استهلال
في الوقت الذي يركّز فيه أغلب المفكرين المسلمين منذ عشرات السنين على فضل العقلِ ونعمتِه وضرورة تنمية مَلَكاته لمقتضيات التكليف الرّباني حفاظاً على مهمة عمارة الأرض؛ منادين بالاهتمام به إدراكاً وتربيةً وسلوكاً بوصفه الحلّ السحري لنهضة الأمة ‑مع ما في ذلك في أغلب الأحيان من محاكاة للفلسفات الغربية التي مجدت العقل وعدّته الوسيلة الوحيدة للتنوير والحداثة والعلم‑ فإنّهم يتجاوزون، أو يعرّجون لمماً على ما يتصل بالروح والنفس من تنمية لملكة الوعي الجمالي والرقي بالذائقة الجماليّة، بل والتركيز على الجمال وتمظهراته منهجاً وسلوكاً وذوقاً في حياة المسلم ككل.
ثمَّ ونجد أنّ أغلب الكتابات درست الجمال أو علم الجمال الإسلامي بالتساوق مع الفنّ أو الفنون الإسلامية[1]. أو أنّها درسته ‑كما في أكثر الدراسات الجمالية‑ من خلال اقترانه بالأدبِ والشعرِ والبيان القرآني والتصوير والعمارة الإسلامية…[2].
وفي بعض الدراسات ‑مما وقع بين أيدينا‑ التي تتقاطع مع ورقتي هذه في بعضِ نقاطها وتختلف عنها في مطلبها، تَنَاول الباحثون موضوع الجمال في البنيّة المعرفيّة الإسلاميّة بشكل عام، سعياً لتأسيس “علم جمال إسلامي” مستقلٍ قائمٍ بذاته بعيداً عن تصورات فلسفات الجمال الغربيّة.
أمثال هذه الدراسات: كتاب “الظاهرة الجمالية في الإسلام” لصالح أحمد الشّامي (1986)، وفيه تصور كليّ لظاهرة الجمال في ضوء المنهج الإسلامي، مستخدماً منهج المقارنة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي في ميادين الجمال الثلاثة: الطبيعة، الإنسان، الفنّ. وللمؤلف نفسِه كتاب “ميادين الجمال في الظاهرةِ الجماليةِ للإسلام، الطبيعة، الإنسان، الفن” (1988)، وهو جزءٌ مِنَّ الكتاب الأول حيث تتقاطع معه الكثير من الموضوعات والفصول. أما ميدان الفنّ فقد أفرد الشاميّ كتاباً خاصاً له في “الفن الإسلامي، التزام وإبتداع” (1990). رغم ما لهذه الكتب الثلاثة من الأهمية المعرفية في التنقيب عن الجمال ومفاهيمِه وتمظهراتِه بين الغرب والإسلام، إلا أن ما يُشكل فيها أنّ المقارنات والاقتباسات من المصادر الغربية عن الجمال وميادينه في الحياة ظلت حاضرة في الكتب الثلاثة ما يفوّت التركيز على إبراز الظاهرة الجمالية في الإسلام وحده بشكل متفرّد عما لو خُصص لها كتاباً واحداً.
أما كتاب “مدخل إلى علم الجمال الإسلاميّ” لعبد الفتّاح روّاس قَلْعَه جِي، (1991) فقد استنبط فيه القواعد الأساسية التي تنبعث منها الجمالية الإسلامية، وقسّم فيه الكاتب نظرية الإسلام في الجماليات إلى: الجمالي التفكري، والجمالي الإيماني، والجمالي الفني. وبينما عرض للجانِبَيْن الأوليْن بشكلٍ عام وسريع استحوذ الجانب الفني على الحصة الأكبر من الكتاب، وقد ضمّنه صوراً لمختلف الفنون الإسلامية وغير الإسلامية، كفنون العمارة والخط والرسم والهندسة والمنمنات وغيرها.
وكتاب “علم الجمال، رؤية في التأسيس القرآني” لعبد العظيم صغيري، (2012) تَتَبع فيه الكاتب مفاهيم الجمال في القرآن الكريم والجمال في الهديّ النبويّ دعوةً وتطبيقاً، واجتهادات بعض علماء الإسلام ووجهات نظرهم في جماليات القرآن، فيه مادة معرفية أولية لجماليات القرآن وظّفها لتأصيل علم جمال إسلامي في القسم الثاني من الكتاب والذي يمكن للباحثين البناء عليه وتطويره[3].
أطروحة البحث الذي بين أيدينا يبحث موضع الجمال في الرؤيّة الفلسفيّة الإسلاميّة. ولذا فإنه يختلف في اهتمامِه عن البحث في “الجمالية الإسلامية” أو ما بات يُعرف بـ”علم الجمال الإسلامي” والذي نشهد توجهه معرفياً ومنهجياً ونقدياً نحو الدراسات الجمالية الأدبية في الغالب ونحو الدراسات الجمالية الفنية في بعض الأحيان. ومع الاعتراف بأنّه مساهمة متواضعة يحتاج إلى التوسع أفقياً وعمودياً في مبحث الجمال، إلا أنّ غايتي هنا التركيز أولاً على إبراز جمالية الإسلام، في التنقيب عن الجمال في الإسلام، الذي لا يمكن الفصل بينه وبين الحقيقة. ذلك أنّ الحقيقةَ التي يحُثنا الله تعالى على طلبها فيها جمالٌ نوعيٌ متميز، والجمال نفسُه حقيقةٌ من حقائق الوجود؛ فالجمالُ في الرؤيّة الإسلامية هو المبدأُ على صعيد الوجود والمعرفة والإنسان[4]، وقيمة الجمال قيمة واحدة في ثلاثية قيمٍ كبرى: الحق، الخير، الجمال، التي تنتظم جميعها في المنظومِة المعرفيِّة للتوحيد ومقتضياتِه في معرفة أسماءِ الله تعالى وصفاتِه وتعبد المسلمين بها.
بدايةً، سوف أُعرج سريعاً على مفهوم الجمال في الغرب فلسفةً وواقعاً كونه النموذج الحضاري الآخر المفروض على المسلمين، ثمّ أدرسه في منظومة الإسلام الفكرية باتباع المنهج الوصفي التحليلي النقدي، في الرجوع إلى النصوص الشرعية الأولى، ثم تبيان بعض الأقوال التراثية في ذلك.
لذا قُسمت هذه الورقة إلى قسمين: القسم الأول، حول مفهوم الجمال في الغرب ومنه عرّجت على: الجمال بين المثالية والواقعية، الجمال الإلهي في المسيحية، الجمال بين العقلانية والحسية، مادية الجمال، الجمال: إلى اللامعقولية، جمال ما بعد الحداثة. أما القسم الثاني، فكان مخصصاً لمفهوم الجمال والجميل في منظومِة التوحيد الإسلامية ومنه تتفرع النقاط التالية: دلالات مفهوم الجمال في القرآن والسنة؛ الحقيقة الجمالية الأولى “إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ”، جمال الفطرة وفطرة الجمال، جمال معرفة الإنسان لنفسه ومعرفته لعهده، المسلم بين جمالين: الكتاب المقروء والكتاب المشهود، جدلية الظاهر والباطن في مفهوم الجمال، الجمال والمقاصد الشرعية، بعضٌ من جمال المرأة وجمال الرجل في الفضاء العام، الجمال والفنون الإسلامية.
أولاً: مفهوم الجمال في الغرب
لا يمكن أن نقترب من فهمنا للجمال في الثقافة الغربية ما لم نُدرك نظرتها عن الإنسان ومكانتِه في منظومتها المعرفيّة، وعلاقته بالميتافيزيقا ومنظومة القيم. ومهما تمّ الادّعاء بأنّ المادة الفنّية التي تعكس مفهوماً ما عن الجمال منفصلة عن شخصيّة الفنّانِ وأفكارِه ومعتقداتِه، فإنّ ذلك يُحيلُ إلى محال، لأنّه مِنّ الصعوبة بمكان الفصل بين الفنّ في عصر ما وبين الاعتقادات السائدة لذلك العصر وثقافتِه.
في الحضارة الإغريقية مثلاً نَلْحظ أنَّ الجسَد الإنساني احتلّ مكانةً مركزيّةً في مفهومها للجمال. ومِنْ فَرط افتِتان الإغريق بجسد الإنسان وعضلاته وتناسق قوامه، أَلّهوا الإنسان. كما مثّلوا الآلهة في أجساد البشر، بجنسيه الذكر والأنثى. وفي الوقت نفسه أَنْسنوا الآلهة، فهم يتآمرون ويقتلون بعضهم بعضاً ويعشقون ويخونون ويأكلون ويشربون… ومن هنا أخذت الرياضات البدنية مكانتها الكبيرة في حضارتهم، وعشقوا الألعاب المعتمدة على القوى الجسدية، كالمصارعة (الإنسان مع الإنسان أو مع الحيوان) أو ما يُسمى بالألعاب الأولمبية[5]. مِنْ جهةٍ ثانية مَثّلت المصارعة للإغريق ومشاهدة الدماء والعنف إرواءً لنـزواتهم النفسية من حبّ التسيد وأهواءِ السيطرة على الآخرين، إلى التحكم بحياتهم وموتهم.
وحيث أنَّ الفنَّ انعكاسٌ لثقافة المجتمع وتعزيزٌ لها، ظهرت التماثيل العاريّة وزينّوا العُريّ بطريقتهم. وجعلوا خادمات المعابد مومسات للإلهة “أفروديت” (أو فينوس أو عشتار أياً كان اسمها في الحضارات الغابرة)[6]، إلهة الجمال عندهم المجسدة على شكل جسدٍ أنثويّ، وَوصل بفتيات تلك العصور حدّ التشبه بها إلى أن نَذرْنّ أنفسهن للمعبد ومارسنّ الفحشاء تقرباً منها. وصُوِّرت آلهة تلك الحضارة في النحت والشعر والدراما على أنها النموذج المثاليّ للجمال؛ أيّ لما يجب أنْ تكون عليه الفطرة الإنسانية. ولما جاء الفيلسوف سقراط (339ق.م)[7] ثائراً على ما هو سائد في مجتمعه محاولاً التأكيد على الجمال الباطني وعلى القيم، أُعدم نتيجة تمسكه بأفكاره المخالفة للتيار السائد.
ومِنْ طريف الأمر أنْ نجد هذه الثقافة لا زالت ماثلة أمامنا. في رياضات ما يُعرف بكمال الأجسام والمصارعة الحرّة وغير الحرّة والتي غزت بلادنا غزواً سمجاً بشعاً، حتى صار من الطبيعي للشاب أن يدخل دائرة المرض الهوسيّ في ما يُعرف بتربية عضلات الجسم وجعلها وفق مقاييس معينة. إنّ عدم وضوح تفرّد مفهوم الجمال في الإسلام، أدى إلى انـزلاق بعض التوجهات في تطبيع هذه الممارسات الرياضية على أنها جزءٌ من التطور المجتمعي الحديث أو على أنّها من الدواعي المحايدة للتحديث. وربما سِيقت لها الأعذار بناءً على أنها تُقويّ الجسد، ولا يَخفى أنّ في ذلك ذهول النموذج المعرفي الذي يؤطِّر هذه النشاطات التي قد تبدو برئية، علاوة على الاستحواذ الرأسمالي لها.
أما في حيّز الإناث فقد جرى الابتعاد عن النـزوع الفطري للجّمال -كردّ فعلٍ لتضييق فقه الوعظ- باتجاه التقليعات، بما في ذلك الكشف الفاضح، كجزءٍ من استلاب الإنسان وسلعنته[8]. وهكذا أُحكمت السيطرة ليس على موارد البلاد ولا على الحيّز العام فحسب، بل على الأحياز الخاصة أيضاً.
1.الجمال بين المثالية والواقعية
في الحضارة الإغريقية، أسّس أفلاطون وتلميذه أرسطو بواكير البحث النظري الفلسفي لمفهوم الجمال عند الغرب. فنَشأت الفلسفة الموضوعية المثالية للجمال ومؤسّسها أفلاطون (347ق.م)، ومثال ذلك اعتبار أنّ الجمال يتجاوز المحسوس ويعّلو عليه، وهو مظهرٌ من مظاهر الحقّ وغايته الخير. وبَدأ باكتشاف خصائص الجمال في الموجودات الحسية وأخَذ بالصعود ليصل إلى مصدر هذا الجمال في عالم المعقولات المفارقة، عالم المُثُل ونماذج الجمال الحسي. وربَط بين الجمال والحبّ الإلهيّ؛ فالحبُّ هو الجمالُ بالذات، وكائنات الأرض جميعها عاشقة لهذا المِثال من الجمال الأصليّ وتسعى في مسيرة حياتها للتّشَبُه به، وهذا المثالُّ نفسُه يمثّل مصدر الفنّ والإلهام.
وفلسفة الجمال الثانية عند الإغريق هي فلسفةٌ موضوعيةٌ واقعيةٌ مؤسّسها أرسطو (322ق.م)، مفادها أنَّ الجمالَ صورةٌ متعينةٌ في الواقع أولاً وغير مرتبط بالتصور المطلق، والفنانُ يُحاكي النماذج الواقعية ويحافظ على سماتها الحسّية دون أنْ يلحقها بأصولٍ مثاليّة كما عند أفلاطون. أرسطو ركّز على العقل لإبراز الجمال الإنسانيّ؛ فالإنسانُ أجمل المخلوقات وأنبلها لأنه يمتاز بالعقل ويملك القدرة على التعبير عن أفكاره من خلال اللّغة والفنون. وللفنّ عنده وظيفة تطهيريّة أخلاقية.
2.الجمال الإلهيّ في المسيحيّة
أما الفلسفة المسيحيّة فقد تأثّرت بفكرة الخطيئة الأصلية الفطرية الموجودة في الإنسان، ورحلة المسيحيّ مكرسة للتحرر من هذه الخطيئة عبر الكنيسة. القدّيس أوغسطين (430م) في كتابه “الجميل والموافق” المتأثر بفلسفتي أفلاطون وأرسطو عن الجمال أدخل الصبغة المسيحيّة في مفهومها عن الجمال حين صوّر الله أنّه الخالق ومصدر الجمال في الكون. ويتساءل هل الجميل جميلٌ لأنّهُ مُرضٍ أم أنه مُرضٍ لأنّهُ جميل؟ ويجيب: لأنّه جميل فهو مرض، وهو جميل لأن أجزاءه تتشابه وينظمها انسجام واحد[9]. المسيحية استبدلت الفكرة اليونانية القائلة بالخير الأسمى أو الجميل أو الحكمة التي تصدر عنها جميع الأشياء الجميلة بالإله. والجمال يتطلب التكامل والكمال والتناسب الواضح والوضوح والتناسق… كما عند توما الأكويني (1274)[10]. أوغسطين والأكويني تمسكا ودافعا عن نظرية الجمال الإلهي.
3.الجمال بين العقلانية والحسية
في عصر ما يُسمى بالتنوير جاء موقف ديكارت الفرنسي (1650)[11] من الجمال متسماً بالطابع الذاتي النسبي الذي يتيح تدخل الإحساسات والأهواء الفردية في تقديرنا للجمال. وللجمال معنى عقلي وليس صفةً في الشيء تقوم بمعزل عن إدراكنا له، فانتفى بذلك الربط بين الحقّ والجمال، إذْ لا بداهة جمالية كما لا وجود للحقيقة. والحكم الجمالي أصبح خاضعاً لإعجاب المتذوقين. ومن هنا برزت اتجاهات جمالية ترتكز إلى النظرة الذاتية للجمال وظهر الربط بين مبحث الجمال وعلم النفس.
وبعدما كانت مقولة الجمال مرتبطةً بالفلسفة غدت مع الألمانيBaumgarten باومجارتن (1762) منفصلةً عنها، ونشأ ما عُرف بالاستطيقا Aesthetic العلم الذي يهتم بالطبيعة وتقدير الجمال والفن والذوق ويُعنى بـدراسة المدركات الحسية أو علم المعرفة الحسية المرتكزة إلى منطق الخيال الفني…، له مجاله الخاص المستقل عن المعرفة النظرية الذي يقوم به الذهن وعن السلوك الأخلاقي المعتمد على الإرادة[12].
