثل التيار السائد في البلاد آنذاك، ولا يعني أن لهذا التيار أو ذاك دور في إحياء الجهاد أو أنه احتكر ذلك دوناً عن باقي التيارات الدينية الأخرى. ونذّكر بومضة تاريخية بسيطة ففي “عصر تاريخ الدولة الحديثة وعندما اقتسمت بريطانيا وفرنسا أكثر بلاد المسلمين كانت أغلب فرق الصوفية غارقة في أذكارها وكأن شيئاً لم يكن، بل يقام للمعتمد البريطاني لدى سورية الجنرال (سبيرس) حفلة (ذكر) على طريقة المولوية يدعوه إليها الشيخ هاشم العيطة شيخ الطريقتين السعيدية والبدرية حيث أنشدت الأناشيد وفتلت المولوية، ثم خطب صاحب الدار باسمه واسم إخوانه مثنياً على رئيس الجمهورية والملك جورج السادس والمستر تشرشل والجنرال سبيرس، فأجاب الجنرال شاكراً”[28].

وفي هذا السياق نقطع فرحة بعض أصحاب الطرق الصوفية والمشايخ بشكل عام الذين يتوسلون بكتاب “ربانية لا رهبانية” (للسيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، بيروت: دار الفتح، ط1، 1966)، ليدللوا على أن من المجاهدين والمحاربين والمقاومين للمحتل من كانوا على مذهب الصوفية، ثم الاستناد إلى مسلمة أن الأصل أن عموم أهل التصوف مجاهدون منخرطون في ميدان الكفاح والنضال [كذا كما في الكتاب] والفرع أو الاستثناء والشواذ هم أولئك المنسحبون من الحياة العامة رمز البطالة والكسل. هذه الفرحة الطفولية بهذا الاقتباس ما هي إلا دليل سذاجة الفهم يعبر عنه نقص في المعلومات وتجاهل لمنهج المتصوفة وتاريخ حركاتهم، وبعد عن المنهجية العلمية بالإضافة إلى حصر الكفاح والنضال -حسب مصطلحات الكتاب- في محاربة الاحتلال الأجنبي، الذي لا يمكن اليوم في معركتنا الوجودية الحاسمة وسياقاتنا التاريخية والسياسية أن نقبل به وحده، بعد أن تبين أن الأنظمة العربية الحاكمة ليست إلا شكلاً من أشكال الاحتلال الأجنبي وبالوكالة. ثم نجد المؤلف يُقحم الشيخ ابن تيمية ضمن أصحاب الطرق الصوفية والمتصوفة، دون دليل واضح أو برهان! ابن تيمية نفسه الذي حمل على عاتقه التصدي لتخاريف الصوفية ومحاربة طرقهم واهتم بتصنيفهم وفضح عقائدهم ممن كانوا على مذهب الصوفية المتفلسفة، بينما نجد أن صاحب الكتاب (الندوي) يُعظم من شأن ابن العربي ويرفع من شأن مكانته المعرفية والكشفية، فكيف يسلم ذلك من التناقض؟!

إن الشيخ الحقيقي المجاهد الناطق الصادح بالحق، الذي لا يخاف في ذات الله لومة لائم، لم يكن ليعتلي منبراً ولا منصة ولا شغل خطيباً في ظل نظام الفجور، ولن يغسل عار كل من شرعن لذلك النظام يوماً ما إلا بجهاده في سورية في الصفوف الأولى لقيادة الثورة دعوياً وتوعوياً. فكما أنه يأخذ على صوفية قرون الماضي ولجوئهم إلى التكايا والانعزال والتفلسف الصوفي (كان يقصد الشيخ محيي الدين ابن العربي بالذات)[29] في زمن الجهاد وتكالب الصليبيين والمغول على العالم الإسلامي، يجب عليه أن يأخذ على ورثتهم من أتباع الطرق الصوفية في زمننا هذا وسكوتهم على الظالمين الفجرة وانزوائهم في تكاياهم.

كلمة ليست الأخيرة

في كلماتي هذه انطلقت لأرْبَأ أمتي، لتحاكي صرخة إحدى حرائر المسلمين في زمان صرخت إحداهن: “وامعتصماه”، واستنجدت ثانية بـ “واحججاه”، فاستنهضت همم الرجال من أمة ما عدمت الرجال عبر تاريخها ولن تعدم.