المدرسة الإنجليزية التجريبية (من أبرز ممثليها هيوم ولوك وبيرك…) ربطت الجمال بالإحساس ودرست الأشياء التي تحدث اللّذة في نفوس البشر. فميزت هذه المدرسة بين الجمال والمنفعة وعدّت الطبيعة المعيار الذي نقيس به الجمال والأصل لكل الأعمال الفنية. بيرك (1797) مثلاً فرّق بين الجمال والكمال وبين الجمال والفضائل وأراد إنشاء علم للجمال يحدد فيه معيار خاص للذوق[13]. أثّرت هذه المدرسة في أفكار الفيلسوف كانط.
حيث نظر كانط الألماني (1804) إلى إدراكنا للجمال في الأشياء بوصفه إدراكاً مباشراً مستقلاً عن تصورنا لما هو جميل. وأنّه لا حاجة بنا إلى برهان للتدليل على جمال الأشياء[14]، إنما تتبدى في الشيء سمة الجمال نقيس بمقتضاها جمال الأشياء؛ فالجميلُ هو ما يروق لكل الناس أو هو حكم الذوق الذي ينطبق على الجميل. الجميل هو الذي يبعث في النفوسِ السرور والارتياح واللّذة دون تحقيق أيّة غاية. واتصف الجمال مع كانط بالكلّية والضرورة والأولية “وأصبح مجرداً عن المضمون الاجتماعي والتاريخي القابل لأن يتغير ويتطور بحسب ظروف الزمان والمكان”[15]، بمعنى هو حكمٌ كليٌّ يَفقِد قيمتَه ما لم يتصف بالشمولية والدوام[16] لأنه لا يقوم في الموضوعات ذاتها بل في النفس؛ كاتفاق غالب الأذواق على أنّ تمثال أَفرودِيت المصنوع من المرّمر أجمل من التمثال نفسه المصنوع من الطين، وأنّ الجمال المحض هو جمالُ الشكل لا المضمون. في كتابه “نقد الحكم” فَصَل العمل الفني عن الواقع وفرّق بين الشكل والمضمون. وأصبح الجمال لا علاقة له بالأخلاق.
ثُمّ أتى هيجل الألماني (1831) بفلسفةٍ للجمال “ليست في الواقع إلا فلسفة للفنون الجميلة”[17] تُعلي من اتحاد الشكل بالمضمون، والتأثير المتبادل لكل منهما في الآخر. الجمال من خلق خيالنا لا وجود له في عالم الواقع. الجمالُ فكرةٌ خالدةٌ. والإنسان أسمى المخلوقات وأجمل ما أنتجته الطبيعة لأنّه يَملِكُ العقل. والفنّ تحقيقٌ لفكرة هيجل عن المطلق. فهو التجليّ المحسوس للفكرة، فمضمون الفنّ ليس إلا الأفكار، وهو ليس تقليداً للطبيعة أو محاكاة لها، بل محاولة الكشف عن جوهر الحقيقة[18].
أما شوبنهاور (1860) صاحب النظرية المثالية عن الجمال فيرى أنه تأملٌ روحي خالص لا غاية له، وأنّ الظواهر الجمالية ذات طبيعة روحيّة أوليّة، بينما يَبحثُ الماديون عن الأساس الموضوعي للظواهر الجمالية في الطبيعة وفي حياة الإنسان. والفنّ عنده هو “القراءةُ في الطبيعة بحثاً عن جوهرٍ غير طبيعي، وإعطاء ذلك الجوهر الشكل المرئيّ المناسب له.”[19] ولهذا السبب يُحبُّ البشر الجمال، فهم حين يرون الجميل في الطبيعة البشرية يتمثلون الجوهر الأصلي الماورائي المفارق بأنسنة أُضيفت عليها المثالية بدرجة متعالية.
جماليات القرن التاسع عشر[20] سَعَت إلى التحرر من القيم والأخلاق أكثر فأكثر. وغَدَت الطبيعة لا قيمة جمالية لها إلا من خلال فنّ من الفنون يحاكيها أو يقلدها. وتم تصوير أو تقليد الطبيعة تقليداً مطابقاً لها، حَكَمَتها نظرة الفلاسفة آنذاك في السعي للسيطرة عليها وإخضاعها للإنسان، فكانت العلاقة بين الطبيعة والإنسان (سواء أكان فناناً أم فيلسوفاً) علاقة قوة وتحكم وإخضاع لا تسخير وتفاعل وانسجام.
ونتج عن رفض الربط بين الخير والجمال وبين الأخلاق والجمال مذهب الطبيعيين المنادي بمذهب “الفنّ من أجل الفنّ”، ونتج عن الأخير الأدب المكشوف الذي عارض قيم المجتمع والدين معاً. فالفنُّ ليس شيئاً آخر إلا الفنّ، وتتمثل قيمته في ممارستنا المباشرة له لا ما يُحدثه من تأثير على السلوك الإنساني.
4.مادية الجمال[21]
في المقابل وكردٍّ على تلك النظرة ظهر في الحداثة المتأخرة مذهبان أساسيان في عالم الجمال: المذهب الوجودي والمذهب الماركسي، اللذان ربطا الفن أو الجمال بالسلوك البشري ربطاً متطرفاً.
الماركسي نسبة إلى ماركس الألماني (1883) مثلاً وَظَّف الجماليات كلّها في أيديولوجيته؛ لا جمال إذا لم يخدم المجتمع وأهدافه السياسية، وتمت التضحية بالأسلوب لإعلاء الأسس الماديّة للمجتمع وإثبات نظرية صراع الطبقات. فالآراء الجمالية هي آراء الإقطاعيين/الطبقة الأرستقراطية، والفنّ يجب أن يكون للمجتمع ويمتلك وجوده الواقعي. علم الجمال هو فهمُ الإنسان الجمالي للعالم المحيط به حسب قواعد منتظمة، خاصة إدراكنا لطبيعة التطور الاجتماعي وقوانينه[22].
ومع بروز النــّزعة العلمية وتبني الوضعية التي سَعَت للخلاص من التأمل الفلسفي في تفسيرها للكون والإنسان سَعَت في الوقت نفسِه لإقامة علم تجريبي للجمال على نَسَق العلوم الطبيعية[23]، يُركّز على البحث عن القواعد والمبادئ التي ينبغي أن ينتهجها الفنان في إنتاجه أو الناقد الفني في نقدِه أو المتذوق في تذوقِه للجمال. مجال البحث هنا هو عقلُ الفنان ونفسيته لمعرفة الظروف التي تُؤثّر في إبداعه والأذواق التي تميّز عصره.
ثم أصبحت حقيقة العالم كلها مسّتمدة من المادة، والإنسان نتاج هذه المادة، وعقل الإنسان وفكره نتاجان للدماغ الذي بدوره هو مادة، ونشاطاته عبارة عن سيالات مادية.
بلغت هذه الفلسفة المادية ذروتها مع نظرية دارون الإنكليزي (1859) في أصل الأنواع والتطور أو “الانتخاب الطبيعي”، التي جعلت من الإنسان حيواناً متطوراً تَنحصر مطالبه وحاجاته في الطّعام والشّراب والمأوى وشهوات الجسد… ومع دارون أُقصيت روحانية الإنسان وأُصّل لحيوانيته تأصيلاً علمياً مدعماً بعلم الأحياء‑بزعمهم. ثُمّ أتى فرويد النمساوي (1905) ومعه المدرسة التحليلية فأقرّت حيوانية الإنسان على الصعيد النفسي[24] كذلك، حيث أنّ الدوافع الأساسية للفرد تكمن في اللوبيدو مستودع الشهوات. ماركس ودارون وفرويد ثلاثيّ كَرّسوا لحيوانية الإنسان وخلّوه من الروح، تلك الفرضية التي ألقت ظلالها على الفن والأدب وعلى الظاهرة الجمالية بشكل عام، وحين يُستحضر الجمال يُستحضر غالباً ضمن منظور الفلسفة النفعية.
وهكذا غدا الإنسان خالياً من الروح، بعيداً عن المثل والقيم الدينية والأخلاقية العليا بلّ في تركيز البشر على العلم والعقل أَبعدَ الإنسان عن البعد الجمالي التأملي للوجود. والظواهر الأخلاقية لا تُعرف حقيقة، فهي دائماً وأبداً مشكوكٌ فيها لا يُعرف منها شر ولا خير.
ثُمّ ومع تقدم الصناعات في مجتمعات الغرب، ومع تفشّي النظرة التجزيئية للأشياء وانقسام العلوم إلى تخصصات صغيرة ضيقة تطال حيزاً صغيراً من حياة المجتمع برز المذهب الانطباعي، ونَشأت السوريالية والتعبيرية كمدارس فنية متأثرة بفرويد الذي ركّز على اللاوعي الإنساني وآثار دوافعه على السلوك الإنساني.
5.الجمال: إلى اللامعقولية
ومن فلسفة برجسون الفرنسي (1941) خَرجت علينا التيارات الحدسية في تفسير الظواهر الجمالية ومن أبرز ممثليها بندتو كروتشه الإيطالي (1952)، ممثل المذهب المثالي في علم الجمال، الذي يعيد الحقيقة إلى العقل وما فيه، والذي عرّفه بوصفه “علم لغويات عام؛ لأنه العلم الذي تنصرف عنايته إلى وسائل التعبير”[25]. وأنّ “موهبة الخلق الفنيّ لا يمكن أن تنفصل عن وسائل التعبير التي يتعامل بها الفنان… فحدس الموسيقي لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى نمط من الأصوات…”[26]. وعُرف عن كروتشه نقده لعدد من المذاهب: التي توحد بين الفنّ وبين الواقعة المادية، أو التي تتحدث عن علاقة بين الفنّ والمنفعة العملية أو اللذة، أو تلك التي توحد بين العمل الفني وبين الفعل أو السلوك الأخلاقي، أو التي توحد بين الفنّ والمعرفة التصويرية. فللّفن مجاله الخاص المستقل عن الأخلاق واللعب أو اللذة.
ديوي الأمريكي (1952) عدّ الفنّ انعكاساً للقيم الفكرية السائدة في مجتمع ما، الفلسفية والدينية والاجتماعية والسياسية. والفنون السيئة انعكاسات لشعور ووجدان سيء. وكلّ مجتمع يُهمل تهذيب الذائقة الجمالية يؤدي إلى أفراد محكومين بفوضى الانفعالات والوجدان المشوهة للفطرة. والخبرةُ الجماليةُ[27] هي ظاهرةٌ اجتماعيةٌ غير منقطعة عن خبرات الحياة المختلفة. ولا تُستمد من المتاحف والمعارض والمكتبات. فكلّ خبرة عادية سواء كانت عملية ذهنية أو مجرد أداء عمل يدوي ناجح لها طابع جمالي[28].
ومع نموّ الرأسمالية في الغرب، نــزل الفنّ التصويري إلى حياة الإنسان العادي لتعبر عن معاناته وقلقه واغترابه وعزلته، واقتربت من الجماهير ومشكلاتهم في نــزوحها إلى الحياة في المدن وما تبعها من مشكلات اقتصادية في استغلال الطبقات العاملة. وانتشرت أعمال التصوير الانطباعي (مونيه 1926) مع ظهور النــزعة الواقعية بعد الحرب العالمية الثانية وفي الوقت نفسه عُورضت المثالية الجمالية التي سعت للتعبير عن مثال للجمال المطلق. ثم ظهر اتجاه مع جورج لوكاتش المجري (1970) المتبني للجدلية الهيجلية الباحثة في جوهر الفنّ مضموناً وشكلاً.
في النصف الثاني من القرن العشرين ابتعد الفنّ عن التصوير المباشر للحياة وظهرت النــزعة التجريدية واللامعقولية، و”لما كان الوعي الإنساني حرية كما ذهبت إلى ذلك الفلسفة الوجودية فكذلك مَاَل الفنّ إلى اللامعقول والتعبير بالرموز عن خبرة الإنسان”[29]، وانفصلت الفنون عن كل ما يمكن أن يُسند إلى ماهية ثابتة، وأَخَذَ الخيال الإنساني مكانةً له في قدرته على نفيّ الواقع وتجاوزه.
6.جمال ما بعد الحداثة
فلسفات ما بعد الحداثة ومع طغيان نماذج المجتمعات الاستهلاكية أَثّرا بشكل كبير على الذائقة الجمالية خاصة في فنون العمارة والفنون البصرية. لم يعد الفنّ هدفه الجمال أو السعي نحو إعلاء القيم والحقيقة، إنّما الكسب والحصول على الفائدة السريعة. وبسبب طغيان وسائل الاتصال والتواصل وسيلان بنك المعلومات، وحيث الأرض بَدَت قريةً صغيرة واحدة، حلّت الآلات محلّ الإنسان وظهرت سلطة من نوع آخر، سلطة المعلومات التي عملت على الفصل بين عالمي دول الشمال ودول الجنوب. ولم تعد مفاهيم الحقّ والخير والجمال قيماً. وبدلاً من السؤال الأزلي هل هذا حق أو جميل؟ أصبح السؤال المشروع الوحيد ما مدى تحقيق النفع والفائدة واللذة؟
وبدلاً من وجود معنى داخلي واحد للموضوع الجمالي أصبح ذا معانٍ تختلف باختلاف المتلقين وأذواقهم ومرجعيتهم الثقافية والاجتماعية. وزاد الاهتمام بفنون المشاهدة البصرية وأصبح للفن صفة البرجماتي السريع الإيقاع. وغابت في الأعمال “صورة الإنسان السوي لتحلّ محلها صور للإنسان القلق، والإنسان الذي أنهكه التعب، والإنسان الضائع، والإنسان الذي اعتصره الزمن، والإنسان المشوّه، والإنسان الحيوان…”[30]. وانتشرت مقولة أنّ الفنّ لا يأتي بجديد ولا يحمل عنصر الإبداع، إنّما هو مجرد أعمال مستنسخة متكررة. ما يدلنا على أنّ مفاهيم الجمال ما بعد حداثية ليست إلا انعكاساً لمجتمعات طغت عليها الصور السلعية المستنسخة حسب احتياجات المستهلك[31] في رأسمالية عالمية مخيفة تجسدت في عمران مادي كمي؛ أبنية متراصة متطاولة خالية من الروح والهوية تحكمها هي كذلك نمط إيقاع الحياة السريع والاستهلاكي والفردية الأنانية. ولِمَ الاستغراب، فتلك المقدمات تتبعها هذه النتيجة، فإنْ “لم يكن هناك روحٌ للإنسان، فلِمَ إذن نحرص على أن يكون للمدن روح؟”[32].
خضع الجسم لمقاييس كمية مادية كذلك الأمر، وأُدخل مختبرات تجريبية لقياس الظواهر الجمالية وتحديد الشعور بالجمال عبر علم النفس التجريبي[33]، حتى سمعنا عن تجارب أجراها التجريبيون وأبرزهم فخنر الألماني (1887) الذي حاول بدوره قياس الإحساس الكيفي الذاتي وشدته قياساً موضوعياً كمياً[34]، فخرج علينا بمنهج يقيس فيه لذة الشعور بالجمال. ومنه خرجت علينا مسابقات “ملكات الجمال” وما يُسمى بـ”عارضات الأزياء” بمقاييس مادية قاسية، وصار الجمال مادةً تقاس ووزناً وطولاً يُحسب، وربحاً ومالاً وسلعاً تُباع وتُشترى. ملكة جمال الكون وملك جمال الكون وكمال الأجسام أو بطل الأوليمباد يربحون مبالغ مالية والكثير من العروض المغرية لممارسة الحياة الاستهلاكية والترويج لمنتجات الوحش الاستهلاكي. هذا الإعجاب الكمي الذي نشأ عن الفلسفة التجريبية يُسقط من أولوياته الخصائص الجوهرية للظاهرة الجمالية.
ولما غدت الحرية في الغرب الحداثي تعني التمتع بكلّ ما يحيط الإنسان من أشياء تحقق رغباته وسعادته، أَلّهت الإنسان مصدر كلّ الأشياء والمعيار لما هو جميل وقيّم؛ فالجمال هو كلّ ما يصدر عن الإنسان وعن أهوائه وأحلامه ورغباته، والرغبة فقط هي الحاكمة للطبيعة الإنسانية، وعلا هذا النوع من الجمال فوق الحقّ، بلّه إنّ القَيّم والجميل ما يحقق من النفع والفائدة. والمصالح أضحت الحَكم على العلاقات وعلى كيفية كسبها في حال تضاربت مع مصالح الآخرين، حتى لو اقتضى ذلك التحكم والسيطرة على حياة ونمط حياة الآخرين.
في هذه المجتمعات التي تُطلِق على نفسها بـ”الديمقراطية” والتي تنادي باحترام حرية التعبير أصبح الحكم على أذواق الآخرين ونظرتهم للجمال مهددة للحرية الفردية، فلا يجوز لإنسان الادعاء أن سلوكاً ما خيرٌ من سلوكٍ آخر إلا إذا أدى ذلك السلوك إلى إشباع رغبة من رغباته هو، دون الآخرين.
وإن عرفنا أن من شروط تحقق جمالية اللوحة الفنية أو أيّ عمل فنيّ وأدبيّ أنْ لا يقتصر على إثارة لذة الحواس بلّ لا بدّ من إرواء الخيال عن طريق هذه الحواس، فإنّ ما نشاهده اليوم من انحراف في هذا الشرط واضح جداً في اعتماد الفنون والأفلام والإعلام والإعلان… على إثارة اللذات الحسية بشكل قبيح ماديّ صرف. وقد بلغ التشويه في فطرة الشعور بالجمال الإنساني مبلغاً جماً حين وصل إلى تجميل البشع والمزيف، وباتت همّ الآلات المُصدِرة للفكر المُشوّه التركيز المكثّف على المشاعر المنافقة وإبراز الحبّ الطيني المغلّف بالصور الخادشة للحياء اجتماعياً وأخلاقياً وعدته نموذج جمال العلاقة بين الجنسين[35].
لم يقتصر الغربي على فرض معاييره المشوهة للجمال في مجتمعه، بل امتدّ الاستعمار الغربي في صيغته الاستهلاكية المعولمة إلى حدّ فرض محدداته للجمال ومقاييسه على صعد حياة المسلم كافة وهو في قلب مجتمعاته، حتى طالت مفهوم الجمال العَقدي. ولم تعد الأصنام والأوثان والشركيات مقتصرة على الماديات المحسوسة كما يظن البعض، بل أصبحت متغلغلة في نمط المعيشة وفي قلب وجداننا وفي أفكارنا وفي خضوعنا لعجلة الاستهلاك هذه التي تسحق أمامها كل القيم الجمالية والأخلاقية. وهذا كان بالضبط عمل النــزعات الفلسفية الإنسانية، حينما فصلت الدين عن الجمال والجمال عن الدين، وعدّت الدين والالتزام قيوداً تَحد من حرية الإنسان والفنان بشكل خاص[36]، ذلك أنها تسعى سعياً حثيثاً لاستبدال الدين بالفن، وأصبح الجمال على إثره معبوداً لذاته يفتن النفوس ويصرفها عن المعنى الحقيقي له.
وما طغيان الماديات والأهواء والأذواق المشوَّهة الحاضرة في عصرنا إلا لكون الفلسفات الغربية وضعية بشرية عجزت عجزاً مريراً عن تحقيق التوازن والتناسق بين الظاهر والباطن، حيث انقطعت جماليات تواصل الإنسان واتصاله وخالقه واتصاله ونفسه، وغابت تجليات الصور الجميلة في الكون وفي علاقات الناس بعضهم ببعض عن لبّه.
إنّ البشرية جمعاء تحتاج إلى نهجٍ ربانيّ يُبين ويُرشد الناس إلى الصورة المثلى لتحقيق التوازن بين الجمال الظاهري والباطني، وإلى ملكة ذوقية جمالية تستند إلى الإدراك الحسي والذهني معاً ليكشف عن جمال المضمون والجوهر دون تشويه أو تدنيس أو تقبيح.
❊ ❊ ❊
ثانياً: الجمال والجميل في فلسفة التوحيد
الجَمَالُ كغيره من المفاهيم يحتكم إلى منظومِة التوحيد الإسلامية ومؤطّر به، التوحيد المبدأ الأول للوجود والإنسان.
وقد تناول العلماءُ المسلمون موضوع الجمال بقدرٍ معمق وشامل؛ من المعتزلة والزهاد والمتصوفة والفلاسفة الذين ربطوا الجمال بالأخلاق عقلاً وشرعاً وتجلياً. علماء الكلام مثلاً عدوا الحسن بالعقل حسن بالشرع، فما حسنه العقل حسنه الشرع، وفي ذلك موقف جمالي عقلي يطابق بين الجمال والحقّ. كذلك للغزالي[37] وابن خلدون وابن القيم وغيرهم آراء في الجمال كما سنعرض في هذه الورقة.
وسيتبين معنا أن قيمة الجمال في الإسلام قيمة حقيقية أصيلة؛ لأنَّ الله جميلٌ، ولأنّ الإسلام دين الجمال ومحاسن الأخلاق، ولأنّ النبيّ مُحمد صلى الله عليه وسلم ما أُرسل إلا رحمةً للعالمين وكان خُلُقه القرآن، ولأنّ القرآن، كلام الله، مليءٌ بالصور الجمالية وأنّ نظمه من أحسن النُّظم، فما من مسلم ومسلمة إلا ويؤثر في أعماق وجدانهما إيقاع القرآن ونظمه وروحه أبلغ الجمال.
1.دلالات مفهوم الجمال في القرآن والسنة
في الكتاب الكريم المقروء النابض بالجمال لغةً ومحتوىً، وردت مفاهيم ارتبط بعضها بدلالة واضحة بمفهوم الجمال: كالزّينة والحُسن والمتاع والتسوية والإبداع والزخرف… وبعضها ارتبط بوصف الكون والطبيعة وألوانها جمالياً، وبوصف الإنسان صورة ومعنى من حيث الصفات والأفعال الخاصة بعالمي الذكورة والأنوثة. وارتبطت دلالات بعضها الآخر بسياق الآيات بشكلٍ غير مباشر.
وقد وصف القرآن الكريم التأثيرات المختلفة للجمال وَوقعها على النفس المتلقية للجمال في تنوعاتها. ومن آثار الجمال على النفس في ميادين عدّة نجد الحديث عن: حُسن الحديث وجمال القول وأثر البلاغة واللين في القول والقَصد في المشي، قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]. وفي السُّنة الشريفة معان تَصف مظاهر الجمال من حيث آثارها على النفس الإنسانية مثل التشبيه الجمالي للمؤمنين حين خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه مستثيراً فيهم الشعور بالجمال “ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة. أرأيت لو دخلت صُبرةً فيها خيلٌ دُهمٌ بُهمٌ، وفيها فرس أغرُّ مُحجّلٌ، أما كنت تعرفه منها؟ “فإن أمتي يومئذ غُرٌّ من السجود مُحَجّلون من الوضوء”[38].
كذلك يصف القرآن الشعور بالجمال من جراء الانتفاع بالمنافع المادية للجِمال، وبما تحققه من متعة للنظر وارتياح بالنفس، {الْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤوفٌ رَحِيمٌ} [النحل 5 -7].
ثم نجد أن مفاهيماً مثل الحسن يرسخ فيه وجود حقيقي للجمال، ومفاهيم دالة على الاستعمال الوظيفي النفعي سلباً أو إيجاباً كالزّينة، ومفاهيم يتداخل فيها الجمال شكلاً ومضموناً، ظاهراً وباطناً مثل التسوية.
أما في دائرة السلوك والفعل الأخلاقي فإن القبح مقابل الجمال، جمالك أن تفعل كذا وكذا… أيّ الزم الأمر الجميل في أفعالك… وأَجمِل طلبك أي اعتدل… والتجمل تكلف الجميل، أيّ بذل الجهد بالتزام السلوك الحسن. وإذا أُصبت بنائبة فتجمل؛ أي تصّبر. فالصبر هنا مفردة من مفردات الجمال كقيمة أخلاقية[39]. والجمال اصطلاحاً هو “أحد المفاهيم الثلاثة التي تُنسب إليها أحكام القيم أعني؛ الجمال، والحق، والخير”[40].
نأتي بشيءٍ من التفصيل لأربعة ألفاظ متداخلة ومترادفة لمفهوم الجمال في القرآن الكريم والسُّنة الشريفة والتي فصّل فيها فقهاء اللغة والعلوم القرآنية:
الحسن[41] أوسع وأشمل من مفهوم الجمال، وهو دال على الجمال الحقيقي في حقيقة الشيء وجوهره. وهو كل ما هو ضد القبح أو ضد السوء من أحوال الخَلق والخُلق؛ أو الفعل والصفة[42].
الحسن والجمال، صفتان مترادفتان فطريتان للأشياء كلها، كما يقول الغزالي (505ه/111م): “كلّ شيءٍ فجماله وحسنه في أنْ يحضر كماله اللائق به الممكن له فإنْ كان جميع كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال، وإنْ كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر… ولكلّ شيء كما يليق له وقد يليق بغير ضده، فحُسن كلّ شيء في كماله الذي يليق به.”[43] وكذا يقول ابن خلدون (808ه/1405م) أنّ الحُسن والجمال في كلّ مدرك هو ملاءمة في الأشكال والأوضاع كلٌ “بحسب مادته بحيث لا يخرج مما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع.”[44]
فالتعامل الجمالي يكون على مستويات عدة؛ المستحسن من جهة البصر والسمع والشم أيّ الحس، وهو في المستوى الأدنى من التذوق الجمالي. وهناك المستحسن بالبصيرة ومن جهة العقل، والمستحسن من جهة الهوى[45]. على مستوى الحس عندما يُقال الحسن في العينين والجمال في الأنف. وعلى مستوى المضمون، يقول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]؛ أي يعاملهما وفق ما يحسن حسناً. {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125] وهو مرتبة الإحسان في العبادة من حيث التطبيق، والقول الحسن، والقرض الحسن، والموعظة الحسنة…
وحسّنت الشيء تحسيناً أي زينته. ويستحسن الشيء أي يعده حسناً. وفي القرآن الكريم {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] أي حسّن خلق كل شيء[46]. وفي الحديث تعريف للإحسان ”أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك”[47]، فالإحسان هو صفة العبادة في مستوياتها العليا. هو المرتبة العليا لمعرفة الله التي تشير إلى قيمة الإيمان وفضيلة الإتقان.
ومن المفاهيم القرآنية المتداخلة والجمال مفهوم التسوية[48]وهي جمال الخلقة وحُسن قوامها، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة: 9]. التسوية ليست كما نقرأ في أغلب كتب التفسير واقعة في نطاق الجسم والخلقة فقط بل تشمل الجمال الروحي والعقلي. فالإنسان جسم وعقل وروح بكليته. ولا يمكن الفصل بينها. والتسوية هي ذلك التناسق والتكامل ما بين الباطن والظاهر وهي أعلى درجات الجمال {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]. خَلقٌ فتسويةٌ فاعتدال… والله وحدهُ القادر على تسوية الخلق وتجميلهم شكلاً ومضموناً، أيّ جعْل كلّ نوع وجنس من الموجودات مناسباً للأعمال التي في خلقته وجبلته والتي فيها تمام الخلق والتكوين. وفي تعبير جميل لسيد قطب (1386ه/1966م) في هذا الصدد يقول: “وإنّ الإنسان لمخلوق جميل التكوين، سوي الخلقة، معتدل التصميم، وإنّ عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو، وأعجب من كل ما يراه حوله. وإنّ الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي، وفي تكوينه العقلي، وفي تكوينه الروحي سواء، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء”[49]. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14]، استوى: أيّ بلغ خلقه التمام لاكتمال جسده ونضج عقله، ولاكتمال رجولته أوتي الحكمة والعلم، {أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلًا} [الكهف: 73].
أما الزينة[50] فهي اسمٌ جامعٌ لكل شيء يُتزين به، مرتبط بالجمال الحسي المادي مثل ما يتزين به الجسد من ملبس وطيب. فالزينة “تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلّية أو هيئة. وهذا الجمال لا يتجاوز حدود الحسية فهو في نهاية الأمر بهجة العين التي لا تخلص إلى باطن المزيّن”، مع ذلك ففي القرآن حقول دلالية مختلفة للزينة، فالزينة الحقيقة: “ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة.”[51]
الزينة على ذلك ثلاثة مستويات: زينة نفسية مثل الاعتقادات الحسنة والعلم وحُسن السلوك، وزينة جسمية كالقوة والطول وحسن الوسامة، وزينة خارجية كالمال والأولاد والشهرة والسلطان والوجود… والله تعالى أمر بإعمال النظر والتدبر في زينة الكون الفسيح حين أتت في سياق الخلق الإلهي {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]. {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16] …
الوجود كله زينة، والزينة وُجدت للإنسان كي تحيطه بالجمال وتعينه على أداء الأمانة التكليفية، {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]. {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]. والزينة كذلك مفطورة في قلب الإنسان، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. وهناك الزينة المرتبطة بالتوحيد والإيمان {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]. وزينة جمعت بين المادي والمعنوي، مثل البحر أي فيه ما يؤكل وفيه حلية زينة نلبسها، وسيلة التجميل وصنع الجمال، فإما ابتغاء الجمال والحلية وإما المنفعة {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 14-16]. وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “زيّنوا القرآن بأصواتكم”[52]، أي: زيَّنوا قِرَاءتَكم القُرآن بأصواتِكم. وعن أبي موسى الأشعري قال: استمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءتي من الليل، فلما أصبحت قال: “يا أبا موسى، استمعت قراءتك الليلة، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود”، قلت يا رسول الله، لو علمت مكانك، لحبرت لك تحبيراً”[53]، أي حَسَّنتُ قِراءته وزَيَّنتُها. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن”[54].
الزينة تأتي مع الابتلاء والتمحيص كذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].
أما الإبداع، فالبدع هو الشيء الذي كوِّن أولاً، {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 9]. والبديع اسمٌ من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وخلقها لا على مثال سابق. أما الإنسان المعماري أو الرسام أو الفنان أو الصانع… فإنّه لا بدّ وأنْ يَستمد عناصر مادته من خبرات وأوليات مادية وحسية سابقة يعيد الخيال تركيبها من جديد، أيّ على مثال سابق.
2.الحقيقة الجمالية الأولى: الله جميلٌ مُحبٌّ للجَمَال
الجمال صفةٌ من صفات الألوهية، “إنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحبُّ الجَمَال”[55] وكما أمرنا الله التعبد بأسماء جلاله كذلك أمرنا بالتعبد بأسماء جماله. ويكفي استحضار هذا الحديث لنستشعر أهمية الجمال وانعكاساته على الوجود بأكمله، الوجود الكوني والوجود الإنساني معاً. ونحن نعلم أنّ من أصول الدين معرفة الله تعالى وهي معرفةٌ ضرورية، والله وصف نفسه بالجميل، فكيف بنا لا نفهم هذا الوصف الذي يدلنا عليه سبحانه وعلى عظمته المتجلية في الكون أجمع؟
يفسر ابن منظور (711ه/1311م) في لسانه ذلك على أنّه تعالى حسن الأفعال كامل الأوصاف[56]. إنّ الله جميلٌ يحب الجمال أيّ جميل الأفعال وهذا هو الجميل في ذاته، ومنه تفيض الجَمَالات والخَيرات جميعها وهذا هو تأثير الجمال عل الآخرين، ومن يبلغ هذه المرتبة فإنّه ينال محبة الله.
لابن القيم (751ه/1350م) تفسير جميل بهذا الخصوص، فجمال الله جلّ وعلا على مراتب: جمال الذات وجمال الصفات والأسماء وجمال الأفعال. فأسماؤه تعالى كلّها حُسنى، وصفاته صفات كمال وأفعاله كلّها حكمة وعدل ورحمة. أما جمال الذات فلا يطال إدراكها بشر. لكننا نستبطن جماله تعالى من خلال الترقي في معرفتنا لأفعاله وصفاته الجميلة جلّ علاه[57].
كلّ ألوان الجمال والخير والحق تجليات لصفات الله جلّ وعلا، جمال الله الجمال الكامل يعني كما يشرح الغزالي أن “لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنةٌ من حسناته وأثرٌ من آثار كرمه وغرفةٌ من بحر جوده، بلّ كلّ حسن وجمال في العالم أُدرك بالعقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس من مبتدإ [كذا] العالم إلى منقرضه ومن ذروة الثريا إلى منتهى الثرى فهو ذرة من خزائن قدرته ولمعة من أنوار حضرته… إذ ليس في الوجود تحقيقاً إلا الله وأفعاله.”[58]
التعبد باسم الله الجميل يكون معرفةً وسلوكاً؛ حيث معرفة الله سبحانه بالجمال من أعزّ أنواع المعرفة، معرفة جماله الذي لا مثيل له، وعبادته تعالى وفق ما يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، بدءاً من تجميل اللسان بالصدق والعين بالغض والسمع بسماع ما هو حسن والقلب بالإخلاص والتوكل والجوارح جمعاء بالطاعة والجسم بالطهارة والنظافة وإظهار نعم الله عليه، عندها يتعبد المسلم الله بحلّة جمالية تامة قولاً وعملاً؛ ويكتشف تجليات الجمال فيها ويستشعر المتعة بتطبيقها، وهو يعبد الله ويعرفه. فمن كمال صفات الله تعالى الجمالية “التي تدل عليها أسماؤه تعالى: الرحمن الرحيم اللطيف البديع الخبير الرؤوف المصور الجليل الكريم الحق الحميد الودود العفو الغفور… منها تفيض على العالم الواقعي صفات جمالية في الكون والإنسان والحياة متعددة بتعددها لها مسميات مختلفة؛ كالرحمة والرأفة والخير والمعروف…”[59].