ما كانت إلا عيناً وَقَفتْ مراقبة طويلاً -رغم قصر العمر- ما خطته نفوس الوحوش من قتل واغتصاب وتشريد أرواح لم ترد يوماً إلا العيش في ظل دولة عدل وكرامة.

وأقول:

-صعبٌ على غير الأحرار بالفطرة أن يتقبلوا فكرة إنزال ما يتناوله الغير بالنقد والمنطق والتمحيص والتدقيق قبل الاجترار والتكرار.

-صعبٌ على غير الثوار بالغريزة أن يخرجوا عما يقدمه دعاة ومشايخ ظلوا طويلاً خدماً على أبواب الطغاة، من فتاوى وتوجيهات وإشارات، وستجد ممن ادعوا الثورة على منظومة القيم البالية في عهد الاستبداد، سرعان ما يتحول إلى خادم على أبواب أولئك الدعاة والمشايخ الذين خدموا الطغاة الأُوْل، فيتقلب من طاغية إلى خدم طغاة.

-صعبٌ على من يظن نفسه أنه خاض معركة الثورة ممن ظل يدور في فلك قوانين وقواعد جاهزة أن يجرؤ على الخروج عنها ولو بكلمة، ليلقي نظرة من خارج ذلك الفلك.

وعلى الله قصد السبيل


[1] في إشارة إلى بحث “الخرقة والعمامة”. هذه الورقة هي رد على بعض الردود المعترضة التي جاءت لما نُشر البحث الأول. لذا أدعو القارئ البدء بالخرقة والعمامة كي تكتمل الصورة. ولما كان البحث الأول دراسة علمية رصينة وعُومل باستخفاف وفرض إملاءات لحذفه، فإن هذا الرد على الطريقة الصحفية قد يكون أقرب لأفهام المعترضين.

[2] الخارجية من صفة الخوارج، أي أن الفئة الحاكمة هي التي خرجت على الأمة المسلمة والشعب. وقد استعرنا هذا الوصف من الشيخ الدودو. انظر المقابلة التالية: https://www.youtube.com/watch?v=ZlrS2vvYAm0&list=LL&index=17

[3] أبو الفضل الإسناوي، معضلة الدور السياسي للتيار الصوفي بعد ربيع الثورات العربية. يقول: “أكثر من خمسين في المئة من الطرق الصوفية المنتشرة في دول المنطقة تربطها أصول ومعتقدات ومشايخ واحدة، وأغلبها انتقل من حدود الدولة الواحدة إلى الإقليم، ثم عبرت حدود الإقليم إلى دول وقارات مختلفة في الظروف الاجتماعية والثقافية والدينية؛ لتتحول من مجرد تيارات إقليمية إلى حركات عابرة للحدود”.

[4] راجع هذا الفيديو حيث يعرض لبعض ما يتم زعمه من أن التصوف خير نموذج للتعبير عن الوجه الحضاري للإسلام والمسلمين، والفيديو يفضح ما يحدث من حلقات ذكر وموالد ورقص مختلط في حلقات الصوفية ومشايخ الطرق الصوفية في عدد من البلاد العربية منها سورية ومصر، فأين الحضارة في ذلك وأين صورة الإسلام كدين معتدل كما يُراد تقديمه؟ ليس إلا دين مائع.

[5] انظر الخريطة العامة للطرق الصوفية في العالم العربي الدراسة السابقة: معضلة الدور السياسي للتيار الصوفي بعد ربيع الثورات العربية.

[6] بدر الدين الخمالي، التصوف في خضم الربيع العربي، مؤمنون بلا حدود، 31 أكتوبر 2013. يمكن الرجوع إلى بحثي الخرقة والعمامة للتعرف أكثر على دور الغرب ومؤسساته الاستشراقية التي تديرها المخابرات العالمية في دعم الطرق الصوفية في العالم العربي والإسلامي.