نهج حياة المسلم الحق لا بدّ أن يكون في صنع الجمال وخلقه على النهج الرباني وعلى التخلق بخلق الجمال وبتمثله شكلاً ومضموناً وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه لبلوغ مرتبة المحبة المتبادلة {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، مرتبة الإحسان التي ما بلغها مسلم حتى أطلق قيم الجمال في الأنفس والآفاق.
3.جمال الفطرة وفطرة الجمال
مفاهيم الخير والشر، الحق والباطل، الجميل والقبيح، مفاهيم أساسية في تكوين الفرد النفسي والاجتماعي. والإحساس بالجمال نفسه في جبلة الإنسان. ذلك أنّ استحسان الجمال وحبّه مما طبعت النفوس عليه كما أكد على ذلك ثلّة من العلماء المسلمين القدماء والمعاصرين. يقول الغزالي: حبُّ كلَّ جميلٍ لذات الجمال، لا لحظ يُنال من وراء إدراك الجمال؛ فذلك مجبولٌ في الطباع[60].
ويوافق ابن تيمية (728ه/ 1328م) الغزالي قائلاً: “إذ الإنسان مجبولٌ على محبة الحسن وبغض السيء، فالحسن الجميل محبوبٌ مُراد والسيءُ القبيح مكروهٌ مبغض…”[61]. وابن القيم في روضة المحبين، يقول إنّ القلوب مطبوعةٌ على محبة الجمال الظاهر كما هي مفطورة على استحسانه[62]. والجمالُ بشكل عام هو المحبوب لذاته.
وصاحب الظلال يوسع من فطرة محبّة الجمال ويرى أنّها فطرة الوجود كلّه لا الإنسان فقط “ونظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة ولإدراك أنّ الجمال عنصرٌ مقصود في بناء هذا الكون، وأنّ صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق، وأنّ الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي…”[63].
الجمال حاجة فطرية تقف على قدم المساواة مع تلبية الحاجات الضرورية، كالطعام والراحة والمتعة والزينة والزوج السَكَن والسكن/ الأسرة… كلها نوازع فطرية إنسانية احتفى بها القرآن، {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [القصص: 60]، والمتاع هنا كل ما يُنتفع به وهو عند العرب المال والأثاث، والله أحلّه تلبية لما استقر في النفس الإنسانية من مشاعر التمتع والإمتاع. ونحن مأمورون بإقامة الزينة والاستمتاع والإمتاع بالجمال من حولنا قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، إلا أنّه متاع إلى حين، متاع غير مفتوح ومزين للابتلاء وللعمل الجاد في الأرض {لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [الأعراف: 24].
وطالما أنّ الجمال حاجة فطرية تأتي منفعة الجمال من الإحساس بالجمال ذاته، أيّ من متعة النظر أو متعة السمع أو الشم أو التعقل… وهو ما لفت الغزالي إليه الأنظار حين فرّق بين لذة الجمال نفسه وبين لذة المنفعة الحاصلة من ورائه يقول: “إنّ كلّ محبوب عند مدرك الجمال وذلك العين الجمال لأنّ إدراك الجمال فيه عين اللّذة واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها. ولا تظنّن أنّ حبّ الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء شهوة، فإن قضاء الشهوة لذة أخرى، قد تُحب الصور الجميلة لأجلها وإدراك نفس الجمال أيضاً لذيذ، فيجوز أن يكون محبوباً لذاته وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوب لا ليُشرب الماء وتؤكل الخضرة أو ينال منها حظ سوى نفس الرؤية… حتى إنّ الإنسان لتنفرج عنه الغموم والهموم بالنظر إليها لا لطلب حظ وراء النظر…”[64]. للجمال اعتباره إذن الذي يلتقي مع منفعة ما في مفهومها الخاص. مع عدم الذهاب إلى أنّ كلّ ما يحقق منفعة ما هو جميل.
الفطرة على اعتبارها السر التي طبع الله روح الإنسان عليها ولحيثيات تداخل الجسد والروح في الإنسان، يأتي الابتلاء ومجاهدة النفس للسمو الدائم بها وترقيتها إلى مصاف الفطرة الأولى المفطورة على التوحيد والإخلاص لله تعالى وبما أنّ الله تعالى واضع المنهج الواجب اتباعه وهو خالق الفطرة البشرية لذلك جاء التناسق والتناغم كاملاً بين الفطرة والمنهج[65]، فإنْ قال المسلم: “اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت”[66]، ومات من ليلتها مات على الفطرة. وهذه إشارة إلى الجمال المعنوي في الفطرة. أما فطرة الجمال الظاهري من سلوك واعتناء بالجسد فتظهر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة: “خمسٌ من الفطرة، الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب”[67].
الفطرة من التوازن والكمال والجمال ما إنْ تَدَخل البشر فيها حتى أصابها الخدش والتشوه لأنّها على الكمال والجمال والتوازن خُلقت. فطرة الإسلام المخلوق عليها البشر أجمعين، وفطرة محبة الجمال، والإسلام دين جميل كلّه أخلاق وفضائل جميلة. ولا يخفى أنّ هذه المعاني زخرت بها حضارة المسلمين، وانعكست في ثقافتهم.
4.جمال معرفة الإنسان لنفسه ومعرفته لعهده
إنّ السعي الحثيث للمحافظة على جمال الإنسان وجمال العمران غايتان لخلق الإنسان وجعله خليفة على الأرض. وما التقصير في تأمل الجمال في الكون والأنفس إلا تعطيل الاستدلال على وجود الله تعالى ومعرفته، {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 6] فحيثما نولي وجوهنا نجد آيات الله الجميلة.
يُهيئ التوحيد للإنسان العوامل كلها التي تجعل منه إنساناً جميلاً. معرفة الإنسان بنفسه ومعرفته لوظيفته ودوره في الحياة. المعرفة الأولى، أنه نفخةٌ من روح الله يتلقى التكريم منه جل جلاله {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} [ص: 71-72]. الكل خُلق من تراب والنفخة جعلت منه إنساناً جميلاً مكرماً. إنه الاتصال الأول بالجمال الأول: الجمال الإلهيّ، لذلك يظلّ المسلم طوال حياته في ترقية لنفسه ورفعتها إلى مقام التكريم الأول، مقام محاسبة النفس والابتعاد عن كلّ ما قد يلوث هذه الفكرة الجميلة التي خُلق عليها ومن أجلها. حقيقة كون الإنسان خليفة في الأرض، البعيد المبتعد عن نظرة إبليس للإنسان، النظرة الأحادية المادية: خلقته من طين/تراب.
وإنْ شئنا التفصيل، فكلّ جمال مرتبط بالقيم العليا، مرتبط بالجمال الإلهي على اعتبار أنّها أثرٌ من آثار صفاته تعالى ومراده، معرفة الإنسان لحقيقة أنه مخلوقٌ لعبادة الواحد القهار، وأنّ الوجود كلّه هو مجالُ التكليف الإلهي لاستخلاف الأرض وإعمارها وتحسين الأعمال الإنسانية وإصلاح النفوس وتزكيتها بأمر من الله وإرادته، {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤولا} [الإسراء: 34] الوفاء بالعهد التكليفي هنا معنيّ بالشق الظاهري المادي والباطني الروحاني وبتكاملهما يتحقق الدور الاستخلافي ويبلغ الإنسان كماله في سلوكه وخلقه الجميل الذي يرقى به وبمجتمعه إلى رتبة التماهي مع تجليات الجمال الإلهي وإرادة التخلق به وحبّه ونشره والعمل وفقاً لمعياره، فـ”المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.”[68] وقال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12] وغيرها من آيات القيم، فتتحقق مقولة الجمال فيه ويمتلئ وجوده بالقيم الجميلة ويحيا مع الكون بانسجام، الكون الممتلئ بكل ما هو جميل من مخلوقات الله جل وعلا.
الجمال ضمن مفهوم التوحيد هو مقياس قيمي يصحب المسلم في حياته كلها. هو مفهومٌ شامل وواسع يسع الوجود كلّه، كلّ ما في الوجود جميل، وحياة المسلم كلها في اتصال وتواصل مع الخالق ومع مفهوم التوحيد في الإسلام الذي يعد مبدأً جوهرياً للوجود ورؤية كونية مصطبغة بصبغة الله. الجمال في الوجود كله: جمال القرآن في تلاوته والإبحار في كنوزه، جمال الكون بمخلوقاته من الكواكب والشموس والأقمار وما يحكمها من تناسق وتوازن، وجمال الطبيعة بما فيها من ألوان[69] وتنوعات من جبال وسهول وكائنات حية وسنن… وجمال الوجدان الإنساني وما فيه من حب الجمال وإرادة الخير ومعرفة الحق، وجمال القيم والأفكار والمبادئ والعادات، وجمال الرجل وجمال المرأة.
ويصبح الجواب عن السؤال الوجودي الأول: لماذا خُلق الإنسان؟
خُلق للعبادة = لمعرفة الحق، ولتحقيق الخير الأسمى، ولملء الوجود بالجمال.
5.المسلم بين جمالين؛ الكتاب المقروء والكتاب المشهود
القرآن أول نصّ جماليّ مقروء، والجمال كتاب مشهود في الأنفس والآفاق. وكما في تأملنا للقرآن نكتشف أبعاد الجمال والجلال[70] في الأنفس والآفاق، فكذلك جمالية الكتاب المقروء الذي ما أتى إلا بالحق تُقرأ وتفهم بالتناغم مع شهودنا للكتاب المشهود وآياته. يقول ابن القيم: “قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} [فصلت: 53]، أي: أن القرآن حقٌ، فأخبر أنّه لا بدّ من أن يريهم من آياته المشهودة ما يبين لهم أن آياته المتلوة حقٌ.”[71]
يكون تذوق القرآن أولاً بملكات الحدس والحس التي تتحرك بإدراك القيم الجمالية للغة القرآن. وجمال النص القرآني جزءٌ من جمال الحقيقة {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلْأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] نبحر معها في عوالم روحية غاية في الجمال.
القرآن بآياته المعجزة أول ما يوقظ الحس الإنساني في شعوره بالجمال من حوله وفي نفسه وفي الطبيعة وفي السماء وفي الأرض ملء الجفون والمبثوث في الكون كله[72]. من هنا التناسق الكبير في صنعة الله في الكون حيثما توجهت وفي الخلق وفي الفطرة وفي المنهج وفي الشريعة… ولن تستقيم حياة الإنسان إذا ما شاهد كل هذا الجمال من حوله ولم يرو حاجاته الفطرية بالعيش مع الجمال وفيه وله، على ضوء منهج الله وصبغته.
والمسلم هو المخلوق الذي استخلفه الله في هذه الأرض تحقيقاً للشهود على الناس {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] والذي لا يتم إلا بشهود القرآن وتلقيه في الوجدان والتخلق بأخلاقه كما النبي صلى الله عليه وسلم “كان خُلُقه القرآن”، لتأدية مهمة الاستخلاف على التمام والجمال. ثم نصبح شهداء على الناس، فمن يقرأ القرآن ولو مئة مرة في اليوم، إن لم يكن متخلقاً بخلقه ما بلغته مهمة الخلافة ولا كان على مستوى مخلوقات الله الجميلة.
الجمال في هذا السياق كما أخبرنا القرآن جعله الله تعالى وسيلة لاختبار الإنسان، عندها يكون فتنة، وجعله جزاء على العمل الصالح والحث عليه. ففي إطار الابتلاء بالخير (لأن الابتلاء بميداني الخير والشر معاً) كانت الزينة والجمال. زينت الأرض بما عليها لتكون مادة في الاختبار، وكل ما في الأرض من زخرف ومتاع إنما هو امتحان لأهلها ليتبين من يحسن منهم العمل ومن أدى أمانة الاستخلاف.
وليس في ذلك دعوة لتحريم طيبات الحياة، والزهد لا ينافي التذوق الجمالي وإنما يحفزه من خلال الترفع عن ضغط الحاجة إلى المادة، هي دعوة إلى انتصار العقيدة والتزام القيم الأصيلة ودوام مراقبة الله وتقواه. إبليس في هذه الحياة يزين القبيح ويجمله، يزين العمل السيء ويلبسه لِبَاس الحسن والجمال {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]. وزُين لنا أنّ الجمال جمال الشكل دون المعنى وجمال المظاهر دون القلوب… صحيح أنّ التزيين من صنعة الشيطان إلا أنّ الإنسان كثيراً ما يساعده على ذلك عندما يتملكه الغرور والتكبر والإعجاب بالنفس، ويستكين لوجوده في الطغيان الذي يغشي الأبصار والبصائر.
وما الحياة الدنيا إلا دار عبور إلى دار الوطن الأصلي أين ينال من عَمِل وأحسن عمله أجمل ألوان الجمال الخالد “قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”[73].
6.جدلية الظاهر والباطن في مفهوم الجمال الإسلامي
الضابط الجمالي الذي يعكس كمال الجمال الإنساني يكمن في توازن وتناسق وانسجام الظاهر مع الباطن؛ الباطن ما يتعلق بالفكري والعقدي والوجداني، والظاهر المتعلق بالنشاط والسلوك والحركة والمظهر ورد الفعل. جمال الشيء في كماله الذي يليق به، والله يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه[74]، والإتقان هو الإتيان بالشيء على أحسن حالاته من التمام والكمال والإحكام والتناسق بين الظاهر والباطن. وهذا هو الجمال.
القرآن حثّ على هذين النوعين من الجمال: الظاهر والباطن. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] فيها إشارة لجمال الظاهر، وهي دعوة للإنسان بأن يتأمل مواطن الجمال في نفسه أولاً {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وغيرها من الآيات التي تصف الجمال الظاهر. وكما مرّ معنا في مفهوم التسوية، فالجمال في الاستواء والاعتدال يبلغ كماله في التناسق بين مكونات الإنسان الثلاثة؛ الجسم والعقل والروح وله دلالة باطنة لا ظاهرة فحسب. ولأقسام الجمال الظاهرة والباطنة آثار واضحة من السرور والرضا والانبساط والفرح التي تنعكس على الناس كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69].
ولشمول الرؤية الإسلامية للجمال، جرى طلبها في الأمور المعنوية حتى في ميادين الصبر والهجر والتسريح والصفح، {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5]، {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]، كلها أمور معنوية وإن كان لها آثارها المادية إلا أن تقديم المعنوي تتحقق به جمالية الإنسان. هي مجاهدةُ النفس في تحويل تلك الأمور المعنوية إلى حيز الجمال وفي ذلك اختبار وامتحان دائم لمدى صدقنا في التسليم المطلق لقضاء الله وقدره والعبادة له وحده لا شريك له في الخوف منه وحده وفي الرجاء فيه ساعتئذ يتحقق مقام الإحسان[75].
ولم يفت العلامة ابن القيم التفصيل في هذه النوعين يقول: “وأما الجمال الظاهر فزينةٌ خصّ الله بها بعض الصور عن بعض وهو زيادة في الخلق {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} مثل الصوت الحسن والصورة الحسنة… فظاهر الجسم من حركات وسكنات ووقفات وكلام وسكوت وغض البصر…”، كل هذه الحركات الإرادية إنْ كانت محكومة بصبغة الله يتحقق الجمال أو كمال الجمال الإنساني، فيتكامل العمل الإرادي واللاإرداي… أما إن حلّت الشهوة والشراهة والهوى غاب الجمال عن الجسم والنفس. وعن الجمال الباطن يقول إنّه: “هو المحبوب لذاته وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”[76]. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى جمال الباطن بجمال الظاهر.[77] وفي هذا النوع من الجمال تقع أعمال القلوب التي ينظر الله إليها.
الأصلُ في الجمال هو ما كان في الباطن[78]، فإنْ عميّ القلب فلا كاشف له إلا الله {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46]. ولتمام نعم الله على عباده أنْ ينعكس الجمال الرباني فيهم في عملية تفاعلية بين الباطن والظاهر التي تمثل علاقتهما علاقة وحدة وتكامل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يقول الله تبارك وتعالى: ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضته عليه، وما يزال يتقرب عبدي إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولإن دعاني لأجيبنَّه”[79]، يصبح العبد متسامياً بالغاً درجة عالية من الالتزام والخضوع لمنهج الله، وما أنْ ينقطع الباطن بالظاهر حتى يقع الخلل وينقطع معه المدد الإلهي. بلّ إنّ هذا المدد يصل إلى إقرار صلة الود والجمال بين الإنسان وأخيه الإنسان “لا يشكر اللَّه من لا يشكر الناس”[80]. التعامل مع الناس هو تعامل مع الله وتعامل الإنسان مع أرضه وعبر الكون كلّه. نستشف ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: “الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذّي بالحرام، فأنّى يُستجاب لذلك؟”[81]، فالحرام الذي انتهجه الجسم في مأكله ومشربه وملبسه سيقف حائلاً عن تطهير القلب وأعماله. وإن مرض فلاناً تقول له: “لا بأس، طهور إن شاء الله”؛ أي تطهيراً من الذنوب التي يكابدها الجسد بهدف تطهير القلب والنفس.
والطهارة بمعناها الظاهري والباطني تعكس قيمة الجمال الظاهري والباطني، {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]. الإسلام يعتني بالزينة الظاهرة من الجسد والثياب، والطهارة مطلوبة في العبادات، وفي طهارة النفس من الصفات القبيحة كالكذب والحقد والحسد والكراهية… {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]، أي الابتعاد الكلي عن القبح.
تُقاس تمظهرات الجمال في الحياة والإنسان بمدى ارتباطها بالإيمان بالله ‑وتحديداً توحيده‑ الذي يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالمعروف هو كلُّ ما هو جميل وحسن… ليس فقط في الامتثال لأوامره والوقوف عند نواهيه، بل هناك معنى باطن للمعروف في نشر الجمال والقيم الجميلة في الوجود، والعمل وفق الجمال شكلاً ومضموناً، جسماً وروحاً، العمل الدؤوب على تنظيم الحياة بقيم أخلاقية وجمالية تحارب القبح والظلم والفجور والعري… وهذا هو جمال الأفعال التي تحقق بوجودها مصالح الناس وتجلب لهم المنافع وتدفع عنهم الشرور والضرر.
والسياق هنا يحيلنا للوقوف قليلاً مع أطروحة مالك بن نبي (1393ه/1973م) حول ثنائية العلاقة بين الذوق الجمالي والمبدأ الأخلاقي والتي تحدد طابع الثقافة واتجاه الحضارة التي تطبع أسلوب الحياة في المجتمع وفي سلوك الأفراد. ويفرق بين نموذجين من المجتمع؛ نموذج يقوم فيه النشاط على الدوافع الجمالية ونموذج يقوم فيه على الدوافع الأخلاقية أولاً، ويتخذ من تصوير المرأة في الفنّ ولباسها أو سلوكها في الفضاء العام في الحضارتين الغربية والإسلامية أدلة لتوضيح فكرته. فالمجتمع الغربي في فنونه صوّر امرأته عارية وكان ذلك بسبب الدافع الجمالي. أما في المجتمع الإسلامي فإنّ الرادع الأخلاقي هو الحاكم في وجدان الفنان فلا يستطيع تصوير امرأة مجتمعه عارية في فنونه[82]. وعليه فإن اللباس وتطوره في المجتمع الغربي ينطلق من إبراز جمال المرأة في الفضاء العام بكل الوسائل التي قد تظهره. أما في المجتمع الإسلامي فقد اتخذ من “الملاية” لباساً كي يخفي جمالها في الفضاء العام. ويستدرك قائلاً: “ليس يعني هذا أن الثقافة الإسلامية تفقد عنصر الجمال، وإنما تضعه في مكان آخر في سلم القيم”، فكلّ ثقافة تتضمن عنصر الجمال وعنصر الحقيقة غير أنّ عبقرية أحدهما تجعل محورها من الجمال بينما الأخرى تفضل أن يكون محورها الحقيقة[83].
هل يعني ذلك التسليم مع ما هو سائد في الغرب من أنّ الجمال يكمن في العريّ وأنّ المرأة بالملاية أو بأيّ مظهر من مظاهر الستر والحشمة والالتزام ليست جميلة؟ هل هناك فصلٌ بين ما هو ملتزم وما هو جميل؟ أيّ أنّ الأخلاقي غير جميل؟ هل تستقيم ثقافة أو حضارة تضع الذوق الجمالي مقابل الالتزام الأخلاقي، أو تُعلي من الالتزام الأخلاقي على حساب الذوق الجمالي في سلم قيمها؟
لا يخفى أنّ إشارات ابن نبي هذه غير موفّقة، بلّ وتناقض أساسيات في فكره. وقد سبق الحديث عن الأسس الفلسفية للجمال في الثقافة الإغريقية، وهو أبعد ما يكون عن جمال التعالي. ولعلّ سبب اضطراب عبارته أنّه في كثير من كتاباته ينتقل فجأة من المناقشة النظرية إلى واقع المجتمعات المسلمة يومه بإشكالاته الكثيرة بما في ذلك الموضوع الجزئيّ لجمال المرأة.
الذوق الجمالي في الثقافة الإسلامية قائمٌ وفي قلب الالتزام الأخلاقي ويحتاج فقط إلى عينٍ فاحصة تبحث عن الحقيقة؛ حقيقة الجمال، ساعتئذ تستشعر جمال الحقيقة في انسجام دون تراتبية في سلم القيم ولا تصنيف لأولويات بين مبدأ أخلاقي وذوق جمالي. فلكليهما المرتبة نفسها. وما الخلل الذي اجتاح فضاءنا الثقافي والاجتماعي إلّا لأننا فصلنا بين الحقيقة والجمال وبين الجمال والخير.
7.الجمال والمقاصد الشرعية
مقاصد الوحي الإلهي: أنْ تعرف وأنْ تريد وأنْ تحب؛
ومقصد التوحيد والجمال= معرفة أسماء الله تعالى والتحلّي بصفاته وأفعاله؛
ومقصد التزكية والجمال= الارتقاء بالإنسان إلى التخلق بأفعال الله تعالى؛
ومقصد العمران والجمال= حيّز جمال العمل الإنساني في الأرض كخليفة ومسؤول ومستأمن.
وقد استقرأ علماء أصول الفقه من النصوص الشرعية ضرورات تمثل المعيار لضبط صلاح حياة الإنسان، تندرج تحتها علل الأحكام الشرعية. في هذا المجال يقول ابن القيم: “فإن الشريعة مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل.”[84]
والشاطبي (590ه/1194م) يتابع ابن القيم ويقول: “تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق. وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: ضرورية وحاجية وتحسينية…”[85]، و”الحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها… والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها.”[86] واعتبر أنّ “مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة، […] حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود- أعني ما هو خاص بالمكلفين والتكليف.”[87]
وفي تحديده لمكملات الضرورات الخمس يقول: “المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له، ومقوية لجانبه، لو خَلَت عن ذلك أو عن أكثره لكان خللاً فيها. وعلى هذا الترتيب يجري سائر الضروريات مع مكملاتها لمن اعتبرها.”[88] وكل ما كان في عبادة فمكمل لها، وإن كان في عادة أو معاملة فمكمل لها أيضاً، مثل “أنّ منع النظر للأجنبية مكملٌ للضروري من حفظ النسل بالمنع من الزنا، لأنّ النظر مقدمة للزنا وداعية إليه.”[89]
عندما نقرأ الجمال ضمن المقاصد الثلاثة، الضرورية والحاجية والتحسينية نكتشف أن الأشياء تصل إلى كمالها بالجمال، ذلك أن علاقة متساوقة جوهرية بين انتظام هذه المقاصد وتكاملها وبين جمال الأشياء. ولهذا جعل عبد العظيم صغيري الجمال ضرورة ذُكر بين عدة ضرورات وهو يحلل الآية التالية: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 5- 6]؛ أي فوائد الأنعام من لباس وطعام وشراب، ثم حمل الأثقال والتخفيف من وعثاء السفر ومشاقه، وهي كلها ضروريات، فيكون الجمال ضرورة لذكره محصوراً بين ضرورات أخرى[90].
إن التحسينيات التي نتطلع إليها لها دور في أداء الظاهر الجمالي، كالطيب من الشّم والكلمة الطيبة والنظرة الطيبة… “إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً”[91]، إلا أن هذا الظاهر الجمالي لا ينفك عن ارتباطه بالباطن الجمالي. لنتأمل حديث الرسول الكريم قدوة المسلمين حين قال: “حُبب إليَّ من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة”[92]، فالطيب هو التجمل والظهور في أجمل صورة وأحسنها، ولما نصل إلى حُسن الصورة فإن شعاع جمالها ينتشر في الأنفس المتلقية لهذا الجمال فتستشعر بدورها الجمال وتسعى لتقليدها. أما النساء ولفطرة الله التي جبل الرجال عليها في ميل الأليف لإلفه وفي الحاجة الفطرية إلى الحب والجمال والحسن وإلى السكن والود والمتاع المشترك[93]. وفي الصلاة والدعاء قرة عين المسلم تستقر روحه وتطيب مع نبع الجمال الروحي في اتصاله مع خالق الجمال “يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها”[94]، أصل الجمال الباعث على خلع هموم الدنيا الدنية، وعلى بلوغ أعمق نقطة للراحة النفسية.
ولتداخل القيم وتشابكها فإنّ قيمة الجمال تتحقق وفق علائقية قيمية متشابكة لا هرمية تراتبية، فكلّ القيم الدينية والاجتماعية والوجدانية والخلقية… كلها مرتبطة بالجمال. إنّ منهج الإسلام ليس إلا تعميم الجمال وجعل الحياة والإنسان وكلّ ما يقع تحت دائرة التكليف الإنساني أجمل وأطيب.
إنّ الشيء الموصوف بالجمال إذا فوّتَ شيئاً من ضرورياته أو حاجياته لن يخدم مصالح الناس على الاستقامة والتمام بلّ سيؤدي إلى فساد وتفويت حياة مهما بلغ درجة عالية من الجمال[95].
كذلك الشيء الذي يخدم ضرورة من الضرورات إذا لم يُنظر إلى جانبه التحسيني -الجمال هنا- فلن يحقق الانسجام بينه وبين مقاصده الثلاثة، ولن يبلغ الشيء تمامه وكماله، فالجمال في تركيب الشيء نفسه، في مكانه ومكانته.
وضمن نظرية خدمة الجمال للكليات الخمس وضمن مقولة حفظ مقاصد الأمور من جهة “ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها” كما مرّ معنا، وكون قيمة الجمال مبنية على قيمتي الحق والخير، فقد بات من الضرورة بمكان التفكير في استبعاد كل ما قد يؤدي إلى القبح والضرر والأذى والمهدد لهذه الكليات، والتركيز على ما يحقق قيم الحق والخير والمصلحة الإنسانية، وإلى ضرورة نقل الجمال وتمظهراته المادية والمعنوية[96] من التحسينيات إلى الحاجيات والضروريات كي يكون ضابط التحسيني محكوماً بما يخدم الضروري والحاجي من جهة، ويكون الضروري والحاجي منظوراً إليه تحسينياً[97].
الجمال حاضر في قلب انتظام المجتمع الإسلامي هويةً وعمراناً. والعمران بما يقتضيه من بناء الإنسان عقيدة وفكراً ووجداناً وسلوكاً متجلية في مجالات المظهر والشكل وتمام أداء الأعمال وبلوغ مقاصد الوحي الإلهي التي ما وجدت إلا لصلاح الإنسان ومصلحته.
8.بعضٌ من جمال المرأة وجمال الرجل في الفضاء العام[98]
إحدى مظاهر الجمال الملائمة بين الشيء ووظيفته وما خُلق لأجله، خلق الله للرجل والمرأة على صورة تتناسب ودورهما ومهامهما في الحياة. فالإرادة الإلهية جعلت للمرأة أجمل دور يمكن أنْ يكون لها؛ الأمومة، وهيأ لها الأسباب خلقةً ووجداناً لتناسب هذا الدور.
ذلك أنّ خصالاً فطرية تَطبع الأنوثة بطابعٍ خاص تنعكس في نفسها وفي نظرة الآخرين لها ونظرتها لهم، والأصل التنوع في الطبائع والفِطَر بين المرأة والرجل الذي عليه تتنوع الأدوار والوظائف. وأيّة محاولات لتغيير الفطرة أو اللعب بها يؤدي إلى الاضطراب على مستوى العلاقات وإلى اغتراب المرأة عن نفسها وطبعها، وعن مجتمعها وعن الرجل شريكها وعن دورها الاستخلافي.
الاختلاف بين الرجل والمرأة ليس فقط في الشكل والرسم بل في الجوهر والنفس، من صفات وخصال ما أضفى على كل واحدٍ منهما جمالاً خاصاً يتبع هذا الشكل وذاك الجوهر. صفات الرجل إن لم تكسوها الرجولة والهيبة والقوة… فلن يكون جميلاً. والمرأة إن لم تكن أبرز سماتها الرقة والحياء والحنان وكل ما تطبعها بالأنوثة الحقة فلن تكون امرأة جميلة، وإن لم تكن العلاقة بينهما علاقة تكاملية لا ضدية تنافسية فلن يتحقق المتاع الطيب الجميل.
ولنقف على محاور ثلاثة إن حكمت علاقة الرجل بالمرأة حققت مفهوم الجمال الإسلامي في علاقتهما: الحياء وغض الطرف والتكامل.
-الحياء صفة إلهية
صفة الحياء نسبها رب العباد إلى نفسه وهي من الصفات الخبرية وردت في القرآن والسنة كما في هذا الحديث الشريف “إن ربكم حَيِيٌّ كريمٌ يستحيي من عبده إذا رفع يديهِ إليه أن يرُدهما صِفراً”[99]. وفي قولِه تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَة فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، وقال تعالى: {وَاللهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]، والله تعالى يوصف بالحياء وصفاً كما يليق بكماله وجلاله.
لا يوجد توزيع حاد للصفات الخلقية والجمالية ما بين الرجل والمرأة، والدليل ما جاء في التفصيل بصفة الحياء وهي من الصفات الواجب التخلق بها للرجل والمرأة معاً، لأن الحياء من الدين، “الحياء والإيمان قُرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر”[100]، “إنّ لكل دين خُلقاً، وإن خُلُق الإسلام الحياء”[101]، ومن هنا يأتي الربط بين الحياء كصفة أخلاقية وجمالية وبين مقصد حفظ العرض والنسل في نظام الأسرة الإسلامي.
في القرآن قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] المشي على استحياء أو القول على الاستحياء، الآية تحتمل المعنيين: إما الوقوف عند “تمشي” فالحياء للقول، أو الوقوف عند “استحياء” فالحياء للمشي. وكلاهما مطلوبان في خصال المرأة خُلقياً وجمالياً.
والاستحياء هو المصدر من الفعل استحى، ويُطلق الاستحياء على الخجل والحشمة، وأما إذا قيل “استحيا الرَّجل أسيره” أيّ: تركه حيًّا ولم يقتله والتي تشير إلى خُلُق في كمال الرجل الخلوق تزينه بصفة الحياء، وموسى عليه السلام كان “رجلاً حَيِيًّا سِتِّيراً، لا يُرى من جلده شيء استحياءً منه”[102].
-غض الطرف وإكرام الجسد والنفس
{يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] جعل الله اللباس لهدفين: ستر العورة، والتزين= الريش، إلا أنّ لباس التقوى هو الذي يحقق الرفعة والتكريم للمرأة والرجل جسداً ونفساً وسلوكاً، إن أضيف على اللباس المادي بشقيه؛ ستر العورة ولبس الزينة. ولفظة لباس وردت في القرآن الكريم في وصفٍ جميلٍ لعلاقة المرأة بالرجل {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] الدالة على امتزاج وتداخل متناغم في جوانب العلاقة الإنسانية كافة بين المرأة والرجل؛ علاقة تزينية خلقية جسداً وروحاً.
ولمحبته سبحانه وتعالى للجمال فإنه أحلّ الزينة لعباده {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]. إلا أن للزينة حدوداً ما إن خُرقت معها الحشمة والحياء والعفة حتى خلعت عنها صفة الجميل والحسن، واقتربت من القبح وتبرج الجاهلية الاستهلاكية… {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 30- 31].
زينة اليوم سلعنت كلّ شيء حتى الأبدان والأنفس، وعُدت مقياساً للجمال والحسن، واغتربت الفطرة السليمة، ففرضت على النساء زينة ارتبطت بأهواء الخضوع بالقول والتكسر في المشي وإبداء الحليّ ما ظهر منها وما بطن، ما أدى إلى تشييئها وعدها مادة للبصر والفرجة والمتعة، وتحولت معها الشهوة إلى شهوة متقدة ولانهائية[103]… ولا ننسَ حظ الرجل من الزينة العصرية المرتبطة بأهواء إظهار زينته لمن لا يحلّ له رؤيتها[104]، فتزين بزينة الغرب وأطلق نظره يستمتع بتبرج النساء واستمتعت بزينته وميوعته النساء، بداعي أنه رجل ولا يخضع إلى قانون الغضّ والإخفاء كما المرأة.
-جمال علاقة الرجل بالمرأة في التكامل
إن خصوصيات الرجل مكملة لخصوصيات المرأة وخصوصياتها مكملة له، لا تزاحم ولا صدام، لا يستغني الآخر عن شريكه ولا تبادل في الأدوار، بل هناك تفاضل تتنوع فيه واجبات التكليف في استخلاف الأرض وعمارتها بدءاً من الزوجين الذكر والأنثى إلى الشعوب والقبائل. ومقصود العمران التعاون والتوجه نحو الخيرية ضابطها تقوى الله في كل ما يجتمع عليه البشر ويقوم به، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
يأتي كمال جمال الرجل والمرأة في استكمال جمال كل واحد منه لجماليات الآخر في انسجام وتوازن بهدف تكوين أسرة على النهج الرباني. ومن حكمة خلق الله تعالى للمسلمة الشاهدة في الأمة[105]، ومجازياً ينبغي أن يُفهم من “الخلق من ضلع أعوج”، أنّ في اعوجاجها تمام وظيفتها إن رمتَ تقويمه كسرته وصار من الصعب جبْره لدقة صنعته ورقته. ولا أجمل صورة للمرأة إلا في قرارها في بيتها بهدف تأسيس نظام اجتماع إنساني مصغر قائم على أخلاق التكليف الرباني، والقرار ليس انحباساً عما خارج المنـزل، وإنما هو تجذّر في الحاضن الأساس للتنشئة الحضارية والحمى التي تترعرع في الأخلاق والقيم من دقة أدناها إلى جمال أعلاها؛ أي الأسرة التي يحقق فيها الزوجان تكامل أدوارهما الاستخلافية ناظمها مشاعر التواد والتراحم والسكن، تصب في هدف أسمى: إعفاف الأمة ورفعتها، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
وما إن تتغير الأدوار ويتبادل الرجل والمرأة الوظائف حتى تتشوه جمالية العلاقة ويختل التمتع المشترك بينهما ويرتفع. قد كنا نستهجن هذا التبادل الوظيفي في الماضي لكننا مع الغرق في عجلة الحياة التغريبية الاستهلاكية استمرأنا أفكار ومشاهد جلوس الرجل في البيت، بينما تخرج المرأة إلى العمل والتسوق، أو أنهما يخرجان معاً، فلا فرق فإنّ في خروجها فقدت المرأة مع الوقت بريق أنوثتها لقسوة الحياة وضغوطها، وبدأت تستنسخ أحاسيس الرجل وسلوكه، فاكتسبت عاداته وحاكت أفكاره ودخنت سجائره ولبست ملابسه، ما أفرز لنا ظواهر شاذة من نساء مسترجلات ورجال مؤنثين، ففسدت على إثرها الذائقة الجمالية وشوهت الأحاسيس والمشاعر ومفهوم جمال الرجل وجمال المرأة وجمال الأسرة والأولاد أجمع.
9.الجمال والفنون الإسلامية
الفنّ بكلمة هو الذي يجمع قيمتي الجمال والحق من كون الجمال حقيقة كونية والحق التعبير الأسمى للجمال. وهو ما أشار له بيجوفيتش حينما عدّ الفنّ أنه “بحثٌ عن الحقيقة لا إبداعاً لما هو جميل. خاصة إذا اعتبرنا أن نقيض الجمال ليس هو القبح وإنما الزيف.”[106]
إن الفنّ وسيلة لتحقيق الجمال وليس غاية في حدّ ذاته. غاية الفن تجميل الحياة والإنسان، وهو في خدمة الحق والخير والجمال دوماً، ويسعى نحو غاية سامية لا تطالها عبثية ولا عدمية ولا باطل ولا فساد ولا قبح ولا انحلال أو فسق.
في فنون اليوم لم تعد فكرة الجمال مركزية. ولا هي وسائل لخدمة القيم الجمالية والأخلاقية. الفن اليوم أصبح هو الغاية التي ينشدها الإنسان، فأصبح الفن لأجل الفن أو الفن لأجل المتعة واللهو والترفيه وملء الفراغ[107]…
أما الفنّ الإسلامي فيعني “تلك الأفكار والآراء والرؤى والتفسيرات المتعلقة بالظاهرة الفنية الإسلامية، بكل مفاهيمها وعلاقاتها وتحولاتها، فضلاً عن طبيعتها البنيوية والصفايتة والوظيفية، التي أبدعها صانعو هذه الظاهرة أو نظّر لها علماء الجمال وفلاسفة الفن القدامى، أو قدمها دارسوها المحدثون تحليلاً وتأصيلاً.”[108] وصار المصطلح الفني الإسلامي “…ركناً من أركان المعرفة الإسلامية، يتعلق بفقه الإبداع الحضاري والجمالي بعامة، ويقوم على فنون العمارة وتصميمها الداخلي والخط والزخرفة والتذهيب والتصوير وغيرها من الفنون والصنائع الإسلامية المعروفة بخاصة.”[109]
والفنّ الإسلامي يحكمه ضابطين[110]: نيّة القلب “إنما الأعمال بالنيّات”، في تغيير المنكر والقبيح وتكثير الخير والحق وتهذيب الذائقة الجمالية، وصحة العمل أي أن يكون في المقام الأول غير متعارض مع التوحيد ومبدأ العبودية الخالصة لله تعالى وقداسة الحرمات والمحكمات، ودون أن يعارض فضائل أخلاقية كالحياء والعفة… ولا يؤدي إلى الهرج والفحش والهزل وهَتْك الآداب… وأن يساعد على بناء هوية المسلم الثقافية.
تشكّل العمارة والفنون وجدان الإنسان وذاكرته ورؤيته في الحياة. وفي حياتنا الجمال مرتبط بالشعور والأحاسيس في أعمق نقطة لها يشارك في تشكّل الهوية والانتماء لهذه الهوية، إنّه الذاكرة والتاريخ والخيال والجذور، ومنبثق من صميم الفكر الإسلامي، فانظر في خطة العمران في المدينة الإسلامية التي تجعل من مجموعة أحياء فيها كلاً واحداً متواداً متراحماً كالجسد الإنساني، “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم…”[111].
فالأشياء الجميلة من حولنا ليست ذات أصل نفعيّ كما يذهب الماديون، وكما غدونا في عصرنا الحداثي ضبابيّ الهوية حيث غدا الجمال خالياً من الذاكرة والتاريخ والرونق والقيمة، وخذ مثالاً فنون العمارة وتصميم المنازل والأثاث حيث تدعي الحداثة أنها تلائم الغربي والشرقي الكبير والصغير، ومن شدة بساطة التصميمات وسيولتها لا تحمل أي أثر وجداني أو روحاني، وغدت كل الأشياء من حولنا تُغلب الوظيفية والمنفعة على الجمال والقيمة. وفي عالمنا الإسلامي بتنا نلحظ بسهولة ازدواجية التطبيقات لمفهوم الجمال. نحن في فوضى وجدانية جمالية ما بين محاكاة الغرب وتبعيته في عمرانه وفنونه وبين هويتنا الإسلامية ما أدى إلى؛ إما ذوبان وانصهار أو إلى تشتت وتمزق في الوجدان والمشاعر والسلوك.
ومن هنا جاءت أهمية الالتفات إلى مقاصد الفنون، فالفنون الإسلامية مختلفة عن غيرها من الفنون فهي ترمي إلى بناء ملكة الجمال وتهذيب الذائقة الجمالية وخدمة القيم السامية في التعبير عنها بأشكال مختلفة. إنّ “الفن السوي يخدم المقاصد الشرعية كخدمتها لحفظ النفس بحفظ فطرتها وتنمية مواهبها وتأصيل ملكة الجمال فيها”[112]. وعظمة الفن الإسلامي أنّها “تماثل عظمة هذا الدين نفسه.”[113] الفنّ الإسلامي يؤكد على الترابط التوحيدي بين الدين والفن، لا توفيق ولا تلفيق بينهما، بل هي علاقة تؤسس لعلاقة جمالية بين المجرد والمحسوس ضمن مقتضيات الإسلام والإيمان والإحسان.
ولتفرد جماليات الفنون الإسلامية فإنّها لا بدّ وأنْ تنشر مفهوم الجمال الإسلامي بين شعوب العالم والثقافات والحضارات المختلفة وهو ما أطلق عليه حنش بـ “تواصلية الفن الإسلامي” ودرسها من حيث النظرية والتطبيق درساً مفصلاً، بوصف الفن “لغة من اللغات الكونية المشتركة بين الناس والشعوب والثقافات والحضارات…”[114].
إنَّ استحالة وصف الله تعالى على نحو ما تدركه الأبصار، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ولكونه جميلاً ومفارقاً في جماله لكلّ ما هو جميل، ولأنّ المعيار الأخلاقي والجمالي والسلوكي يأتي من الله، وجوهر الإيمان متحقق في التصديق بإله واحد للكون أجمع وتعاليه سبحانه عن كل ما سواه وعن عالم الطبيعة والإنسان خصوصاً، فلا شبيه لله ولا وصف يحيطه، فانشغل المسلم بالحضور الإلهي ولم يهتم بالبحث في جماليات الشكل الإنساني ذلك أنّ أغلب ما أنتجه من فنون كانت تجريدية لينفي عنها سمتها التي عليها في الطبيعة.
كذلك ينطلق الفنان المسلم من الرؤية الفنية الإسلامية في تحقيق التوازن والتناسق والانسجام ولشهوده على وجود الخلق المستمر وعلى الموجد الخالق الحق في كلّ مكان {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فإننا نجده لا يترك فراغاً مادياً المعادل للعدم في لوحته سواء رسماً هندسياً أو منمنماً أو خطاً[115]. كما أنّ الفنان المسلم اتجه نحو تناول موضوعات الطبيعة بصورة غير مألوفة، وهو ما يطلق عليها الفاروقي “نمط التأسلب” المناقض للطبيعة، فمثلاً الشجرة أو الزهرة المرسومة بطريقة مؤسلبة تخالف طبيعتها، وبتكرارها بصورة لا نهائية، فيها إقصاء للطبيعة عن الوعي”[116]. وما في ذلك إلّا تعميق وانسجام في وجدان المسلم لعلاقة التطابق بين الفنون البصرية وبين قاعدة الإسلام الجوهرية؛ التنـزيه.
التعبير القرآني عن تسامي الذات الإلهية مطلقٌ فلا تندرج في وصفٍ حسيّ طبيعيّ: {مَثَلُ نُورِهِ}، {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ}، {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}. وفي هذا شاهد على عبقرية الفنان المسلم في كونه استطاع أنْ يكتشف نقطة الاتصال بين العالم القدسي ‑دون المساس بقدسية الذات الإلهية‑ والعالم الدنيوي، كما يعبر عن ذلك الفاروقي[117].
ولكلام الله تعالى المتجسد في القرآن عند المسلم اهتمام خاص حيث تفنن في تجميل الخطوط وأبدع في رسم الحروف. واختص المسلمون في مختلف الأمصار، وبفضل قرآنهم وما سَكَن في وجدانهم من جمالياته شكلاً ومضموناً، بنقش كلماته وآياته في المساجد والقماش والخشب والحجر. وغَدَت الوحدة الجمالية صبغةً حكمت الفنون الإسلامية جميعها كالعمارة في المساجد والمنازل والأوقاف، وفنون الخط… هذه الوحدة تُعلي من هوية الإسلام وتُخفي ذاتية الفنان الذي انصب وجدانه على عكس جماليات الزخرفة والتحسينات التزينية والأشكال الهندسية… وتُلغي الحدود الإقليمية والجغرافية وتشهد على حقيقة واحدة وهي التوحيد.
ومع هذه الوحدة شهدت الفنون الإسلامية تنوعاً يمكن أن نجده في حجم وكثافة وسعة الوجود الجمالي والوظيفي لهذه الفنون والعمارة والصنائع في الحضارة الإسلامية على حد تعبير حنش. ويضيف أنّ الوحدة والتنوع في الفنون الإسلامية يشكلان الوجه الآخر لوجودهما الجدلي في الحضارة الإسلامية. الحضارة الفاضلة بوحدة القيم الكلية: الحق والخير والجمال، وبتنوعها الشهودي في الوجود والحياة والإنسان والمجتمع[118].
وفي العمران الظاهري والباطني تتسم مقاصد عناصر الجمال في البساطة وعدم التبذير، هذه البساطة لا تنافر والذائقة الجمالية الفطرية، قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129]، وقال سبحانه: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 149]، والضابط لهذا العمران التقوى، قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].
إنَّ مفهوم الجمال في حياة المسلم ليس قاصراً على ما يُعرف بفلسفة الفنّ أو الفنون الجميلة؛ من شعر ورسم وتصوير ونحت وموسيقى… كما أرادت فلسفات الجمال الغربية حصره في ذلك، وغير متعلق بالفنان المبدع أو المتلقي المتذوق أو المتلقي الناقد، بل هو خُلقٌ راسخ في ضميره مستمد من أفعال الله تعالى وصفاته، وسمتٌ مطبوعة في فطرته فطرة الإسلام، وإتقانٌ يُوصف به عمله، وهويةٌ تربطه بجذوره وتاريخه وذاكرته، ونظرةٌ للمتاع الجميل الحلال، وإبداعٌ مفتوح الأفق على الإبداع الإلهي وصوره. وكل فرد في المجتمع الإسلامي معنيّ بالجمال يصنعه ويتذوقه ويعكسه على الآخرين، غير مقتصر على طبقة من طبقات المجتمع ولا هو في متناول فئة معينة وحسب.
خاتمة
في عالمنا اليوم لم يقتصر الأمر على تلويث البرّ والبحر، وعلى تزيين مفاهيم الضلال والإفساد وتسويغ التشويهات في العقيدة والفكر وتزييف مفاهيم الخير والشّر، بل طال التصورات الجمالية والأذواق الفطرية في قلب النفس البشرية وطُبعت مع الوقت على كلّ ما يخالف الحياء والعفة والحشمة، وعُدت المعيار الجمالي الوحيد، ومن يخالفه خالف الجمال نفسه. وغدا الجمال الشكلي مثال كل جمال، بلّه لم يسلم هو من التشويه والعدول عن الفطرة.
وأيّ قبح للعالم المُدعيّ لتبنيه قيم الحق والخير والجمال حين تكشفت عوراته في موقفه من ثورات شعوب العالم العربي والإسلامي، والتي ما جاءت إلا عملاً خيّراً أراد الإطاحة بالقبح والزيف بكل أبعادهما، فصمَّ وسَكَتَ وعَمي عن التهجير والتغيير الديمغرافي وعن قصف المدن وتدميرها، وعن حرق الزرع وقتل الحيوان وتجويع الإنسان وإذلاله وحرمانه من حقه الأول في الوجود في التمتع بالجمال الإلهي الذي شُوّش عليه في ظل أنظمة الطُّغم السياسية لما اُغتيلت كرامته المكرمة من روح الله وأُلصقت نفسه بالطين لإلهائه عن رسالته الاستخلافية بالسعي وراء سدّ حاجاته الطبيعية من مأكل ومشرب ومُنكَح، ثم اُغتيلت نفسه في طواحين الحروب والإذلال والاعتقال والاغتصاب كرة أخرى…
نحنُ بأمس الحاجة إلى تأملِ الجمال الإلهي والعيش بتمظهراته في الآفاق والأنفس كلها؛ في التنبه لتنمية الذائقة الجمالية عقلاً ووجداناً، وتجنيدها لأداءِ رسالة المسلم في العُمران والخلافة، وتوظيفها في علاقته مع الآخر تعارفاً وتعاوناً وتقوىً، وفي ضبطها لعلاقة الزوجين مودةً ورحمةً وتكاملاً وفي علاقِة الذكر بالأنثى عفةً ومروءةً وحياءً، وفي إظهارِ الجمال الخارجي والداخلي كنعمٍ منَّ اللهُ علينا، ومِن الشّكر على النعم مراقبة مرتبة الإحسان في حركاتِنا وسكناتِنا حتى نبلغ رتبة الجمال الإلهيّ ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
والحمد لله رب العالمين
له الأسماء الحسنى والصفات العلا
لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه
24 شوال 1442ه/ 5 يونيو 2021م
[1] الفنُّ هو جزءٌ من علم الجمال الإسلامي أو من مفهوم الجمال بشكل عام، لأنّ الفنَّ هو إحدى تجليات أو تمظهرات الجمال وليس هو الجمال ذاته، وليس هو المجال الوحيد لتجلي الجمال. وفي مقابل بعض الباحثين الرافضين لقيام علم جمال إسلامي يدافع حنش عن مفهوم الجمالية الإسلامية، وأن مشروعية بل وضرورة قيام علم جمال إسلامي بمعناه الواسع ودلالته المفتوحة على جمال كلّ شيء في الكون والطبيعة والحياة والإنسان والعمل والسلوك والإبداع والصورة وغير ذلك، يُستلهم من التراث الفكري الإسلامي حيث يمكن أن تشكّل علماً مختصاً يدَّرس في إحدى تخصصات العلوم الإنسانية. انظر: حنش، إدهام محمد. نظرية الفن الإسلامي، المفهوم الجمالي والبنية المعرفية، أمريكا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 2013، ص224. وقارن مع مقاله “مقاصدية الفن الإسلامي: من التكييف الفقهي إلى التأصيل المعرفي”، حيث حاول أنْ يؤصل لعلم الجمال ولفلسفة الفن إسلامياً من خلال معاني “الحسن” اللغوية والمعرفية بالمفهوم القرآني. ضمن الندوة العلمية: الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، اسطنبول، نوفمبر 2016.
[2] انظر على سبيل المثال أبو ريان، محمد علي. فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة، الاسكندرية: دار المعرفة الجامعية، د.ت، ص19، فصل “فلسفة الجمال عند المسلمين”، والتي اختزلها إلى الأعمال الفنية التي تناولتها كتب السير والأدب والتاريخ من غناء ورقص وشعر… وعرّج على رأي رجال الشرع من تحليل وتحريم حيال الموضوعات المتعلقة بالفنون وختم خاتمة خجولة حول أفكار الغزالي عن مفهوم الجمال.
[3] والكاتب نفسه يفصح عن ذلك حيث يقول في الخاتمة إن جهده إنما هو “لبنة من لبنات اكتشاف المنهج الجمالي في القرآن الكريم”. انظر: صغيري، عبد العظيم. “علم الجمال، رؤية في التأسيس القرآني”، كتاب الأمة، العدد 151، قطر، (رمضان 1433هـ/ 2012م)، ص166.
[4] بينما كان طرح الفاروقي في نظرية الفن الإسلامي يتلخص في أنّه عدّ الجمال مبدأً ضمن مبادئ محددة، كان التوحيد الذي تنضوي تحته مبادئ الحياة والاجتماع والسياسة والأسرة والأخلاق… وتفاعلاتها مع الإنسان… في كتابه التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة.
[5] قارن مع رأي مالك بن نبي في شروط النهضة، حيث عدّ أن الألعاب الأولمبية هي التعبير عن الجمال الرياضي من ثم عن القوة التي هي بدورها ضربٌ من جمال الرجل. دمشق: دار الفكر، 1986، ص99. والأستاذ الكبير مالك استحضر آفاق الجمال في عامة طرحه، ولكن في غمرة اهتمامه بالفاعلية ونعيّه على الخمول في بلاد المسلمين حادت بعض عباراته في قضية الجمال، وسيأتي بعض التفصيل في ذلك.
[6] للاستزادة انظر: الشامي، صالح أحمد. الفن الإسلامي، دمشق: دار القلم، ط1، 1990، ص110- 114.
[7] كل تاريخ بعد أسماء الأعلام فهي إشارة إلى تاريخ الوفاة، ولأعلام المسلمين أضفت التاريخ الهجري إلى جانب الميلادي.
[8] من المفيد الإشارة هنا إلى إسهامات عبد الوهاب المسيري في تجلية البعد النقدي للمفاهيم والمصطلحات الغربية والكشف عن النماذج المعرفية التي تستند إليها حضارة الغرب. مثل هذه المفاهيم: التحديث، العلمنة الغربية، المساواة والتسوية، الاستنارة الغربية، النسوية (أو الفيمينـزم)، وغيرها. وفي هذا المقام يُنصح بالرجوع إلى كتابه: قضية المرأة، بين التحرير والتمركز حول الأنثى.
[9] خليل، عماد الدين. الغايات المستهدفة للأدب الإسلامي: محاولات في التنظير والدراسة الأدبية، عمان: دار الضياء، 2000، ص77.
[10] المرجع السابق، المعطيات نفسها.
[11] أبو ريان، فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة، مرجع سابق، ص25- 26.
[12] مطر، أميرة حلمي. مدخل إلى علم الجمال وفلسفة الفن، القاهرة: دار التنوير، 2013، ص11. كذلك أبو ريان، ص29- 30.
[13] أبو ريان، مرجع سابق، انظر فقرة ادموند بيرك، ص36.
[14] أبو ريان، المرجع السابق، ص41.
[15] مطر، مدخل إلى علم الجمال وفلسفة الفن، مرجع سابق، ص18.
[16] مطر، المرجع السابق، ص37.
[17] مطر، المرجع السابق، ص127.
[18] أبو ريان، مرجع سابق، ص43-44.
[19] عن الفاروقي، إسماعيل. التوحيد: مضامينه على الفكر والحياة، نقله إلى العربية: السيد عمر، القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2014، ص306.
[20] للاستزادة انظر: الشامي، صالح أحمد. ميادين الجمال في الظاهرة الجمالية في الإسلام، بيروت: المكتب الإسلامي، ط1، 1988، ص131- 140.
[21] تحليل الطبيعة الجمالية للفن في العصر الحديث تتصل بالأصول الفلسفية الإغريقية من خلال أهم ثلاث نظريات: 1. محاكاة الطبيعة في التصوير الفني، 2. الإنسان مقياس التقييم الجمالي، 3. وظيفة الفن التطهيرية. انظر: حنش. نظرية الفن الإسلامي: المفهوم الجمالي والبنية المعرفية، مرجع سابق، ص127- 128.
[22] أبو ريان، مرجع سابق، ص50- 54.
[23] أبو ريان، مرجع سابق، ص54. انظر كذلك: خليل، الغايات المستهدفة، مرجع سابق، حيث يحلل فيه بدقة وتفصيل مفهوم الجمال والجميل في البنية المعرفية الماركسية، ص65 وما بعدها.
[24] باختصار يفسر فرويد الإبداع الفني في ضوء نظريته العامة في التحليل النفسي على أن “الأنا Ego أو الذات الواعية تقوم بدور مهم حين تصوغ الدوافع اللاشعورية المختزنة في الـ”هي”، وهي في الأعم الأغلب ذات محتوى جنسي Libido بما يتفق والمثل العليا التي ترضى عنها الأنا العليا والمكتسبة بالتربية…”. انظر مطر، مرجع سابق، ص110-111. وانظر في الصفحة نفسها تفسير فرويد لأعمال دافنشي على أنها تعكس انحرافه إلى الشذوذ الجنسي.
[25] مطر، مرجع سابق، ص169.
[26] مطر، مرجع سابق، ص115.
[27] الخبرة الجمالية كما تعرفها مطر أنها “موقف الإنسان عند تذوقه للعمل الفني أو إبداعه له أو نقده عليه، وهي موضوع يعنى به العلماء والفلاسفة والنقاد على السواء”، المرجع السابق، ص73.
[28] مطر، ص77.
[29] مطر، ص180. وللاستزادة حول أثر الفلسفة الوجودية على مفهوم الجمال في الغرب انظر: الشامي، صالح أحمد. الظاهرة الجمالية في الإسلام، بيروت: المكتب الإسلامي، ط1، 1986، ص54-60.
[30] الشامي، ميادين الجمال، مرجع سابق، ص149.
[31] مطر، مرجع سابق، فقرة فن ما بعد الحداثة، ص184- 187. وقارن مع بيجوفيتش، علي عزت. الإسلام بين الشرق والغرب، تقديم: عبد الوهاب المسيري، ترجمة: محمد يوسف عدس، القاهرة: دار الشروق، ط16، 2019، ص125-138، فقرة “التقدم ضد الإنسان”.
[32] بيجوفيتش، مرجع سابق، ص159. وانظر ص121 مقارنته بين إنسان القرية وإنسان المدينة، فإنسان القرية حيٌّ وأصيل لامتلاكه ثقافة وخبرة جمالية أصيلة أما إنسان المدينة فهو آلي وميت.
[33] أبو ريان، مرجع سابق، ص55
[34] أبو ريان، ص59.
[35] انظر سلسلة فيديوهات الفيلسوف الإنكليزي المتخصص في علم الجمال والفلسفة السياسية Sir Roger Scruton ، حيث يتحدث بشكل سلس عن قيمة الجمال وغيابها في حياة الغرب المعاصرة وحلول اللذة الجنسية والحياة الاستهلاكية السريعة الإيقاع في مظاهر الحياة كافة، والتسليم المطلق بأن كل ما يخدم هذه المتع الحسية هو “جميل”؛ إنه اختلال في مفهوم الجمال ما أدى إلى فقدان معنى الحياة نفسه من فضاء الإنسان الغربي، على حد قول Scruton.
[36] انظر بهجت، مجاهد مصطفى. “الجمال والالتزام في الفن الإسلامي”، إسلامية المعرفة، السنة 14، العدد 56، 2009. حيث بيّن الباحث صلة الإسلام بالجمال في مجالي الأدب والفن. وقارِن مع شرح مصطلح “الالتزام” في قراءة الشامي للفكر الفلسفي الغربي والواقع التاريخي ومقارنته مع المفهوم الإسلامي في: الفن الإسلامي، التزام وابتداع، مرجع سابق،الفصل الثالث.
[37] يقول حنش في كتابه نظرية الفن الإسلامي: المفهوم الجمالي والبنية المعرفية: إن ما قدمه الغزالي من تصنيف معرفي لفكرة الجمال القائم على مفاهيم مثل، الجمال الحقيقي والجمال الطبيعي والجمال الإنساني وجمال الظاهر وجمال الباطن… ومراتب إدراكها بالبصيرة أو البصر يجعلها نواة التأسيس المعرفي والمصطلحي لعلم الجمال الإسلامي. مرجع سابق، ص45- 46. وفي رأينا ليس الغزالي وحسب بل وابن القيم وابن تيمية وابن حزم وابن الجوزي والتوحيدي وغيرهم من علمائنا القدماء الذين بحثوا في مفهوم الجمال وفصّلوا فيه، وما إن نُخلص التوجه والتعمق فيها حتى تنفتح لنا كنوزاً معرفية تُسهم في تأسيس علوم إسلامية أصيلة.
[38] ابن حنبل، أحمد. المسند، تحقيق: أحمد شاكر، وحمزة الزين، القاهرة: دار الحديث، ط1، 1416ه/1995م، ج13، حديث رقم 17623، ص466.
[39] الزبيدي، تاج العروس، مادة: جمل.
[40] صليبا، جميل. المعجم الفلسفي، بيروت: دار الكتاب اللبناني، ج1، مادة: الجمال والجميل، ج2، مادة: قيمة، 1982.
[41] للاستزادة راجع صغيري، عبد العظيم. “علم الجمال: رؤية في التأسيس القرآني”، مرجع سابق، فصل: مفهوم الحسن في القرآن الكريم.
[42] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مادة: حسن.
[43] الطوسي النيسابوري، محمد بن محمد أبو حامد الغزالي. إحياء علوم الدين، ربع المنجيات، حقيقة المحبة وأسبابها وتحقيق معنى محبة العبد لله تعالى، بيروت: دار المعرفة، 1402ه/ 1982م، ج4، ص299.
[44] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: عبد السلام الشدادي، الفصل الخامس: صناعة الغناء، الجزائر: المركز الوطني في عصور ما قبل التاريخ، 2006، ج2، ص326.
[45] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، مادة: الحسن.
[46] ابن منظور، لسان العرب، مادة: حسن.
[47] البخاري، محمد بن إسماعيل. الصحيح، تحقيق: أبو صهيب الكرمي، الرياض: بيت الأفكار الدولية للنشر، ط1، 1419ه/1998م، كتاب: الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإحسان وعلم الساعة، حديث رقم50 من رواية أبي هريرة، ص33.
[48] للاستزادة انظر صغيري، مرجع سابق، فصل: مفهوم التسوية في القرآن الكريم.
[49] في ظلال القرآن، تفسير سورة الانفطار.
[50] للاستزادة حول لفظة “الزينة” راجع صغيري، فصل: مفهوم الزينة في القرآن الكريم.
[51] الراغب الأصفهاني، مرجع سابق، مادة: زين.
[52] السجستاني، سليمان بن الأشعث. سنن أبي داود، تحقيق: عزت عبيد الدعاس، وعادل السيد، بيروت: دار ابن حزم، ط1، 1418ه/1997م، كتاب: الصلاة، باب: استحباب الترتيل بالقرآن، ج2، حديث رقم 1468، ص105.
[53] التميمي الدارمي البستي، محمد بن حبان. صحيح ابن حبان (بترتيب ابن بلبان، علاء الدين علي بن بلبان الفارسي)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1414ه/1993م، كتاب: إخباره عن مناقب الصحابة، باب: ذكر قول أبي موسى للمصطفى صلى الله عليه وسلم أن لو علم مكانه لحبَّر له، ج16، حديث رقم 7197، ص170.
[54] الصنعاني، عبد الرزاق بن همام. المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: منشورات المجلس العلمي، ط1، 1390ه/1970م، كتاب: الصلاة، باب حسن الصوت، ج2، حديث رقم 4173، ص484.
[55] الحديث: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس”. مسلم بن الحجاج. الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركائه، ط1، 1412ه/1991م، كتاب: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، حديث رقم147، ص93.
[56] لسان العرب، ج13، فصل: الجيم، مادة: جمل.
[57] الزرعي، محمد بن أبي بكر بن أيوب (ابن قيم الجوزية). الفوائد، تحقيق: محمد عزير شمس، مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، 1436ه/2015م، ص265.
[58] الغزالي، الإحياء، ربع العادات، كتاب آداب السماع والوجد، ج2، ص280.
[59] قلعه جي، عبد الفتاح رواس. مدخل إلى علم الجمال الإسلامي، دمشق: دار قتيبة، ط1، 1991، ص25.
[60] الإحياء، ربع المنجيات، كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، ج4، ص298.
[61] النميري الحراني، أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية). الاستقامة، تحقيق: محمد رشاد سالم، المملكة العربية السعودية: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ج1، 1411ه/1991، ص367.
[62] ابن قيم الجوزية، روضة المحبين ونزهة المشتاقين، تحقيق: محمد عزير شمس، مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، 1436ه/2014م، باب في ذكر فضيلة الجمال وميل النفوس إليه على كل حال، ص221.
[63] تفسير سورة الصافات.
[64] الإحياء، ربع المنجيات، كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا، ص298.
[65] الأنصاري، فريد الدين. الفطرية: بعثة التجديد المقبلة، القاهرة: دار السلام، ط2، 2013م، ص97- 98.
[66] صحيح البخاري، كتاب: الغسل، باب: فضل من بات على الوضوء، حديث رقم 247 من رواية البراء بن عازب، ص 70.
[67] صحيح البخاري، كتاب: اللباس، باب: قص الشارب، حديث رقم 5889، ص1148.
[68] صحيح البخاري، كتاب: المظالم، باب: لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه، حديث رقم 2442 من رواية عبد الله بن عمر، ص460.
[69] للسفر في جماليات اللون في القرآن، انظر: خليل، الغايات المستهدفة للأدب الإسلامي، فصل رحلة مع اللون في كتاب الله.
[70] نشير إلى أن مفهوم “الجليل” من المواضيع الجمالية في الفلسفة الغربية وفي فلسفة التوحيد، إلا أن مقام المقال هنا لا يتسع لبسط هذا المفهوم وما يتعلق به من موضوعات الطبيعة المعرفية والرؤية الفلسفية والنظرية الجمالية (الإجتماعية أو الفنية) …
[71] الفوائد، مرجع سابق، ص29.
[72] انظر قلعه جي في تتبعه لمواطن الحركة في الصور القرآنية مظهرة جماليات هذه الحركة وتلاوينها ودلالاتها ووظائفها، “حتى لتسمع حركة عسعسة الليل وحركة تنفس الصبح وصوت جريان الأنهار”. حيث عدّ أن منطلقات الوعي الجمالي الإسلامي هي: التوحيد والوحدة والحركة. مرجع سابق، ص31- 34.
[73] صحيح البخاري، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى {يريدون أن يبدلوا كلام الله}، حديث رقم 7498 من رواية أبي هريرة، ص1429.
[74] الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”. البوصيري، أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل. إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، تحقيق: عادل بن سعد، وسيد بن محمود بن إسماعيل، الرياض: مكتبة الرشد، ط1، 1419ه/1998م، كتاب: الإجارة، ج4، حديث رقم 3956، ص333.
[75] “بالذوق الجميل الذي ينطبع في فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نــزوعاً إلى الإحسان في العمل، وتوخياً لكريم العادات”، كما يقول بن نبي في عدّه الجمال المكون للذوق العام عنصراً ضمن عناصر؛ الأخلاق والمنطق العملي والفن التطبيقي التي تلعب جميعها دوراً اجتماعياً مهماً على اعتبار أنها أساسية يتخذ منها الشعب دستوره للحياة المثقفة. شروط النهضة، ص91- 92.
[76] صحيح ابن حبان، كتاب: البر والإحسان، باب: الإخلاص وأعمال السر، ج2، حديث رقم 394، ص 119.
[77] روضة المحبين ونـزهة المشتاقين، مرجع سابق، باب: 19. وانظر الأحاديث التي أوردها ابن القيم للدلالة على ذلك، ص323-325. والله سبحانه كمّل للرسول صلى الله عليه وسلم مراتب الجمال ظاهراً وباطناً. ص336.
[78] وعلى صعيد اللغة يؤكد علماء الإسلام وفقهاء اللغة العربية على الشكل والمضمون، وعلى العلاقة الباطنية القائمة بين الألفاظ والمعاني. يقول الشاطبي (590ه/1194م) إن العرب “إنما عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود”. الموافقات، تقديم الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، ضبط وتقديم وتعليق مشهور بن حسن آل سلمان، السعودية: دار ابن عفان، ط1، 1997، ج2، ص138.
[79] البزار، أحمد بن عمرو بن عبد الخالق. البحر الزخار (المعروف بمسند البزار)، تحقيق: عادل بن سعد، المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، 1427ه/2006م، باب: ما روى شريك بن أبي نمر عن عطاء، ج15، حديث رقم 8750، ص 270.
[80] سنن أبي داود، كتاب: الأدب، باب: في شكر المعروف، ج5، حديث رقم 4811 من رواية أبي هريرة، ص102.
[81] صحيح مسلم، كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، حديث رقم 65 من رواية أبي هريرة، ص 703.
والحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس، إنَّ الله طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيباً، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين”، قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟”.
[82] بن نبي، مالك. شروط النهضة، ص100- 101.
[83] السابق، ص102. ويضيف أن “الثقافة الغربية قد ورثت ذوق الجمال من التراث اليوناني الروماني. أما الثقافة الإسلامية فقد ورثت الشغف بالحقيقة من بين ميزات الفكر السامي”، ص103. ومن هنا فإن حركة “الفن للفن” قامت حين أعطت الأولوية للذوق الجمالي لا للالتزام الخلقي أو “الأدب الملتزم” في المجتمعات التي تقدم الأخلاق بصورة ما على الجمال. على حد تعبيره. انظر ص104.
[84] إعلام الموقعين عن رب العالمين، قدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، السعودية: دار ابن الجوزي، ط1، 1423ه، ج4، ص337.
[85] الموافقات، شرحه وخرج أحاديثه: عبد الله دراز، وضع تراجمه: محمد عبد الله دراز، خرج آياته وفهرس موضوعاته: عبد السلام عبد الشافي محمد، القسم الثالث: كتاب المقاصد، المسألة الأولى، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1425ه/2004م، ص221.
[86] المرجع السابق، ص221.
[87] السابق، المسألة الرابعة، ص226.
[88] السابق، ص231. قارن بناء طه عبد الرحمن على نظرية الشاطبي في أن القيم المصنفة ضرورية تتشارك وتتداخل معها قيم الحاجيات وقيم التحسينيات، فـ”تحريم الزنا الذي يُعد حكماً شرعياً {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} يحقق قيمة ضرورية، وتحريم النظر إلى عورة المرأة {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} الذي يعد حكماً يحقق قيمة حاجية وتحريم تبرج المرأة {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ} الذي يعد حكماً يحقق قيمة تحسينية، تشترك كلها في حفظ النسل”. انظر: “مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة”، مجلة المسلم المعاصر، عدد خاص بمقاصد الشريعة، جمعية المسلم المعاصر، عدد 103، سنة 26، 1422ه/2002م، ص50.
[89] الموافقات، حاشية رقم3، ص223.
[90] صغيري. علم الجمال، ص40 وما بعدها.
[91] وهو طرف من حديث سبق تخريجه. انظر الحاشية رقم 81.
[92] النسائي، أحمد بن شعيب بن علي. السنن، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط1، 1408ه/1988م، كتاب: عشرة النساء، باب: حب النساء، حديث رقم 3940 من رواية أنس بن مالك، ص609.
[93] وربما في ذكر النساء مع جمالين جمال دنيوي، الطيب الذي يُجمل الرجل ظاهراً وجمال أخروي، الصلاة التي تُجمله روحاً، إشارة جميلة لطيفة في جمعهن للتناغم بين الجمالين الظاهري والباطني.
[94] سنن أبي داود، كتاب: الأدب، باب: في صلاة العتمة، ج5، حديث رقم 4985، ص165.
[95] خُذ مثالاً مستشفى جديد في مدينة كبيرة، يغريك حُسنه من شدة الإتقان في صنعة البناء، الأشجار تسوره بمساحات واسعة، الخدمات من مقاهي ومطاعم حتى ملاعب أطفال مأخوذة بحسبان هندسته المعمارية. ذو بهو كبير ونظيف وممرضون وممرضات وأطباء وكأنهم ملائكة تمشي على الأرض، من حيث الشكل مليء بالتحسينيات الجمالية التي تزيده جمالاً على جمال. لكن وقفة واحدة مع مقاصد المستشفى في أصل وجودها كمكان لخدمة المرضى ومساعدتهم على تخفيف آلامهم والعمل على مداواتهم تأخذك إلى عالم آخر من واقعية تُدفع ضريبة العيش في المدن الكبرى؛ التقيد ببيروقراطية مقيتة، وآليات عمل مبرمجة طوّعت الإنسان نفسه (العامل والممرض والطبيب) وخلقت منه آلة تتحرك بحركات خالية من الروح والملائكية، بدءاً من استقبال المرضى في غرف الإسعاف وإجراءات التسجيل الطويلة والدفع قبل القيام بأية مداخلة طبية إلى الاعتذار من أهل المريض لعدم وجود سرير فارغ بعد مرور أكثر من 24 ساعة! وفي غمرة انتظار عربة إسعاف تنقل مريضك إلى مستشفى آخر وفي ظل الازدحام والسباق مع الزمن تستفيق على حقيقة أن ملاك الموت كان أسرع وأرحم من “ملائكة الأرض جميعهم”. فلا أدري أية قيمة للتحسينيات العمرانية إن فوتت حياة البشر؟
[96] يعترض الحداثيون الإسلاميون على أن الشاطبي عدّ الأخلاق والجمال من التحسينيات. ولكن هذه سوء قراءة للشاطبي، فهو عدّ الأعمال الحسيّة الصغيرة من التحسينيات، وينبغي أن لا يكون هناك خلاف في ذلك، ولكن هذا لا يعني أن أصل هذا الحسّ هو أعلى رتبة. على أنه ربما لا نستطيع الإنكار أن مقاصد الشاطبي صيغت خصوصاً حول الأحكام التكليفية وليس حول المفاهيم الكلية.
[97] خُذ على سبيل المثال جمال العمران ومقاصده عند تخطيط المدن وهندستها في بلادنا وإهمال العمل بشكل جاد على طهارة الأماكن من القاذورات الحسية والمعنوية. فما نجده في إدراج الثكنات العسكرية ضمن المدن الكبيرة وفي قلب الأحياء السكنية، يكاد يكون مقصوداً لإيقاع الأذى والضرر. فوجودها ووجود السجون ‑إن سلمنا بضرورة وجودها في ظل دول الاستبداد‑ خارج الأحياء السكنية بعيدة عنها هي مصلحة قد تكون تحسينية-جمالية في ظاهرها لكنها في زمن الثورات كادت تصل إلى الضرورية في حفظ النفس وكرامتها، وقتئذ وُظفت مراكزاً للاعتقال ضمن أحياء سكنية مشهورة، ونقاطاً للتجسس ولنشر أعين مخابراتية وفزاعات ترهيبية لكل فرد ولكل حركة يقوم بها المواطن حتى طالت أمنه وأمن عرضه وكرامته وحريته في تحركاته وسكناته في حيّه وسكنه.
[98] قلة قليلة من الباحثين من تناول جمال الرجل والمرأة الخاصين في المفهوم القرآني والسنة النبوية بشيءٍ من التفصيل، فالغالب تناول جمال الإنسان بشكل عام. وهو مجال بحثي مهم ‑في نية الباحثة تخصيص وقت له بإذن الله‑ ويحتاج جهداً كبيراً مخلصاً كي تُنقى عقولنا ما علق فيها من تشوهات وأفكار منحرفة عن علاقة الرجل بالمرأة التي تعكس جمالاً خاصاً لكل منهما. وقد وقع بين أيدينا ونحن بصدد إعداد هذه الورقة حديثٌ عن جمال الرجل والمرأة من حيث الوظيفة والطبيعة فقط، مع مقارنة بينهما في البنية المعرفية الغربية والبنية المعرفية الإسلامية. انظر الشامي، صالح أحمد. ميادين الجمال في الظاهرة الإسلامية، مرجع سابق، ص195- 205.
[99] صحيح ابن حبان، كتاب: الرقائق، باب: الأدعية، ج3، حديث رقم 876 من رواية سلمان الفارسي، ص160.
[100] النيسابوري، أبو عبد الله الحاكم. المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مركز البحوث وتقنية المعلومات، القاهرة: دار التأصيل، ط1، 1435ه/2014م، كتاب: الإيمان، ج1، حديث رقم 58 من رواية عبد الله بن عمر، ص250.
[101] القزويني، محمد بن يزيد بن ماجه. السنن، تحقيق: مركز البحوث وتقنية المعلومات، القاهرة: دار التأصيل، ط1، 1435ه/2014م، أول أبواب الزهد، باب: الحياء، ج 4، حديث رقم 4215 من رواية عبد الله بن عباس، ص67.
[102] صحيح البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الخضر، حديث رقم 3404 من حديث أبي هريرة، ص654.
[103] ربط الجمال بالجاذبية الجنسية أتت مع فرويد، ذلك أن تشويه المفاهيم طال مفهوم الأنوثة نفسه، فعُدت المرأة ذات الجاذبية الجنسية أنها ممتلئة الأنوثة، لذلك هي جميلة! فالمرأة في تلك الحضارة “لم تعد شخصية ولا حتى كائناً إنسانياً، وإنما هي لا تكاد تكون أكثر من ’حيوان جميل’”، وفق قول بيجوفيتش، مرجع سابق، ص255.
[104] إشارة إلى ما دَرَج عليه الرجل المسلم “العصري” من تقليد الغربي في لبس البنطال الضيق الواصف لعورته وغيره مما يعرفه الرجال العصريين.
[105] بوصفها أخت المسلم الذي استخلفه الله في هذه الأرض تحقيقاً للشهود على الناس فهي كذلك شاهدة مستخلفة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. راجع فقرة “المسلم بين جمالين؛ الكتاب المقروء والكتاب المشهود”.
[106] بيجوفيتش، مرجع سابق، ص154.
[107] ولنتأمل الأثر الموقوف على عمر بن الخطاب، عن مكحول الدمشقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أهل الشام: أن علموا أولادكم الرماية والسباحة والفروسية. هي رياضات تجمع مقولات الجمال والمنعة والشجاعة والمتعة والمجاهدة في العمل. الحافظ، إسحاق بن أبي إسحاق القراب. فضائل الرمي في سبيل الله تعالى، تحقيق: مشهور بن حسن سلمان، الأردن: مكتبة المنار، ط1، 1409ه/1989م، رقم 15، ص56.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى مصنف ابن القيم الموسوم بـالفروسية المحمدية، حيث يعرض فيه للفروسية الشرعية وأنواعها وأحكامها. فالفروسية كما يقول: “من أشرف عبادات القلوب والأبدان، الحاملة لأهلها على نصرة الرحمن وسائقة لهم إلى أعلى غُرف الجنان”. وهي فروسية العلم والبيان، وفروسية الرمي والطعن. تحقيق: زائد بن أحمد النّشيري، مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، 1428ه، ص7.
[108] حنش، نظرية الفن الإسلامي، مرجع سابق، ص17. وانظر في كتابه حيث بحث في مفهوم ومصطلح نظرية الفن الإسلامي، ومسألة تأثر موضوعات الفن الإسلامي بالرؤية الاستشراقية التي ألقت بظلالها على فهم الإبداع الفني الإسلامي وعلى تفسير نظرياته الفلسفية والجمالية فهماً غربياً محضاً، ثم بحث في الوحدة والتنوع في نظرية الفن الإسلامي، وعرّج على نظرية الفن الإسلامي عند إسماعيل الفاروقي، وبحث في تواصلية الفن الإسلامي (النظرية والتطبيق)، والنظرية المعرفية لفن العمارة الإسلامية.
[109] حنش، المرجع السابق، ص71- 72.
[110] الخادمي، نور الدين. “الفنون والمقاصد”، ضمن الندوة العلمية: الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، اسطنبول، نوفمبر 2016.
[111] قلعه جي، مرجع سابق، ص59.
[112] الخادمي، مرجع سابق. قارن مع الشامي في ميادين الجمال في الظاهرة الإسلامية، حيث فنّد الأسس العامة التي يرتكز إليها الفن الإسلامي، مرجع سابق، ص213- 216.
[113] الفاروقي، إسماعيل. “التوحيد والفن: نظرية الفن الإسلامي”، مجلة المسلم المعاصر، العدد 25، (مارس 1981).
[114] حنش، نظرية الفن الإسلامي، مرجع سابق، ص155. ويحدد معنى التواصل بأنه “خطاب معرفي عام وشامل لثقافة الإنسان وحضارته.” ص158.
[115] قلعه جي، مرجع سابق، ص73.
[116] الفاروقي، “التوحيد والفن”، مرجع سابق. كذلك انظر في كتابه التوحيد ومضامينه، ص311 + ص318 – 319.
[117] وشرحاً لهذه الفكرة يقول: “فعدم وجود شيء في الطبيعة يصلح أن يكون أداة معبرة عن الذات القدسية، لا يمنع في حد ذاته، أن يكون هناك شيء ما في الطبيعة يمكن أن يعبر عن هذا المنع المؤكد ذاته؛ أي أن يعبر عن أن الذات الإلهية منـزهة، أنها حقيقة لا نهائية لا يمكن التعبير عنها. مفهوم التعبير عن الذات المقدسة أنها لا يمكن التعبير عنها شيء، والتعبير عن الحقيقة الجميلة المتضمنة لتلك الحقيقة الفكرية شيء آخر“. “التوحيد والفن”، مرجع سابق. عبقرية الفنان المسلم يعدها الفاروقي أنها “فتح معرفي إسلامي في علم الجمال”. انظر كذلك في كتابه التوحيد ومضامينه، ص310.
[118] حنش، نظرية الفن الإسلامي، مرجع سابق، ص84- 85.