[7] أكرم حجازي، فيسبوك. حضر المؤتمر عدنان إبراهيم وعلي الجفري، الجفري مؤسس ومدير مؤسسة طابة، هذا الشيخ الذي فُتحت له بيوتات أهل الشام من العلماء والدعاة على مصراعيها، ولازال هناك من يفتخر بمعرفته وصداقته له. عن الدور المشبوه لمؤسسة طابة راجع المقالة الآتية:

http://www.islamdaily.org/ar/alwahabia/11408.article.htm

ويستطرد د. حجازي: “فقد اجتمع مثلهم قبل ذلك في ماردين لتجريد ابن تيمية من فتاواه؛ وإبطال تقسيمه لدار الحرب ودار السلام. بل أن ابن بية خرج في مقابلة له يقول: إن أغلب ما يسمى بقوانين الشرعية الدولية متوافقة مع الشريعة، وإن العالم يعيش اليوم بسلام وتسامح وتفاهم، وأن دار الحرب ليست قائمة. والآن يجتمع أمثالهم وأوسخ منهم في الشيشان. وغداً سيجتمعون في قم وتل أبيب”. عُقد مؤتمر “ماردين دار سلام” في ماردين التركية، آذار 2010 تحت رعاية المركز العالمي للتجديد والترشيد بالتعاون مع مؤسسة كانبوس الإسلامية للاستشارات بلندن، وانتهى الحضور من العلماء والمفكرين وغيرهم إلى التوقيع على بيان مما جاء فيه: “أن تصنيف الديار في الفقه الإسلامي تصنيف اجتهادي، أملته ظروف الأمة الإسلامية وطبيعة العلاقات الدولية القائمة حينئذ. إلا أن تغير الأوضاع الآن ووجود المعاهدات الدولية المعترف بها، وتجريم الحروب غير الناشئة عن ردع العدوان، ومقاومة الاحتلال، وظهور دولة المواطنة التي تضمن في الجملة حقوق الأديان والأعراق والأوطان-استلزم جعل العالم كله فضاءً للتسامح والتعايش السلمي بين جميع الأديان والطوائف في إطار تحقيق المصالح المشتركة والعدالة بين الناس” و”يقتضي أن يعيد الفقهاء المعاصرون النظر في هذا التقسيم لاختلاف الواقع المعاصر الذي  ارتبط فيه المسلمون بمعاهدات دولية يتحقق بها الأمن والسلام لجميع البشرية وتأمن فيه على أموالها وأعراضها وأوطانها”. جاء هذا المؤتمر قبل أشهر من إعلان الشعوب العربية الانتفاضة على الطغم والذي تبين أنها انتفاضة على النظام العالمي ومن دار في فلكهم الذين خذلوا الشعوب، وخاصة السوريين، ودعموا النظام السوري -ولازالوا- في تنكيله بشعب كل الذي أراده يوماً أن يحيا حياة كريمة.

[8] لنا في حزب النور المصري ودراويش الصوفية والعديد من علماء الأزهر خير مثال في وقوفهم إلى جانب حكم الطاغية الانقلابي.

[9] كما حدث مع المجلس الإسلامي السوري وبيانه في التكييف الفقهي لتكفير النظام وطائفته.

[10]راجع هذا الفيديو:

[11] انظر إلى الفتنة المأساوية التي وقعت في غوطة دمشق الشرقية من اقتتال بين الفصائل المسلحة، بين “صقور السلفية وحمائم الصوفية”، ليتضح لكل ذي لب إلى أي منقلب يهرولون.

[12] كنا قد تناولنا بالدراسة العلمية المعمقة “المدارس الدينية السنية في سورية، منذ الاستقلال عام 1946 إلى بداية الثورة عام 2011” لمن أحب الاستزادة.

[13] راجع تسجيلات صوتية عن رجال السلسلة النقشبندية.

[14] من الضرورة بمكان أن تتناول الأقلام الجادة والأكاديمية مشايخ الطرق الصوفية في بلاد الشام بمزيد من البحث والتدقيق، انظر على سبيل المثال في أمر عبد الله الهرري وحركة الأحباش عموماً، وما عليه من إشكالات والذي كان قد حذر منه الشيخ الزحيلي https://www.youtube.com/watch?v=GhkY0q6qI4A

راجع هذا الفيديو لأحد مريديه وهو يمدح شيخه ليرد على الوهابية، ومما جاء فيه أن الشيخ أحمد الحارون وصفه بشيخ الأبدال، والحارون هو الذي كان بينه وبين ابن عربي مكالمة روحانية! وكان يمتحن مشايخ سورية ويحذر منهم. وقد أخذ الخلافة من الشيخ عبد القادر العربيني القادري بأمر الشيخ عبد القادر الجيلاني ليغدو شيخ الطريقة القادرية. كما أن مفتي الرقة محمد أحمد كان يتكلم على المنابر من كلام الشيخ الهرري.https://www.youtube.com/watch?v=Ujhx29R6Xjs

وهذا الفيديو لأحد مريدي الهرري وهو يهاجم الشيخ وهبة الزحيلي لأنه حذر من الهرري:

والعجب أن نكتشف أن جلّ مشايخ الطرق الصوفية كانت قد أثنت على الشيخ الهرري: “أثنى عليه العديد من علماء وفقهاء الشام منهم: الشيخ  عبد الرزاق الحلبي إمام ومدير المسجد الأموي بدمشق، والشيخ أبو سليمان سهيل الزبيبي، والشيخ ملا رمضان البوطي، والشيخ  أبو اليسر عابدين مفتي سوريا، والشيخ  عبد الكريم الرفاعي، والشيخ  سعيد طناطرة الدمشقي، والشيخ أحمد الحصري شيخ معرة النعمان ومدير معهدها الشرعي، والشيخ عبد الله سراج الدين الحلبي، والشيخ محمد مراد الحلبي، والشيخ محمد صهيب الشامي مدير أوقاف حلب، والشيخ  عبد العزيز عيون السود الحمصي شيخ قراء حمص، والشيخ  أبو السعود الحمصي، والشيخ محمود فايز الديرعطاني نزيل دمشق وجامع القراءات السبع فيها، والشيخ عبد الوهّاب دبس وزيت الدمشقي، والدكتور الحلواني شيخ القراء في سوريا، والشيخ  أحمد الحارون الدمشقي الولي الصالح، والشيخ  طاهر الكيالي الحمصي، والشيخ صلاح كيوان الدمشقي، والشيخ  عباس الجويجاتي الدمشقي، ومفتي محافظة إدلب، والشيخ  محمد ثابت الكيالي، ومفتي الرقة الشيخ  محمد السيد أحمد، والشيخ نوح القضاة من المملكة الأردنية وغيرهم خلق كثير”. راجع: عبد الله الهرري، الموقع الرسمي.

[15] الصوفية والإخوان: اتصال روحي وانفصال سياسي.

[16] المرجع السابق.

[17] يتمثل نهج سعيد حوى وبعض الطرق الصوفية في أن التربية الروحية مرحلة ممهدة للنزاع المسلح ضد نظام البعث الحاكم. راجع: الصوفية والإخوان: اتصال روحي وانفصال سياسي.

[18] عبد الصمد بلحاج، البوطي والاصطدام بالسلفية: المذهبية بدعة.

[19] محمد أبو رمان، هل تراجعت الصوفيّة مع الثورة السورية؟! (أكتوبر 2013).

[20] التسمية جاءت نسبة الى الشيخ محمد النبهان الذي توفي في 1975 وكان مؤسساً لمدرسة شرعية تسمى الكلتاوية.

[21] مأمون كيوان، الدور السياسي المحتمل للطرق الصوفية في سوريا.

[22]  للاستزادة حول الجماعة راجع بحث: جماعة القبيسيات، النشأة والتكوين. 

[23] من البدهي أن الفكر الصوفي محور الحديث هنا هو ذاك الذي يُعد الوريث الشرعي للفكر الصوفي في عمق تاريخ الحضارة الإسلامية، وهو الذي خضع إلى انزياحات وتحيزات لثقافات وعقائد دخيلة على الإسلام النقي وتعاليمه.

[24] أحمد رمضان الشليحي، دنيا الوطن http://goo.gl/tGn1m7.

[25] راجع تدوينة ليلى الرفاعي، مداجن دينية سورية تُفرِّخ في إسطنبول، وما تبعها من ردود أفعال تشي بما وقع به البعض من طامات على صعيد النهج السلوكي والتربوي.

[26] وما حدث لمروان حديد وأتباعه سنة 1964 عنا ببعيد.

[27]http://goo.gl/LuqtMi

[28]عن خليل مردم بيك، يوميات الخليل. http://goo.gl/LuqtMi

[29] لما هرب ابن العربي من المغرب وتوجه إلى المشرق لأسباب سياسية وخوف من الاعتقال حيث كان الجو السياسي هناك يلاحق أتباع الفكر الصوفي المتفلسف، استقر في دمشق حيث نشط ولمع نجمه وكان قريباً من الأيوبيين، وربما يعود ذلك إلى مناخ دمشق المائل إلى التدين الوديع الخامل.

من تشكيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *